أخر الأخبار

آثارنا وتراثنا: معبد أشمون إله الشفا

تمتاز المدن السّوريّة بفيض حضاريّ ضرب جذوره مع أولى مغامرات العقل البشريّ الإنسانيّ، الرّوحيّ والمعماريّ، فجسّد شعبنا نِتاجه الإبداعيّ بطرقٍ شتّى، فبنى المعابد الّتي ترمز إلى عجلة حياته وتطوّرها، في كلّ بقعة استأنس بها لتحمل إرثه عبر الزّمن، وإمعانه في البحث عن المعرفة حتّى ما وراء المحسوس.ولعلّ معبد “أشمون” الوثنيّ الكنعانيّ الرّابض شمال شرقي صيدون (صيدا – جنوب لبنان) في بستان الشّيخ على ضفاف نهر الأوّليّ “بسترانو”(2)، والّذي يُعيدنا إلى القرن السابع قبل الميلاد من أهمِّ الآثار الكنعانيّة في المشرق، إضافة إلى معبد عمريت قرب طرطوس، حيث تعاقبت عليهما العديد من الحضارات كالكنعانيّة، الفارسيّة، الرّومانيّة والبيزنطيّة.ف”أشمون” هو إله الشّفاء عند الكنعانيّين – الفينيقيّين، ما حوّل المعبد إلى مركز ومستشفى يُعالج فيه أطفال المدن الكنعانيّة كافّة، أمّا من الجانب المعماريّ، فقد تميّز معبد “أشمون” بأحواض مائيّة عدّة، تُغذّيها قنوات جرِّ المياه من نهر الأوّليّ، ومن ينبوع مقدّس عُرِف بسم “إدلل”(3)، إذ كانت للأحواض وظيفة طقوسيّة دينيّة، طبّيّة وعلاجيّة، ومن أهمّ الأحواض المائيّة حوض “عشتروت” أو “عرش عشتروت” (4).هذا ويضمّ معبد “أشمون” قطعًا أثريّة قيّمة محفوظة اليوم في المتحفِ الوطنيّ في بيروت، كما يزخر بنواميس وتماثيل منقوش عليها بالفينيقيّة – الكنعانيّة تُوصلك بجذورها الضّاربة في عمق التّاريخ، ومعموديّة الجغرافيا، وتُخبرك التماثيل الرّخاميّة الصّغيرة الخاشعة المُمَثِّلَة لأطفال، عن طقوس العبادة آنذاك. ناهيكَ عن اللّوحات الفسيفسائيّة الجمّة، وأهمّها لوحة “الفصول الأربعة” القابِعة أمام الكنيسة البيزنطيّة، حيث لا تزال بقايا الأرضيّات الفسيفسائيّة تُزيّن الموقع إلى الآن.كما بيّنت الاكتشافات عن صورة ل”أشمون” على ورقة من ذهب، وهو يحمل بيده عصا يلتفّ حولها ثعبان، ما يدلّ على علاقته الوثيقة بالثّعابين، والّتي دمجت بين شخصيّة” أشمون” الفينيقيّ و”إسكليبيوس”(5) الإغريقيّ الرّومانيّ، إذ يُعتبر هذا الثّعبان الملتفّ حول العصا أساس شعار الطّبّ والصّيدلة المعتمد في عصرنا الحالي.تعرّض المعبد على مرّ التّاريخ لكوارث طبيعيّة عدّة، منها زلزال أصابه في القرن الرّابع قبل الميلاد، والّذي أسفر عن تهدّم الهيكل الرّخاميّ الّذي يتوّج المنصّة. ولم تتمّ إعادة بناء الهيكل بعد ذلك، لكن أُعيد جمع العديد من المصّليات والمعابد وضمّها إلى حرم المعبد الّذي بقي مكاناً للحجّ في العالم القديم حتّى ظهور الدّيانة المسيحيّة، إذ حُظرت عبادة “أشمون” وبُنيت كنيسة مسيحيّة في موقع المعبد عبر الشّارع الرومانيّ.

__________________________________________________________________

(1) أشمون: هو إله الشّفاء وتجدّد الحياة عند الكنعانيّين، كما كان الإله الرّئيسيّ لمدينة صيدا. كان أشمون في البدء من آلهة الطّبيعة والحياة النّباتيّة الرّبيعيّة، وقد تمّت مقارنته ومعادلته مع الإله البابليّ تمّوز. عُرف هذا الإله في العصر الحديديّ في صيدا وكان يُعبد أيضًا في صور وقبرص وسردينيا وبيروت وقرطاج.(2) بسترانو: هو النّهر الّذي كان يُطلق على نهر الأوّليّ ويُرجح أن تكون التّسمية تدّل على “بستان الشّيخ” حيث يقع معبد أشمون.(3) إدلل: هو النّبع الّذي يغذّي “حوض عشتروت” في حرم المعبد. كما ويمكن ملاحظة قنوات جرّ المياه مشغولة بحرفية وتقنيّة هندسيّة عالية الدّقّة.(4) عشتروت: آلهة الخصب لدى الفينيقيّين والكنعانيّين ويطلق عليها البابليّون أشتار وتانيت لدى القرطاجيّين وأفروديت لدى الإغريق.(5) أَسْقَلِيبِيُوس أو آسكليبيوس هو بطلٌ وإلهٌ الطّبّ في الميثولوجيا الإغريقيّة القديمة يمثِّل أسقليبيوس جانب الشّفاء من الفنون الطّبيّة والّذي كان يُعرف عند الكنعانيّين بالآله “أشمون”.

تصوير: الرفيق حسن فقيه
عمدة الثقافة والفنون الجميلة | دائرة الآثار والتراث

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى