أسباب وأسباب أيضاً

قلنا في المقالة السابقة إن الزعيم أراد، وقد بوغت بترجرج نفسية رشيد سليم الخوري وتبلبل أفكاره، أن يقوم بمحاولة أولى وأخيرة لإنقاذه من حمأة النفاق والزندقة التي أخذ يتمرغ فيها ويهبط غائصاً في أرضها الدلغانية، فكتب إليه كتابه البليغ المنشور في عرض المقالة السابقة. وكان ذلك قبل أن يقف على مبلغ تورطه في حمأة النفاق بدخوله في مسألة المعتقدات الدينية في خطبه و«محاضراته» التعصبية، وإثارته الفتنة بين أبناء أمتنا السيئة الطالع به وبأمثاله واستحقاقه القول: «الفتنة نائمة لعن الله موقظها». وقبل أن يقف على قصيدته التي نشرها بعنوان «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك». ومما لا مشاحة فيه أن الزعيم لو كان وقف على هذه القصيدة المثالبية لما كان أقدم على محاولته المذكورة، ولما كان كلّف نفسه عناء الكتابة إلى شخص زال من نفسه كل شعور بالكرامة الإنسانية فاندفع في طريق المثالب لا يبالي بشي جميل أو قبيح، لقاء إشباع شهواته.


وإن من تأمل في أبيات القصيدة المذكورة المعبرة عن نفسية الناظم تعبيراً صادقاً يكشف عن شهواتها الدنيئة التي تقز منها النفس، شعر أنه تجاه نفسية فقدت كل إدراك للقيم الروحية وكل شعور بجمال المثل العليا. وقد نشرنا في المقالة الثانية من هذه السلسلة أهم أبيات القصيدة المشار إليها. ومنها يظهر جليا أن رشيد الخوري لا يهمه شعور أي شخص آخر وإحساساته، ولا يهمه شي آخر غير قضاء لبانته منه فإذا قضاها، حتى ولو كان ذلك بواسطة التذلل والتزلف والمداهنة، وقف وقفة الجبان المنتصر وأخذ يباهي ويعتز. وأي جبن أذل من وقفة جبان غدر بفتاة ركنت إلى الثقة بضمير امرى فسلبها عاطفتها قسراً ثم وقف محتقراً شعورها، مزدرياً آلامها ونظم في حيوانيته القبيحة قصيدة حاول أن يضاهي بها قصيدة بشر بن عوانة بعد قتله الأسد! وأي جبان أنذل من جبان يعتز باستضعافه امرأة ويفاخر بغلبها بالحيلة والمراوغة والغدر.


وإن رجلاً لا يستنكف مع هذه القباحة مع امرأة ساقها نكد طالعها إلى الوثوق بوداده أية فضيلة إنسانية بقيت في قلبه؟ وماذا يقصد حين يقف متودداً إلى جماعة دينية، مثيراً الفتنة بينها وبين جماعة دينية أخرى؟ وإن الذي يحتقر سلامة نية امرأة وشعورها هل يحترم سلامة نية رجل وشعوره حين تكون له غاية خصوصية؟


أجل، إن الزعيم لو كان وقف على حقيقة نفاق رشيد الخوري وتدجيله الديني الذي سيجيء تحليله، لما كان خطر له، ولا في الحلم، أن يكتب إليه، لأن من بلغ في النفاق والتدجيل هذا المبلغ فقد أضله الله {أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً}1.


وظاهر أن الزعيم لجأ، في كتابه إلى الخوري، إلى الصراحة، فأشار إلى فساد السفسطائيين لينبّه «القروي» ويحمله على تجنب الوقوع فيه. وصرح له أنه لا يعلق أهمية ما على «شاعرية» الخوري الموهومة، وأنه يريد أن يرى فيه الصديق الحبيب ذا الأخلاق، الجديرة بالثقة. وأعلن له بصراحة نادرة المثال أنه غير راضٍ عن «شعره الوطني» السخيف وبيّن له الأسباب الجوهرية التي أوجبت عدم رضاه وأهمها: إهانته الأمة السورية التي ينتسب إليها تجاه أمة غريبة، وتحقيره السوريين وعدّهم عبيداً أذلاء وبثه روح القنوط والخيبة وفقد الثقة، إلخ. وقد تجنب الزعيم، ما أمكن، إبداء رأيه في «شاعرية» الخوري، لكي لا يصغر «القروي» في عين نفسه ويقع في مرض المكابرة العسير الشفاء. فواضح إذن أن الأسباب التي دعت الزعيم إلى كتابة كتابه المشار إليه إلى رشيد الخوري هي أسباب إصلاحية فيها قول الحق بصراحة وبما أمكن من اللطف.


وواضح أيضاً أن الزعيم لم يلجأ إلى خداع رشيد الخوري بعبارات دبلوماسية مفعمة بالإطناب الكلامي الفارغ «بشاعريته» كما فعل عدد من المشتغلين بالسياسة الشخصية، بقصد اكتساب مودة «القروي» واستغلال موقفه.


وإن الأسباب الجوهرية التي عمل بها الزعيم تختلف كل الاختلاف عن الأسباب التي دعت أمثال المير شكيب أرسلان وأمين الريحاني المتوفّى حديثاً إلى كتابة كتب دبلوماسية العبارة في مديح (الأعاصير). ولا حاجة للإطالة في أن هذه الكتب الدبلوماسية دعت إليها السياسة الشخصية. فقد ظهر من الأمثلة التي قدمناها في المقالات السابقة أن نظم «القروي» لا يمثل غير الصخب والعي والزحير. وإذا نظرنا إلى الحملة اللاذعة التي قام بها أمين الريحاني في خطب وفي كتابه (أنتم الشعراء) على الباكين والنائحين وجدنا أنه في كتابه إلى رشيد الخوري، قال غير ما يعتقد في الشعر ومدح الخوري لأسباب سياسية شخصية، لا لأسباب شعرية أو أدبية، وقس على ذلك.


ماذا كانت المقابلة من جانب الخوري لإغضاء الزعيم عن هفواته الأدبية وسقطاته الأخلاقية، ولمقابلته مواربة الخوري ورياءه بالصراحة والحق، ولاهتمامه بأمر إصلاحه وإنقاذه؟


كانت أن رشيد الخوري أخذ يمعن في اغتياب الزعيم والطعن به والدس عليه في أثناء تجواله التجاري في أنحاء البرازيل!


وإذا قابلنا بين كتاب رشيد الخوري إلى الزعيم والمطاعن التي كان يدسها بين معارفه ضد الزعيم، تبين لنا أن الخوري كان، في كل موقف، ذا وجهين ولسانين، فهو في كتابه يعترف أن سعاده هو «السوري الأبي الخليق بالزعامة». ولكنه كان يريد، قبل الإقدام على العمل «إلى جانبه»، أن يعرف «مدى رجاء الزعيم انتصار قضيته». وهذا يعني أنه لو رأى رشيد الخوري الجماعات السورية في المهجر تترك عنعناتها الدينية بسهولة وتقبل على النهضة القومية بسرعة لكان له موقف غير هذا الموقف. ثم هو يتظاهر بالغيرة على الحزب السوري القومي، ويدّعي أنه «كان ولا يزال يحاول تهدئة ثائر بعض الرفاق الناقمين ومنعهم بدالّة الإخاء عن إشهار الحرب على الحزب، خوفاً من أن يكون صوابه أكثر من خطأه فنضرّ من حيث نقصد النفع». وفي القسم الأول من عبارته شي يشبه التهديد كأنه لم يقرأ في (سورية الجديدة) قول سعاده المنشور تكراراً: «إني لا أريد انتصاراً بارداً، هيّناً دون حرب» وكأنه لم يقرأ أيضاً أن سعاده يرفض التوفيق بين النفسية الجديدة والنفسية العتيقة، ويرفض إيقاف الصراع بين جيلين «جيل قديم يريد مقوياً ينعش قواه المنهوكة ويساعده على الاستمرار في خصوصياته، وجيل جديد يريد سحق الخصوصيات ويشعر في قوّته القدرة على تنفيذ ما يريد».


إن الحركة السورية القومية التي هي حركة محاربة، مهاجمة لا تخشى «إشهار الحرب» من قبل بعض «رفاق» الخوري. ولكن رشيد الخوري كان مراوغاً ومنافقاً في ما يقول. ففيما هو يتظاهر بأنه لا يريد مقاومة الحزب السوري القومي، كان يدّس على الزعيم سراً ويعدّ العدة «لإشهار الحرب» على الحزب في «المحاضرة» التعصبية التي أعدها لمولد النبي محمد، وطعن فيها الإسلام والمسيحية معاً كما سيجيء!


وقد تقدم لنا القول إن أسباب الهوس «بالخلود» هي التي دفعت رشيد الخوري إلى الجهر بعداوته للحزب السوري القومي، الذي يعترف هو صراحة بجهله «صوابه وخطأه»، والذي يطعن عن جهل بداع غير داعي الحق ما هي قيمته؟ ولكننا قد اكتشفنا أسباباً أخرى هي أسباب سياسية، لا علاقة لها بالمبادىء والنظريات. وحقيقة أمر هذه الأسباب أن رشيد الخوري يخدع المير شكيب أرسلان، بمقدرته على استغلال فكرة المؤتمر السوري الذي نشرت (سورية الجديدة) منذ نحو سنة أو أكثر أن عناصر سورية قومية ولا قومية تسعى لعقده بمناسبة وجود زعيم قضية الشعب السوري وحقوقه في هذا المهجر. وأخذ يغري المير شكيب بمزاحمة الحزب السوري القومي على هذا المؤتمر. وفي الوقت عينه، وبعد أن نال شيئاً من التحبيذ، أخذ يشدد كلامه لإثارة فتنة التعصب الديني، خادعاً أحد الفريقين الدينيين أنه يفضل دينه على دين الفريق الآخر ليستند على حركة تعصب ديني يستغلها لمآربه المستورة، كما سيجيء درسه.
ولما كان رشيد الخوري عاجزاً، كما كان عاجزاً غيره، عن نقد مبادىءالحزب السوري القومي وإظهار أي ضعف فيها، فقد كانت دعاوته مبنية على الاختلافات التي لا يوجد نص أو حادث يثبتها. وكان الدس السري أهم سلاح استعمله للطعن في شخصية الزعيم. وقد أثبتنا في المقالة الأولى من هذه السلسلة نسخة من أهم أقوال الخوري ضد الزعيم والحركة القومية ولا بد لنا من تناولها هنا، لأنها أصبحت مثالاً لما يشيعه أعداء الحزب السوري القومي عنه.


من أهم مطاعن رشيد الخوري في الزعيم قوله: «ما معنى هجر سوري بلاده، تاركا وراءه امرأته وأولاده أليس هذا شأن أنطون سعاده، وقد ترك رفقاءه يتحملون ويلات الحالة الحاضرة في الوطن وجاء يتنقل سليماً في المهاجر الأميركية؟».


رشيد الخوري الذي هجر بلاده، بعد أن منّت عليه بكل سعاده، وهو يشتمها ويلعنها ويقول فيها: «أبيت جوارها أرضاً بغير الذل لا ترضى» وأمّ أميركية سعياً وراء الأرباح التجارية وأخذ يتجول للتجارة في أنحاء البرازيل يّعي أن هجره وطنه وسعيه وراء الربح الشخصي هو «تكريس نفسه لتحرير شعبه». ويقول في أنطون سعاده الذي جاء المهجر السوري عملاً بخطة مرسومة ومقررة في الحزب السوري القومي، حاملاً الحرب بين النهضة القومية و«النهضة الرجعية» إلى الجاليات السورية ليشق طريق العمل القومي الصحيح أمام عناصرها الجيدة، ويضرب بيد من حديد على أيدي تجار الوطنية وبضاعة الأدب الفاسد، إنه قد تخلى عن رفقائه في الوطن وجاء أميركة ليتنقل سليماً(!) فيها بينما رفقاؤه في الوطن يتحملون جور الحالة الحاضرة!


ولا يستحيــي رشيد الخوري من الحقائق التي تجي كل يوم بالشاهد تلو الشاهد على إفكه وبهتان قوله فقد أذاع الحزب السوري القومي في الوطن، بعد سفر الزعيم إذاعة رسمية تعلن للقوميين أسباب رحلته إلى أوروبة والمهجر. وهذه الإذاعة الرسمية وزعت في جميع أنحاء الوطن ونشرتها صحف في الوطن والمهجر. وقراءة هذه الإذاعة تثبت أن الزعيم على اتفاق تام مع رفقائه وأنه لم يتركهم ولا يتركهم ولن يتركهم وأنهم هم لم يتركوه ولا يتركونه ولن يتركوه.
أنحتاج، لإثبات هذه الحقيقة وتكذيب مطاعن رشيد سليم الخوري الأثيمة، إلى غير إذاعة الحزب السوري القومي نفسه المشار إليها، وغير البيان الذي أذاعه ناموس المجلس الأعلى العميد الأمين مأمون أياس ونشرته (الزوبعة) في أول عدد صدر منها نقلاً عن صحيفة (البشير) الصادرة في بيروت في الثامن من شهر نوفمبر/تشرين الثاني (1939م)؟
إننا نعيد، هنا، نشر الفقرتين الهامتين من البيان المذكور لكي لا يبقى وجه للتأويل المغرض:
«إنني أتحدى الصحافة أن تنشر صور الوثائق التي تدعي وجودها لتثبت أن مؤسسة الحزب السوري القومي تعمل لسوى المبادىء الصحيحة التي أعلنتها مراراً… أو تثبت أن للحزب علاقة بدولة أجنبية».


«إن السوريين القوميين عموماً يضعون بزعيم نهضتهم ثقة تامة لا تتزعزع، وإنني أصرح باسمهم أننا نشارك زعيمنا الحر كل مسؤولية يتعرض لها، إن سعاده والحزب السوري القومي وجميع القوميين يشكلون وحدة لا تتجزأ».
الإمضاء
مأمون أياس
الناموس الأول للحزب السوري القومي


والآن يمكن القرّاء أن يحكموا بين الحقيقة الصادرة من مراجع رسمية في الحزب السوري القومي والأكاذيب التي اختلقها رشيد سليم الخوري ليُظهر الزعيم بمظهر من قد تخلى عن رفقائه وتخلى رفقاؤه عنه وأن ينصفوا بين كلام سوري قومي حر، شجاع، وسوري لا قومي ذليل جبان.


وكم هو ظاهر اللؤم في قول رشيد سليم الخوري إن الزعيم «جاء يتنقل سليماً في المهاجر الأميركية» وليس أبعد عن الحقيقة المؤيدة بالوقائع من هذا الإفك. فقد تعرض الزعيم ويتعرض في المهاجر الأميركية لمثل ما تعرض له في الوطن من خيانة الخائنين وسعي الساعين أمثال رشيد الخوري. وقد سجن في البرازيل موقوفاً بتهم غريبة دسها دساسون سوريون أمثال «الشاعر القروي»، ولم يطل الأمر حتى أظهر التحقيق بطلانها. أيعقل أن رجلاً يعرف الحق، وهو غير لئيم، يعود، بعد قيام هذه البراهين الساطعة، إلى اختلاق مثل هذه الإشاعات المغرضة، الأثيمة؟
إننا نعلم أنه يسوء كل منافق دجال في الوطنية أن يوجد الزعيم في المهجر الآن يحارب حرب القضية القومية ويعمل على شق طريق الحركة القومية بين المهاجرين ويقضي على تدجيل الدجالين، ولكن ذلك ليس بمانع الزعيم من متابعة عمله.


ليقل لنا رشيد الخوري ماذا يعمل هو نفسه في المهاجر الأمريكية، غير المتاجرة بالبضاعة الصناعية وبصناعة الأدب وغير سرقة أفكار الآخرين ونظمها وانتحالها لنفسه، وليقل لنا كم مرة سجن ونفي واضطهد وذاق غير لذة الفخر بغدره بامرأة في ساعة ضعفها؟
هاني بعل
للبحث استئناف

،سورية الجديدة، سان باولو

العدد(107)، 5/4/1941

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى