إعتزال موسوليني

في الخامس والعشرين من شهر يوليو/تموز المنتهي، وبينما الزوبعة تستعد لطبع صفحاتها الأخيرة، وردت برقيات عند الأصيل تذيع أنّ دوتشي إيطالية، المسيطر الفاشستي، قدّم استعفاءه إلى الملك الذي قبل الاستعفاء وانتدب المارشال بدوليو لرئاسة الوزارة الجديدة.

الحادث ليس قليل الخطورة من الوجهة السياسية.
وليس في الإمكان الآن التكهن بمدى التغيير الذي يجلبه على إيطالية واتجاهها السياسي.
أما من الوجهة الحربية فالأرجح أنه لا يتناولها، لأن هذه الوجهة أصبحت خارجة عن متناوله.
وأول بلاغات الملك والحاكم الجديد تجزم بمتابعة الحرب إلى النهاية.
وقد تسرعت صحف كبرى في هذه العاصمة وبعض الشركات البرقية في حسبان اعتزال موسوليني قيادة إيطالية إنتهاءً للنظام الفاشستي كله.

وهذا الحسبان ليس موافقاً للواقع. فالذي جرى حتى الآن هو قيام رئيس حكومة جديد مقام رئيس حكومة سابق، أما النظام الفاشستي الإداري والاقتصادي فلم يُلغَ ولم يُتخذ تدبير يدل على طلب إلغائه.

نريد، بمناسبة استعفاء موسوليني واعتزاله العمل السياسي الرسمي وقيادة إيطالية في إبّان الحرب التي كان له شأن كبير في تكوين أسبابها وحمل إيطالية عليها، أن نُظهر لمحة من حياة هذا الرجل وعمله الخطير.

كان موسوليني قبل الحرب العالمية الماضية، وحتى نشوبها، إشتراكياً وأحد المتطرفين من أعضاء الحزب الاشتراكي الإيطالي. ولما نشبت حرب طرابلس الغرب التي أعلنتاها إيطالية سنة 1910 على تركية واستولت بها على ليبيا سنة 1911 كان موسوليني أحد الذين نددوا بسياسة الحكومة الإيطالية الاستعمارية، وأوقف وسجن من أجل ذلك.

والظاهر أنّ الرجل لم يكن إشتراكياً إلا بقدر حاجته إى عقيدة يقف عليها فاعليته. فملّ المنازعات الطبقة والسعي وراء غاية بقي شيء كثير منها غامضاً.
وجاءت الحرب الماضية تزيد في تنبهه لمشاكل إيطالية الخاصة.
وقد دخل الجندية وشهد بعض الوقائع في تلك الحرب وخَبِرَ بنفسه سوء حالة الإدارة الإيطالية، وجُرح وأُرجع من الجبهة.

في هذه الأثناء عاد مفكر إشتراكي إيطالي من جولة له في الأقطار الأميركية إسمه رسوني.
وقد حمل هذا المفكر، في جملة تأثيرات سياحته في تفكيره، الاقتناع بأن المسألة الاشتراكية ليست ذات وحدة روحية فكرية في العالم، وأنّ المسائل الجنسية والقومية تتغلب، في كثير من ظروف تطبيق النظريات الاشتراكية، على المسائل الاقتصادية الاجتماعية.
فأخذ هذا المفكر يبشر بوجوب الاهتمام بالعامل الإيطالي قبل الاهتمام بعمال العالم، وصار في مقدمة دعاة الانتقاض على المبادىء الاشتراكية الصميمة في إيطالية.

إنفصل موسوليني عن الحزب الاشتراكي معلناً عدم موافقته على شؤون كثيرة من نظريات ذاك الحزب وأعماله وأنشأ جريدة الشعب الإيطالي في ميلان.
ولكنه لم يعلن تخلّيه عن العقيدة الاشتراكية.
فكان يضع تحت إسم جريدته وصفاً لها يعني أنها «جريدة اشتراكية».
ولكنه أخذ يبعد بها عن النظريات الاشتراكية التقليدية ويحضّ على المسائل الإيطالية.

ساعدت عودة رسوني المذكور، وتبشيره المشار إليه، وسوء حالة إيطالية ووجود عدد من العاطلين ومن الجنود المشوّهين الضيّقة في وجوههم أسباب العيش على تولّد شعور مضطرب ينزع إلى وجوب تغيير الحالة الراهنة في إيطالية. ونشأت من هذا الشعور فكرة تشكيل «الفاشيو» وهي لفظة تعني العصابة أو الحرمة.
فشكّل موسوليني «فاشيو مقاتل» في ميلان وأخذ غيره يشكل فاشيو في مدن أخرى وكان كل فاشيو ينشأ في البدء مستقلاً عن الآخر بلا هدف موحد ولا عقيدة واضحة من أي نوع، ونشوء الفاشستية، على هذا الشكل، يختلف اختلافاً كلياً جوهرياً عن نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تأسس منذ البدء على مبادىء أساسية ومبادىء إصلاحية واضحة وعلى غاية مقررة.

ظلّت حركة الفاشيو فوضى وكل عصابة تعمل مستبدة بما يعنّ لرؤسائها، حتى كنت سنة 1915 حين شعر الفاشستيون بوجوب توحيد حركتهم وجعلها قوة واحدة، فعقدوا مؤتمراً قرروا فيه اعتبار حركتهم واحدة وسمّوا أنفسهم «إتحاد الفاشي الربلوتسيوناري» ومعناها العصابات الثوروية.
وفاشي، بالإيطالية، جمع فاشيو وكان من عادتهم الرجوع إلى رأي موسوليني من غير أن يكون هنالك تقرير رسمي لزعامته المطلقة.
فكانوا ينظرون إليه نظرهم إلى قائد روحي لهم.

ولكن موسوليني لم يكن على هداية من التخطيط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يجب أن يتبعه فكان ينتقد الحالة الإدارية والسياسية في إيطالية ويدعو إلى تغييرها «والعمل لعظمة إيطالية».
وساعد دعوته كثيراً عبث الشيوعيين الذي أوجد اضطراباً عظيماً، وزاد الفوضى في إيطالية.
وقد حاول موسوليني، عند رؤيه نمو الحركة الفاشستية.
أن يخطط لها منهاجاً.
فوضع مساقاً في غاية الحركة ومطالبها وأعلنه في أحد المؤتمرات الكبرى نحو سنة 1919. لكن المنهاج لم يكن صالحاً لإنشاء عقيدة جديدة، ولم يفز بإثارة اهتمام الشعب، ولم يعط الحركة الفاشستية قوة روحية أو فكرية.
فعاد موسوليني في السنة التالية فعدل عن المنهاج وقال إنه لا يهم أن يكون للفاشستيين منهاج، وأعلن أنّ أحسن تعريف لهم هو نعتهم «بنور السياسة الإيطالية»، أي أنهم في السياسة كالنور في الاجتماع.

ظلّت الحركة الفاشستية بلا عقيدة غير عقيدة «عظمة إيطالية» التي لا تعيّن منهجاً ولا خططاً ولا فلسفة اجتماعية اقتصادية من أي شكل ولا تفكيراً سياسياً، لا تجمعها غير العقيدة المذكورة، إلى ما بعد تسلّم الحكم بسنوات.
فقد زحفت قوات العصابات الثوروية على روما في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1922 ودعا الملك موسوليني ليتسلم الحكم. وبقيت الحركة الفاشستية في تصادم داخلي بين مختلف النظريات التنظيمية.
ومنذ سنة 1925 أو 1926 ابتدأت الدولة الإيطالية الفاشستية تتجه نحو قواعد الدولة التجمعية التي عرفت باسم «الكرفرتيبية» وظلت نظرياتها تتطور بعدئذٍ حتى بلغت ما هي عليه الآن.

بعد تسلّم موسوليني الحكم وتمكن الحركة الفاشستية من السلطة، وبعد تعطيل صلاحيات البرلمان الإيطالي، واتخاذ موسوليني لقب «دوتشي» جنح هذا الزعيم الإيطالي إلى إعادة عهد القياصرة الروم وفتوحات روما، وبناء امبراطورية إيطالية تضم جميع أجزاء لامبراطورية الرومانية القديمة في أوسع حدودها.
فصار يتمثل بالقياصرة القدماء في مواقفهم ومعارضهم، وأخذ يشجع توليد أفكار الفتح.
فرسمت خرائط تمثل عصور روما من مدينة روما إلى الامبراطورية في معظم اتساعها ورسمت خريطة تمثّل عهد الفاشستية وفتوحاتها الجديدة (الحبشة)، وهي امبراطورية موسوليني وعلقت هذه الخرائط في «طريق الامبراطورية» (بيادل أمفارو) فوق ساحة ونتسيا التي كان يطل عليها موسوليني حين يريد مخاطبة الشعب.

عندما تمكنت الحركة الاشتراكية القومية في ألمانية من الحكم كان موسوليني مقاوماً لخططها السياسية ومرامي توسعها حتى أنه وقّع معاهدة لحماية النمسا من ألمانية، وتوصّل إلى أن يرسل أربعين ألف جندي إيطالي إلى الحدود النمساوية في سنة 1934 ليعترض أية محاولة يقصد منها ضم النمسا إلى ألمانية.
ولكن جرى بعد ذلك تفاهم الحركتين في ألمانية وإيطالية على تبادل المصالح السياسية في خطة مشتركة.
فعقد الاتفاق ضد الشيوعية ثم جرت «المعاهدة الفولاذية» بين ألمانية وإيطالية.
ثم لما نشبت الحرب مع بولونية بسبب رفض هذه الدولة مطاليب ألمانية الرامية إلى استعادة دنتزغ وإيجاد ممر ألماني يربط بروسية الشرقية ببروسية الغربية وبقية ألمانية وكان من ورائها سحق ألمانية بولونية في مدة قصيرة ثم سحق هولندا وبلجيكا وفرنسة بعد الاستيلاء على نروج ودانمارك، رأى موسوليني الفرصة سانحة لخوض الحرب ليكون لإيطالية نصيب من الغنيمة.
فأعلن الحرب على فرنسة وبريطانية في يونيو/حزيران سنة 1940 بعد انسحاق القوات الفرنسية وحرق الألمان خط ماجينو الشهير.
وحاول موسوليني في أحد خطبه سنة 1941 أن يعزو الفضل في انسحاق القوة الفرنسية الحربية إلى دخول الجيش الإيطالي الحرب وهو مخالف للواقع.

مما لا شك فيه أنّ موسوليني رفع المعنويات الإيطالية، ومنزلة إيطالية الإنترناسيونية وأنقذها من الأعمال الفوضوية وتمكن من توجيه السياسة الإيطالية الداخلية نحو ما هو أحسن وأفضل.
ولكنه تهوّر في مطامحه وكلّف إيطالية حمل عبء لا قبل لها به.
فمع كل التحسين الذي أوجدته الفاشستية في إيطالية لم تبرهن إيطالية في هذه الحرب أنها قادرة على القيام بالدور الذي أراده لها موسوليني.
فانكسار الجيش الإيطالي الأول على الحدود المصرية واندحار المارشال قرتساني أمام قوات ويبل وبانكسار الجيوش الإيطالية في الصومال والحبشة واضطرار ألمانية لنجدة إيطالية في إفريقيا، واضطرارها لإنجادها ضد اليونان التي استظهرت جيوشها على جيوش إيطالية المهاجمة وردّتها وأخذت تضغطها في ألبانيا ــــ كل ذلك أوجد هوة سحيقة بين مرامي موسوليني المتطرفة ومقدرة إيطالية.

إنّ الامبراطوريات لا تبنى بحرب واحدة كلية. فلذلك طريق طويلة يجب سلوكها بحكمة وصبر.
كم هي أغلاط موسوليني في هذه التقديرات؟ هذا سؤال لا تتسع له هذه العجالة.

إنّ أغلاط موسوليني السياسية وأغلاط تطرّف السياسة الفاشستية تحتاج لبحث على حدة فتترك ذلك لفرصة أخرى.
هل يعني انسحاب موسوليني أنّ المثلث الألماني ــــ الإيطالي ــــ الياباني قد خسر الحرب.

لا نظن ذلك. فقد يخسر المثلث المذكور الحرب، ولكن مسألة اعتزال موسوليني تتعلق بسياسة إيطالية الخاصة، والحالة التي وصلت إليها أكثر مما تتعلق بمصير الحرب الأخيرة.

أنطون سعاده 
الزوبعة، بيونس آيرس،

العدد 64، 1/8/1943

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى