مدرسة الأنانية ومحبة الذات تعاليمها الفوضوية الغريبة

 بقلم هاني بعل

النشرة الرسمة للحركة القومية الاجتماعية،

(وعدنا الرفقاء قراءة النشرة الرسمية، في العدد الماضي، بنشر شيء عن المذهب الأناني الفوضوي المنعوت “بالوجودية” التي أبدل فايز صايغ لفظ “الكيانية” بها. وإننا نفي بالوعد).

ليس ما نريد أن نقوله الآن دراسة تحليلة كاملة لجميع تفاصيل مذهب الأنانية الفوضوية، بل هو إظهار نقاط ارتكاز لها تدل دلالة واضحة على اتجاهها الفوضوي الأناني الهدّام للأمة والقومية، وعلى مصدر الفكر الذي نقله إلى العربية فايز صايغ، وإذاعه في أوساط الحزب القومي الاجتماعي، كما لو كان يذيع تعليماً خاصًّا به.

إنّ الكاتب الذي اعتمده المطرود فايز صايغ ونقل أفكاره وبثّها في أوساط الحزب القومي الاجتماعي هو نقولا برديايف. وأهم ما نقله عنه فايز صايغ كان من كتابه العبودية والحرية المطبوع في لندن 1944. وفي مكان آخر يرى القارئ مقابلة موجزة جدًّا بين أفكار برديايف والعبارات التي نقل بها فايز صايغ تلك الأفكار. ولو أنه كان لنا وقت وكان موضوع فايز صايغ يستحق كل هذا العناء لعمدنا إلى قراءة كل كتب برديايف التي جمعها فايز صايغ وجعلها مع كتب أخرى زاده للكتابة، ولكننا سنكتفي بنقاط ارتكاز لمذهب الشخصية الفردية الأنانية الفوضوية من كتاب برديايف المذكور، وهي النقاط التي تسرّبت إلى أوساط القوميين الاجتماعيين عن طريق عمدة الثقافة وعمدة الإذاعة اللتين تولاهما فايز صايغ، بالاتفاق مع نعمة ثابت على خيانة الزعيم والقضية القومية الاجتماعية.

المرتكز الأول لمذهب الفردية

إنّ نقطة الارتكاز الأولى لمذهب الفردية القائل: بأن كل فرد هو شخص وبالتالي هو شخصية هي دينية تجعل الفرد منبثقاً رأساً من الله وليس من النوع الإنساني أو المجتمع الإنساني، أو بواسطة النوع الإنسان أو المجتمع الإنساني. وإليك ما يقول برديايف في كتابه العبودية والحرية (لندن، 1944):

“الشخصية (الفردية) ليست جزءاً من المجتمع كما أنها ليست جزءاً من السلالة” (ص 26).

“الشخصية (الفردية) لا تنشأ من العائلة والنظام الكوني، إنها ليست مولودة من أب وم، أنها تنشأ من الله، فهي تظهر من عالم آخر” (ص 36). ولتثبيت هذا المبدأ ضد الحقائق العلمية يحتاج برديايف، في فوضويته، إلى إنكار قيمة العلم والنتائج الأكيدة التي توصل إليها العلماء وفلاسفة العلم، فيقول متسرعاً (ص 26 من كتابه) “جميع تعاليم علم الاجتماع عن الإنسان هي غلط (!!!) إنها لا تعرف غير الطبقة السطحية المأخوذة بمثابة وضع للإنسان”. ثم ينكر قيمة الفلسفة الاجتماعية وفلسفة الحياة (البيولوجية) لأنها لا تعتبر كل شخص شخصية مستقلة منبثقة رأساً من الله؛ فيقول في نفس المكان المذكور فوق: “الفلسفة الوجودية فقط (أي فلسفة الشخصية المعدودة عنده مركز الوجود)، وليس الفلسفة الاجتماعية أو الفلسفة الحيوية، تقدر أن تبني تعاليم الإنسان من حيث هو شخصية” وهذا يوازي قولنا إنه: بما أنّ موضوع الإنسان، في نظر الفلسفة “الوجودية”، هوموضوع شخصي فكل فلسفة أخرى تخرج عن هذا الموضوع تكون فاسدة! ولذلك يقول برديايف إنّ العلم وحقائقه وكل فلسفة تبنى على حقائق العلم هي غلط من أساسها!

وهكذا تكون التصورات والافتراضات المتسلسلة بمعزل عن العلم، التي تعيد الانسان إلى أزمنة التكهنات والتخرصات، هي وحدها أساس الفلسفة الصحيح!

المرتكز الثاني

ولما كانت الشخصية (الفردية) منبثقة رأساً من الله من غير واسطة النوع الإنساني ومن غير واسطة المجتمع كان اتحاد الفرد في المجتمع وروحيته ونظامه قضاء على شخصيته. ولذلك وجب أن يكون لهذا المذهب اللاوجودي، المنعوت خطأ بالوجودية نقطة ارتكاز ثان هو: رفض الاتحاد في المجتمع، والتمرد على واجبات المجتمع.

أنظر ما يقول برديايف، في كتابه المذكور: (ص 28) “إنّ تحقيق الشخصية (الفردية) لذاتها (والشخصية هي شخصية كل شخص – كل فرد)، شيء يفترض أي يشترط المقاومة، إنه يقتضي مصادمة مع قوة العالم الاستعبادية – إنه يقتضي رفض التوافق مع العالم”.!!

النزعة الفردية في أشد غلوها، والسلبية الاجتماعية في أشد عماوتها، هما المرتكز الثاني لمذهب الشخصية الفردية الفوضوية.

تبلغ هذه النزعة الفردية السلبية حدًّا بعيداً جدًّا، يصعب عنده التوفيق بين المجتمع والفرد، نفسيًّا، إلا على أساس إخضاع المجتمع للفرد وجعله “جزءاً من شخصيته”، إلى هذه النتيجة يصل قول برديايف المتقدم وقوله الآتي: “وقد يقال إنّ المجتمع والطبيعة يقدّمان المواد لتكوين الشخصية (الفردية). ولكن الشخصية هي تحرر من الاعتماد على الطبيعة ومن الاعتماد على المجتمع والدولة. إنها تقاوم كل تعيين لها من الخارج، إنها تعيين من الداخل. حتى من الداخل هي تعيين ذاتي، حتى أن الله نفسه لا يقدر أن يحدثه. الشخصية (الفردية) هي المركز الوجودي المطلق فهي تقرر نفسها من الداخل، في معزل عن كل العالم الوضعي” (ص 26).

من كلام برديايف يتضح أنّ الفردية تقف موقفاً سلبيًّا نافراً من الطبيعة ومن المجتمع ومن الدولة ومن الله الذي تنبثق منه رأساً الشخصية الفردية!

إنّ مذهب الشخصية الفردية مذهب سلبية دائمة ومقاومة مستمرة تدفع الفرد دائماً إلى المخالفة والمقاومة من أجل تثبيت شخصيته وخشية أن يكون في قبولها لأي فكرأو حكم أو تقليد ما يمكن أن يُشتم منه أنه قبول لتقرير من المجتمع أو الدولة او الله! خالف تعرف! هذا مزية الشخصية الفردية! خالف تعرف وخالف دائماً لتعرف دائماً! هذه هي القاعدة الذهبية لهذا المذهب الغريب.

ويصل الأمر إلى تفاصيل غريبة نضرب صفحاً عنها ولكننا نأخذ مثلاً منها: إذا قرأ أحد القائلين بمذهب الفردية فكراً لمفكر وأعجبه واعتنقه، وجب أن يحرص كل الحرص على أن لا يظهر بمظهر المقتبس والتابع فيمكنه أن يستولي على الفكر كله استيلاء ويدعيه لنفسه!

المرتكز الثالث

تكون نقطة الارتكاز الثالثة في مذهب الشخصية الفردية: ولاء الفرد لنفسه فقط – لشخصيته وحدها!

لننظر في ما يقول برديايف في هذا الصدد: “الشخصية (الفردية) هي الحرية والاستقلال عن الطبيعة أو المجتمع أو الدولة” (ص 35). “الشخصية (الفردية) ليست مظهراً في جملة مظاهر. الشخصية هي غاية في نفسها، لا واسطة لغاية، فهي توجد من ضمن نفسها” (ص 34) “كل شخصية (فردية) هي غاية في نفسها” (ص 39) “كل شخصية (فردية) لها عالمها الخاص” (ص 40).

ومع أنّ مذهب برديايف يقول بأن الشخصية الفردية هي من الله رأساً، فهو ينكر أنها مخلوقة من الله. إنها تخلق ذاتها. “الشخصية (الفردية) تخلق نفسها وتوجد بمصيرها الخاص” (ص 23).

في هذه النظرة الفردية المحدودة، الإنسان هو الفرد فقط: “إنّ قضية الإنسان أي قضية الشخصية (الفردية) هي سابقة لقضية المجتمع” (ص 26)، أي أنّ قضية الفرد فوق قضية المجتمع ومتقدمة عليها. “الإنسان، الشخصية الإنسانية (الفردية) هي القيمة العليا وليس المتحد”. “ليس الواقع المجموعي الذي يخص العالم والوضعي كالمجتمع أو الأمة أو الدولة أو المدنية أو الكنيسة. هذا هو مقياس القيم الشخصي (الفردي)” (ص 28).

ويقضي الولاء المطلق للأنانية، ليس فقط أن لا يكون الفرد جزءاً من المجتمع، وأن تكون قضيتها فوق قضية المجتمع، بل أن يكون المجتمع جزءاً من الشخصية الفردية، وكذلك النظام الكوني كله!: الشخصية (الفردية) هي ذات (فاعلة) وليست وضعاً (مفعولاً) في جملة أوضاع، وأن جذورها لفي خطة الوجود الداخلية، أي في العالم الروحي، عالم الحرية. أما المجتمع، من الجهة الأخرى، فوضع (مفعول) المجتمع، من وجهة نظر الوجودية، جزء من الشخصية (الفردية) فهو ناحيتها الاجتماعية كما أنّ الكون (كزمص) (Cosmos) هو جزء من الشخصية، “فهو ناحيتها الكونية” (ص 26).

ولما كانت شخصية الفرد هي “القيمة العليا والمركز الوجودي المطلق” وكانت غايتها “تحقيق نفسها”، كان المجتمع، بالنتيجة، تابعاً وواسطة لها. “المجتمعع والطبيعة يقدّمان المواد لتكوين الشخصية”. “يجب على الشخصية (الفردية) أن تبني نفسها، وتغني نفسها وتملأ نفسها بما في العالم، وأن تحقق الوحدة في الكلية على طول حياتها” (ص 23).

من أجل أنّ شخصية الفرد هي “القيمة العليا” ومن أجل أنّ المجتمع واسطة لها وجب احتقار المجتمع: “من بعض الوجوه، الكلب والهر هما، في الحقيقة، شخصيتان وريثا حياة أبدية أكثر من الأمة أو المجتمع أو الدولة أو العالم كله”! (ص 42).

وإذا كان مبدأ الشخصية الفردية يعترف بوجود المجتمع فما ذلك إلا من أجل إبراز الشخصية: “إنّ من خصائص الشخصية (الفردية) أنه لا يمكنها كبت نفسها أو كفاية نفسها، إنّ أحداً أو شيئاً أو شيئاً آخر ضروري لوجودها، شيئاً أعلى أو مساوياً أو أدنى؛ بلا هذا يستحيل الإحساس بالفرق (!!) ولكنني أعود إلى تكرار ما قلته، إنّ علاقة الشخصية الواحدة بغيرها، لا تعني أبداً علاقة البعض بالكل، حتى حين تكون علاقة بالأعلى. فالشخصية (الفردية) تبقى تامة فلا تدخل في شيء، حتى في علاقتها مع الآخر الأعلى” (ص 30).

لا يمكن، بموجب هذه النظرة، أن يكون هنالك حق عام للمجتمع على الفرد. إنّ للفرد فقط حقًّا خاصًّا على المجتمع. الشخصية الفردية تقدر أن تلاحق المجتمع ولا يقدر المجتمع على ملاحقة الشخصية الفردية!

المرتكز الرابع

المرتكز الرابع لمذهب الشخصية الفردية هو: الفوضى المطلقة.

يقول برديايف: “الشخصية (الفردية) هي كائن عاقل، ولكنها غير مقررة بالعقل ولا يمكن تعريفها بأنها سيارة العقل” (ص 24): ثم هو يقول: “ليست الشخصية (الفردية) مجرّد كائن مفكر، بل هي أيضاً كائن حر (أي منفلت من قيود الفكر – فوضوي). الشخصية هي كل تفكيري (غير المقيّد)، كل إراداتي (غير المقيّدة)، كل شعوري (غير المقيّد)، كل حركتي الخلاقة (أي كل الأفعال التي أرغب في القيام بها بعامل التصور غير المهذب وغير المقيّد بالمعقول والمقبول في المتجتمع) (ص 25)، إذ الشخصية الفردية، في عرف برديايف “هي الشذوذ وليست القاعدة” (ص 25)، إذ الشخصية الفردية، في عرف برديايف “هي الشذوذ وليست القاعد” (ص 23).

كل تعسف جائز ومستحسن في هذه الفوضى البديعة.

كل رغبة وكل شهوة وكل جماح هي من ضرورات “الحرية”. ولا تحقيق للشخصية الفردية إلا بهذه الفوضى. فالشخصية الفردية لا تقوم إلا بالشذوذ والمخالفة وعدم التوافق مع العالم وبالتمرد والانفلات!

كل عقل وكل فكر يحدّ من “حرية” الشخص هو من “الوضع” الذي لا يليق بالشخصية الفردية.

المرتكز الخامس

لمذهب الشخصية الفردية مرتكز خامس أخير لا آخر هو: فلسفة النعامة. للنعامة فلسفتان: الأولى حين تزجّ رأسها في الرمل إذ يدركها الصياد. هذه فلسفة النعامة الشخصية الصغرى.

الثانية هي: قيل للنعامة، يا نعامة طيري! فقالت لست طائراً، إنما أنا جمل! فقيل لها يا نعامة احملي! فقالت لست جملاً، إنما أنا طائر!

هذه الفلسفة الثانية هي فلسفة النعامة الشخصية الفردية الكبرى الباهرة!

يقول برديايف في مقدمة كتابه إن الشخصية الفردية هي “عدم التغيّر في تغيّر”. ويقول أيضاً (ص 37): “لا يمكن للشخص أن يكون بكليته عضواً في العالم أو الدولة لأنه عضو في مملكة الله.. وهذا مرتبط بالواقع أنّ الإنسان (الفرد) كائن ليس في عالم واحد، بل في عالمين”!

بما أنّ الفرد يخصّ عالمين، لا عالماً واحداً، وجب أن يختار، بحسب مرتكز ولأئه لشخصيته، في أية مناسبة يحسن أن يكون ولاؤه، بعد نفسه ومن أجل نفسه فقط، لأحد العالمين دون الآخر. فمرّة يكون ولاؤه لعالم الملكوت ومرّة يكون لعالم الأرض!

الطريقة الأخرى لتطبيق فلسفة النعامة الثانية هي أن يكون المرء بوجهين ولسانين!

فلسفة عظيمة وسلوكية باهرة!

بيروت، المجلد، أ،
العددان 3 و4، 15/12/1947

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى