أسباب وأسباب رسالة الزعيم إلى القروي

من قراءة النقد المستعجل لديوان (الأعاصير) خاصة «ولشعر» رشيد سليم الخوري عامة، الذي تقدم هذه المقالة، يدرك القارى الأسباب الجوهرية التي دعت الزعيم لمنع قراءة (الأعاصير) في الأوساط القومية، ودفعته إلى محاولة إنقاذ صديقه قديماً الذي كان أديباً بسلوكه، عارفاً حده قبل أن يأخذه الهوس «بالخلود»، رشيد سليم الخوري، فكتب إليه من الأرجنتين الكتاب الآتي نصه:
»صديقي العزيز رشيد سليم الخوري،
لم أسرع في أمر الكتابة إليك، لأن أموراً ملحةً كانت تتطلب عنايتي واهتمامي كل المدة التي مضت على مغادرتي سان باولو، والأمور الملحة في شعبنا المائع النفسية، المبلبل الفكر، كثيرة جداً ومعقدة جداً ويزيدها تعقداً كثرة من يعيث فيها من السفسطائيين والنفعيين والرجعيين المولّدين فوضى تضيع فيها المناقب والأخلاق والمواهب والمطالب.
كان سروري كبيراً بإعادة عهد صداقتنا الأولى، صداقة الثقة والحب والأخلاق، وهذه الصورة هي التي أريد أن أحتفظ بها لما فيها من دقائق جمال سوري نفسي. إنها صورة يمتزج فيها مظهر الوطني والشاعر امتزاجاً لا يؤثر على خصائصها المستقلة، وأنا أفهم الوطنية غير السياسة، وأفهم الشعر هنا غير المواضيع التي تعالجها الشاعرية.
إنك أهديت إليّ (الأعاصير) وأنا بعد في الوطن، لا يعرف أصدقائي الأُول عني سوى أني «أديب وطني»، ولكنك لم تتناول مني كتاب شكر أو تهنئة أو ترحيب، ولا رأيت لي مقالاً أو كلمة في ديوانك الجديد، كما كان ينتظر من «أديب وطني» وصديق للشاعر، ثم كان أنك أهديت إليّ نسخة ممتازة التجليد في سان باولو سأحتفظ بها ما أمكنني ذلك وسط هذا الاضطراب العظيم في حياتي وشؤونها.


إني أقدر هذه الهدية وأرى فيها روح الصديق الشاعر، ولا أكتمك أني لا أود أن أقرأ مقاطع معينة من (الأعاصير) كالتي تجعلنا أحقر من أن نهدي إلى الأندلس السلاما ولا تشير، ولو من طرف خفي، إلى القوى الكامنة فينا وقرب نهضتنا التي نؤمن بها، وعندما أقول «فينا« أعني نحن بالحقيقة، أي نحن السوريين الذين أنت أيضاً تعنيهم حين تقول «خبرينا كيف نقريك السلاما».


«إني أرى حال انحطاط شعبنا قد طغت على شاعريتك وخنقت الشعور بقوى الأمة السورية الكامنة وبوجود الطبيعة السورية. فخرجت (الأعاصير) وغيرها من شعرك الجميل شعراً جميلاً من حيث هو مظهر فني من مظاهر الشعور، ولكنه شعر مؤلم للنفس السورية المستفيقة لأنه شعر يصفعها ويرذلها ويحقرها ويزيد في إفقادها الثقة بنفسها. وكم وددت أن يتناولك الوعي القومي فتستفيق شاعريتك لنفسيتك السورية وللنفسية السورية بذاتها فيخرج لنا شعر آخر امتزج فيه الوعي بالشاعرية، فإذا هو مزيج متجانس تجانساً بعيداً ينتج حرارة لذيذة مقوية ونوراً هادياً، وهو غير المزيج الذي لا يولد غير اللهيب اللاذع، القاتل.


منذ آخر مرة تحدثت فيها معك في شؤون الوطن مرّ وقت تطور فيه الموقف تطوراً خطيراً، من نظرة تلقيها على الموقف الجديد تدرك أن جميع تقديراتي لمؤتمر مصر ومؤتمر لندن، في صدد مسألة جنوب سورية وغيرها من المسائل السياسية، قد أصابت كبد الحقيقة، وأتمنى أن تكون قد اقتنعت كل الاقتناع بأن القضية السورية هي قضية قومية يجب أن يقوم بها السوريون باعتبارهم أمة موحدة المصالح والحقوق والإرادة. وإنه إذا كان سياسيو الأقطار العربية يريدون نجاح قضيتنا فما عليهم إلا أن يؤيدوا مواقفنا، لا أن يتناولوا هم أنفسهم قضيتنا ويجعلوها جزءاً من قضاياهم الخاصة. ألم يؤلمك أن يتبادل وزير خارجية مصر ووزير خارجية تركية الأنخاب بزوال وحدة الشام وفكرة الوحدة السورية في الوقت الذي يسلّم فيه لواء الإسكندرونة الغني إلى الأتراك؟


قد قدرت موقفك في رد أكاذيب الذين أرادوا أن يستغلوا اسمك كما استغلوا أسماء غيرك للطعن في الحزب السوري القومي وزعيمه (إشارة إلى تكذيبه في (سورية الجديدة) ما نشر في صحافة الوطن من الأخبار المغرضة التي قالت الصحافة المذكورة إنها واردة في كتاب من السيد رشيد الخوري إلى أحد أصدقائه في الوطن) ووصول الموسى إلى ذقنك بجعلك تدرك بوضوح نوع السلاح الذي يحاربون به الحزب السوري القومي ونهضة الأمة السورية».


وتاريخ هذا الكتاب في (16) آب سنة (1939م). وقد ورد الزعيم جواب السيد رشيد سليم الخوري وهو مؤرخ في (20/9/1939م) وقد قلد فيه الخوري أسلوب الزعيم وانتحل بعض مواقفه. فقال إن كتاب الزعيم ورده وهو «في غمرة من الشؤون المرهقة التي لا تقبل التأجيل» وقلّده في الإشارة إلى تبلبل الحالة النفسية. وإننا نقتبس القسم الأخير من كتاب الخوري وهو القسم الذي له علاقة بالموضوع العام:
«لقد بسطت من أمري لك ما لا يهم غير الأصدقاء مثلك وفيه إقامة العذر لتأخر جوابي. ولا أكتمك أني كنت شديد الرغبة في معرفة أخبارك ومدى رجائك انتصار قضيتك التي أسفت أسفاً شديداً أنني لم أقتنع بصواب كل نظرياتها لأقف عليها جهدي الأدبي والروحي، وأرضي نفسي بالعمل لجانب الصديق الحميم القديم السوري الأبيّ الخليق بالزعامة. ولكني مع هذا الأسف أتعزى برباطتي واحتمالي الوخزات المباشرة وغير المباشرة من جانب بعض كتّاب الحزب، وإني كنت ولا أزال أحاول تهدئة ثائر بعض الرفاق الناقمين ومنعهم بدالة الإخاء عن إشهار الحرب على الحزب خوفاً من أن يكون صوابه أكثر من خطأه فنضر من حيث نقصد النفع ومرجع هذا التردد هو إلى سبب اختلاط الأمور وتشعب المذاهب السياسية وعدم استقرار الحالة في هذه الأيام البابلية.


إني بإهدائي كتابي إليك لم أفعل غير واجبي نحو كل أديب وخصوصاً إذا كان صديقاً، وأما نقدك بعض النقط الفكرية في شعري فأشكره لك بناءً على حسن ظني بغايتك وعسى أن يتاح لنا الاجتماع مرة أخرى ليتسع مجال القول في هذا الموضوع وسواه، فإلى اللقاء أيها الصديق بإذن الله .
أخوك المخلص
رشيد سليم الخوري

من مقابلة هذين الكتابين تتضح عظمة نفس الزعيم وقوة مناقبه وكرم أخلاقه، وينجلي موقف رجل مشوش الفكر مضطرب النفس يحاول التوفيق بين الضلال والهدى وترقيع حالة رثة ظهرت فيها الخروق وكشفت ما تحتها.
قلنا إنه كان قد بلغ الزعيم، وهو بعد في سان باولو، بعض ما كان رشيد سليم الخوري يغتابه به ولكنه لم يشأ أن يدع صديقه القديم ينحدر إلى هاوية المنافقين والزنادقة، من غير أن يحاول إنقاذه ورده إلى جادة الصواب وقد تحققنا أن رشيد سليم الخوري أنكر في حضرة الزعيم أنه يغتابه ويغتاب الحركة القومية واعترف فقط بموقف المتردد الذي يثبته في كتابه المتقدم. ومما يجدر بالذكرل أنه حين قدم الزعيم البرازيل، وبعد أن فرغ من الاستقبالات الأولى لوجوه الجالية السورية في سان باولو وأدبائها افتقد صديقه القديم رشيد سليم الخوري، فبلغه أنه مريض ملازم فراشه. فخفّ إلى زيارته والاهتمام بأمره فما كاد يستقر به المقام ويتطرق الحديث إلى المسألة القومية حتى قدم لزيارته الأديب السيد ميخائيل فرح صاحب «مكتبة فرح». وبعد جلوس هذا الأخير عاد البحث إلى المسألة القومية، فأخذ الزعيم يشرح حقيقة الحركة القومية ومراميها. وللحال أخذ رشيد الخوري يسأل لماذا «العداء للعرب والعروبة» الأمر الذي دل على أن الخوري كان يقبل بلا رواية أو فحص ما يختلقه أعداء الحزب السوري القومي عنه، فاستغرب الزعيم ذلك وشرح موقف الحزب من العالم العربي وأوضح أن غايته إنهاض سورية أولاً لتصير قوية وقادرة على معالجة شؤون العالم العربي البذي هي فيه، وأن مبادىءالحزب وشرحها تعلن أن سورية إحدى الأمم العربية وأنها لن تتنازل عن مركزها في العالم العربي وعن رسالتها إلى العالم العربي. وعتب على الخوري لقبوله الإشاعات من غير روية ولا بحث عن الحقيقة حينئذٍ اعتذر الخوري بأن المهاجرين كانوا يجهلون حقيقة الحزب السوري القومي وغايته، وأنهم قرأوا كتابات كثيرة ضده، وبهذا الاعتراف من الخوري غادره الزعيم وخرج معه السيد فرح الذي رافقه إلى مركز المدينة.


في الأيام التالية، بعد أن تعافى الخوري وأخذ يجتمع بإخوانه، أخذ يطعن سراً في الحركة القومية ويؤيد موقف المقاومين الذين كانوا يتخذون من الإشاعات الملفقة عن «عداوة» الحزب السوري القومي للعرب وللإسلام سلاحاً يحاربونه به عند العامة الجاهلة حقائق الأمور. وحين يجتمع بالزعيم كان يطري على مواهبه ومقدرته وجهاده، ويمدح الحزب السوري القومي وغايته بشي من المواربة و«دهاء» الدبلوماسية العتيقة. فكان الزعيم يحاول دائماً أن يجد في تردده ومواربته نتيجة قصر مداركه في الأمور الاجتماعية والسياسية وقلة علومه وسطحية تفكيره.
وبينما كان الخوري يدسّ على الزعيم في الأوساط البعيدة عنه، كان يتظاهر في الأوساط العالية القريبة منه بتقدير عظيم للزعيم وحركته وتحبيذه كما جرى تكراراً في منزل الأديب والتاجر المعتبر السيد إلياس عاصي وبحضور عدد من الأصدقاء. وأحياناً كان الخوري يتجاوز هذا الموقف إلى التظاهر بالحملة على ناكثي عهد الصداقة مع الزعيم، كما حصل في أثناء رده زيارة الزعيم لبعض الصحافيين. ما حمل على «صديقه» إلياس فرحات وأخذ يغتابه. وحكاية الأمر أن الزعيم قرر رد الزيارة لأحد الصحافيين السوريين وكان رشيد سليم الخوري يغتاب هذا الصحافي ويطعن في سلوكه. فلما استقر به المقام عنده إذا برشيد الخوري يدخل الغرفة من الشرفة المطلة على الحديقة وهي غير عالية. فتعجب الزعيم من هذه الحالة، وازداد تعجبه من أمر الخوري حين أخذ، في عرض الحديث، يغتصب المواقف لإطراء الصحافي المشار إليه. وفي أثناء الحديث روى ذلك الصحافي قصة نشر كتاب فرحات إلى صديق له وفيه طعن في الزعيم وفي الحزب السوري القومي. وقال إن فرحات ألّح بطلب نشر كتابه «لأن له مصلحة في ذلك». عندئذٍ صاح الخوري «أهذا هو الوفاء للصداقة التي يذكرها فرحات في كتابه إلى الزعيم في سجنه معلناً أنه جندي من جنود سعاده؟».


تجاه هذه المظاهر من رشيد الخوري كان الزعيم يعتقد أنه يمكن انتشال الخوري من حضيض المثالب الانحطاطية الذي انحدر إليه، وتلمس له الأعذار وحمل بعض ما بلغه على محمل المبالغة ولذلك وجدنا الزعيم في كتابه المثبت آنفاً يتجاوز عن كل ما سمع ويخاطب رشيد الخوري مخاطبة من هو في منزلة الصديق.
هاني بعل
للبحث استئناف

،سورية الجديدة، سان باولو

العدد(106)، 29/3/1941

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى