إنتصار القومية السورية بين السوريين المغتربين في البلاد الأميركانية

نشأت بعد الحرب العالمية الماضية دعاوات أجنبية عديدة بقصد خدع السوريين والتغرير بهم وسدّ الطريق المؤدية إلى وعي قوميتهم.
ونشأت مع هذه الدعاوات الأجنبية الدعاوات الدينية التي حاولت كل دعاوة منها أن تضع نفسها في مجرى إحدى الدعاوات الأجنبية أو أن تجعل نفسها الغرض الأخير الذي يجب أن تتجه الأنظار لتحقيقه.

كانت نتيجة هذه الدعاوات الأجنبية ــــ الدينية أنّ السوريين انقسموا على أنفسهم في الوطن والمغترب، فتعددت قومياتهم وتباينت غاياتهم وزاغ كتّابهم وأدباؤهم.
فإذا بهم يصيرون شاميين ولبنانيين ودروزاً وعلويين وفلسطينيين وأردنيين وعرباً وسوريين ــــ لبنانيين.
لا وحدة وطنية ولا وحدة قومية تجمعهم ولا فكرة واضحة لهم في الوطن والأمة والغاية الاجتماعية، حتى كان نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي ما كاد يظهر بمظهر «فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها»، على حد تعبير الزعيم في خطابه التاريخي أول يونيو/حزيران 1935، حتى قامت الأقسام المشتّتة كلها تحاربه، لأنه يريد القضاء عليها جميعها من أجل إنشاء وحدة الأمة السورية التي لا قيام للشعب السوري إلا بها.

وسط هذه الفوضى بقي في المغتربات السورية نفر قليل جداً يقول بالوحدة ويشجب الانقسام، من غير أن يضع عقيدة قومية صحيحة.
وقد مات أكثر هذا النفر ومن بقي حياً منه انزوى عن الحركات الاجتماعية ــــ السياسية حتى لم يعد يوجد له أثر فيها. فلما وصلت أخبار الحركة السورية القومية الاجتماعية الرائعة حركت بعض النفوس الشائقة إلى التخلص من الفوضى، ولكنها عادت فسقطت تحت تأثير الدعاوات المغرضة التي كانت سموم دعاواتها قد تمكنت منها بوعي أو بغير وعي.

أكثر الكتّاب في الولايات المتحدة الأميركانية ساروا في تيار «العروبة» الديني الذي حاول عجزة التفكير أن يجعلوه بمقام الفكرة الجامعة، وخمس من أكبر صحف السوريين المغتربين في الولايات المتحدة إنحازت إلى صيحة العروبة مع تفاوت في مبلغ الانحياز وفي مقدار التحفظ وحفظ خط الرجعة، وهي:
مرآة الغرب، والنسر، والبيان وهي أصرحها، والسائح، والسمير.

في مرآة الغرب إعتنق التسمية الجنسية العربية كاتب له منزلة علمية هو الأستاذ حبيب كاتبه المتخرج في اللاهوت، إذا لم تخنّا الذاكرة، من جامعة هارفرد ومع أنّ الأستاذ كاتبه أحد الذين اشتركوا في العمل في مجلة العالم السوري فإنه انخرط أخيراً في جمعية أطلقت على نفسها إسم «الجامعة العربية» وصار رئيسها أو ناموسها وأحد كبار العاملين فيها، وكان قد قوي ميله إلى نزعة «الوحدة» العربية بطموحه إلى تحقيق مشروع ثقافي علمي تحت رعاية أحد الملوك في بعض الأقطار العربية.
وكانت له كتابات أثناء الحرب العالمية الماضية تدل على أنه متأثر تأثراً سطحياً منحرفاً، بأهمية «الوجهة الروحية» من المسألة الاجتماعية القومية حتى صار يعتقد أننا إذا لم نكن عرباً بالدم فنحن عرب «بالروح»، من غير التعمق في تحديد معنى الروح أو معنى العرب العصري، ومن غير أي دخول في التحديدات الاجتماعية المعروفة بالقومية التي ليست مجرّد «روح» كما أنها ليست مجرّد «جسم». وعندما جاء الولايات المتحدة سنة 1938، المطرود من الحزب السوري القومي الاجتماعي فؤاد خليل مفرج الذي التحق «بمكتب فخري البارودي للدعاية والنشر»، واجتهد في تنظيمه على طراز ما اقتبسه حين كان عضواً في الحزب السوري القومي، وحاول أن يجعل له «عقيدة القومية العربية» الموهومة أساساً وخطة سياسية لمحاربة الحزب السوري القومي الاجتماعي، كان الأستاذ حبيب كاتبه أحد الذين أحاطوا به وأيدوا مخرقته وفسحوا له المجال ليصير رئيس أو ناموس «الجامعة العربية»، وكتابات الأستاذ كاتبه كانت تصطبغ بصبغة النسبة العربية لا السورية وألّف بالإنكليزية عن «العرب» وترك أمر القومية السورية بالمرّة.

أما الصحافين أصحاب الجرائد التي ذكرناها فقد ساروا في هذ التيار، بعضهم بشيء من التراوح، وبعضهم بكثير من الإغراق كصاحب جريدة السائح.
وفي جميع هذه الصحف ظهرت التسمية «الجالية العربية» و«الأمة العربية»، وظهرت أيضاً تسميات أخرى كــ«السورية اللبنانية» و«الجاليتين السورية اللبنانية» وغير ذلك من الخلط.

في إبّان هذه الفوضى وهذا التبلبل في المغترب السوري وصل زعيم الحركة السورية القومية الاجتماعية إلى أميركا الجنوبية وأوساط السوريين المغتربين قد ملئت بالدعاوات ضده وضد حركته، خصوصاً بعد ما اجتهد السيدان فخري البارودي، الإقطاعي شبه الأمي، وفؤاد مفرج صاحب المآرب الذاتية في بثّه باسم «مكتب فخري البارودي للدعاية والنشر» الذي حوّره فؤاد مفرج، تقليداً للحزب السوري القومي، هكذا:
«المكتب العربي للدعاية والنشر». ثم وجد هذه التسمية ناقصة بالنسبة للحزب القومي فعدّله هكذا:
«المكتب القومي العربي للدعاية والنشر» ثم رآه أضعف بهذا الشكل من إسم الحزب السوري القومي، الذي قدّم الجنسية على الصفة، فجعله هكذا «المكتب العربي القومي للدعاية والنشر» وكل ذلك للتغرير بالناس وإكساب ذاك المكتب الشخصي الخصوصي صفة منتحلة شبيهة بالعمومية.

بدأ الزعيم عمله بالتخطيط المرتب جرياً على عادته ووفاقاً لطبيعة تفكيره الإنشائية.
فأنشأ في سان باولو، البرزيل، جريدة سورية الجديدة الأسبوعية، التي قصد منها أن تصير يومية فيما بعد.
فأعلنت هذه الجريدة للمغتربين حقائق قوية أخذت تنقض شيئاً فشيئاً الأوهام والإشاعات المبثوثة من الذين لا يقدرون على الصيد إلا في الماء الكر، وهيأت أحاديث الزعيم في أوساط سوريّــي سان باولو الثقافية والأدبية الأفكار لقبول المبادىء القومية الاجتماعية الصحيحة.

انتقل الزعيم إلى بيونس آيرس حيث تابع أحاديثه وألقى عدة محاضرات، في هذه العاصمة وفي مدن الداخلية، أيقظت السوريين المغتربين ونبهتهم لعظمة الحركة السورية القومية الاجتماعية وأهميتها لهم ولتحسين شؤون العالم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ثم أنشأ الزعيم في بيونس آيرس الزوبعة هذه الصحيفة التي حاربت الضلال والرياء، وكشفت عن حقيقة منافقي الأدب والوطنية، وأظهرت مآربهم الحقيرة، وحلَّلت الأحوال الحاضرة، وعللت حالة سورية.
ونشرت الزوبعة من الحقائق ما جعل السوريين المغتربين يدركون صحة عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي وسلامة نظرته القومية.

وكان قد وصل، في هذه الأثناء، إلى الولايات المتحدة الأميركانية الأمين فخري معلوف، أحد كبار رجال الحركة السورية القومية الاجتماعية، واتصل بطائفة من الصحافيين السوريين هناك وتكلم في عدة احتفالات واجتماعات سورية وأميركانية.
فشرح موقف سورية والعقيدة السورية القومية الاجتماعية التي اجتذبت صحتها كثيرين وأخذ الرأي العام الأميركاني، وخصوصاً أوساطه الثقافية العليا، يدرك حقيقة القومية السورية وقضية سورية.

ونشأت في هذه الأثناء، مجلة لا تمفستاد التي أصدرتها في عاصمة المكسيك باللغة الإسبانية منفذية الحزب السوري القومي هناك في سنة 1940، فنشرت العقيدة السورية القومية الاجتماعية بين السوريين المغتربين في المكسيك والأوساط المكسيكية.
وتوزعت أعداد منها في أقطار أخرى من أميركا الإسبانية اللغة.

قضت هذه الأعمال الكبيرة المنظمة على التخرصات والمخرقات، ووضعت القضية السورية القومية على بساط البحث، وأذاعتها بين السوريين المغتربين في جميع الأقطار الأميركية وبين الأميركيين، فلم يعد ينكرها إلا كل مكابر في الحق وكل متعنّت أو منافق أو مراء.

وقد حدث مؤخراً في الولايات المتحدة الأميركانية، حادث دلَّ على انتصارها النهائي حتى عند أمثال الأستاذ كاتبه وعند الصحف المذكورة آنفاً التي لم تجد مناصاً من الإذعان للحقيقة التي أصبح معظم السوريين المغتربين في الولايات المتحدة، بين لبنانيين وشاميين وفلسطيين وأردنيين مسلّمين بها ومعتنقين لها.
وهذا الحادث هو نشاط السوريين في الولايات المتحدة الأميركانية لتأليف لجنة منهم لمساعدة جمعية الصليب الأحمر الأميركانية بمناسبة الحرب مع اليابان.

كان هذا الحادث المحكّ للأفكار والميول والمذاهب القومية عند السوريين في أميركا الشمالية.
ومركز الحكّ هو في تسمية اللجنة هل تسمى السورية، أم السورية اللبنانية، أم العربية، أم السورية العربية، أم السورية اللبنانية العربية، أم غير ذلك من التسميات الربية التي أفقدت أبناء أمتنا المغتربين صفتهم الحقيقية بكثرة تعاورها.

في المعركة التي حدثت حول مسألة التسمية بين الأسماء المذكورة فاز الإسم القومي للسوريين قاطبة وسميت اللجنة:
«اللجنة السورية المؤلفة من أبناء سورية (الشام) ولبنان وفلسطين»، قد أوضح مؤلفو اللجنة موقفهم، ولم يتركوا أي مجال للتآويل الفاسدة والشبهات، فشرحوا في تسمية اللجنة أنها مؤلفة من أبناء الشام ولبنان وفلسطين الذين يكوّنون قومية واحدة يجب أن يُعرفوا بها في العالم هي: القومية السورية.

كان هذا الانتصار باهراً، ومن مدهشاته أنّ الصحافيين الذين تظاهروا بالاعتقاد بالوحدة العربية والأمة العربية وحاربوا الفكرة السورية القومية، كالسيدين إيليا أبي ماضي وعبد المسيح حداد، اندفعوا يؤيدوا هذا الإسم السوري القومي ويقولون إنه يجب علينا أن لا نُعرف بغيره.
والذين تتبعوا الحوادث الأخيرة يعلمون أنّ من حجج أبي ماضي الواهية للتحامل على هاني بعل كاتب سلسلة الأبحاث الأدبية والاجتماعية والفلسفية التي نشرتها له الزوبعة تحت عنوان «جنون الخلود» هذه الحجة:
أنَّ هاني بعل قد قنع بحيّز ضيّق وفكرة محدودة، أي فكرة القومية السورية، أما رشيد الخوري فقد طلب الوحدة العربية، عملاً بالقاعدة الحجرية التي وضعها أبو ماضي القائلة «إنّ الشاعر لا يحصره حيّز من فكر أو مادة».
وهذا يعني أنّ أبا ماضي غلّط هاني بعل في مبدأه السوري القومي ووافق على فكرة الوحدة العربية و«القومية العربية»، مع الاحتفاظ بالقومية اللبنانية السورية ضمن «القومية العربية»، وأما السيد عبد المسيح حداد فقد أسرف في الكلام على «العروبة» وعلى «الشعب العربي» و«الجالية العربية» آبياً وصف السوريين بقوميتهم الحقيقية.
فلما قرر مؤلفو اللجنة السورية لمساعدة الصليب الأحمر الأميركاني إلغاء التسميات التي أفقدت السوريين شخصيتهم الاجتماعية، واعتناق التسمية الصحيحة التي أقرّها الحزب السوري القومي وأوضح أنها الوحيدة التي تنطبق على السوريين وتليق بهم، أسرع هذان الصحافيان المنافقان إلى تأييد قرار اللجنة والاعتراف بأن التسمية السورية هي التسمية التي لا تسمية للسوريين غيرها.

لم يبقَ من الصحف السورية في الولايات المتحدة الأميركانية، التي لها بعض الشأن، سوى صحيفة واحدة لم ترضَ عن التسمية، لأنها تعيش من مجاراة اعتقاد طائفي يدعو إلى الانفصال اللبناني خدمة لأغراض المتنفذين الإكليريكيين والإقطاعيين من الطائفة الدينية التي لها هذا الاعتقاد.
تلك الصحيفة هي الهدى التي تعيش على الاعتقاد الذي أذاعه في الطائفة المارونية رؤساء الإكليروس ورجال الإقطاع الموارنة.
فالجريدة المذكورة قامت تنتقد تسمية اللجنة السورية لمساعدة الصليب الأحمر الأميركاني، وتقول إنه كان يجب أن يضاف إسم لبنان إلى إسم سورية، اعترافاً بالانفصال الذي أحدثه الأجانب في لبنان بالاتفاق مع المقامات الإكليركية المارونية وليس برغبة من جميع اللبنانيين، ومن غير رضى صاحب الهدى نفسه الذي كان صاحب مجلة تدعى العالم السوري، وليس العالم السوري اللبناني، وله مقالة يقول فيها إننا جميعاً سوريون، ومطبعته التي يطبع فيها جريدته الضالة إسمها «المطبعة السورية» وليس المطبعة اللبنانية.
ومن غريب الأمور أنّ صاحبي السمير والسائح اللذين قاوما «القومية المحدودة التي جاء بها أنطون سعاده، قاما يؤيدان هذه القومية بكل قواهما ويهاجمان صاحب الضلال الذي يسمى الهدى لعدم رضاه عن التسمية السورية الخالصة من النعوت المضيّعة الشخصية القومية.
وكانت الحملة على جريدة الهدى من قِبل الهيئات السورية في الولايات المتحدة الأميركانة قوية إلى حد أنّ كلامها لم يكن له تأثير، ولم يغيّر شيئاً من التطور السوري القومي في الأوساط المذكورة.

أهم انتصار، مع ذلك، هو في اتجاه الرأي العام عند السوريين المغتربين في الولايات المتحدة الأميركانية نحو عقيدة الحزب السوري القومي، وفي حدوث هذا الاتجاه القومي الجديد عند أمثال الأستاذ حبيب كاتبه الذي كان يعتقد أنّ العالم العربي هو أمة واحدة أو قومية واحدة، واضعاً فكرة العالم المؤلَّف من متحدات اجتماعية متعددة متقاربة من بعض الوجوه مكان فكرة الأمة الواحدة الممثلة لمتحد اجتماعي واحد له صلات، طبعاً، بغيره من المتحدات، خصوصاً الأقرب إليه من سواها.
فقد وقفنا على خبر في العدد الصادر في 30 مارس/أذار الماضي من جريدة الهدى فحْواه أنّ الأستاذ كاتبه تطرّق، في إحدى مقالاته الإخبارية الاجتماعية الأخيرة إلى موضوع النسبة السورية الذي أثير بمناسبة تسمية لجنة مساعدة الصليب الأحمر الأميركاني، فقال ما معناه:
«إنه لا يعترف إلا بوجود جالية سورية وإنه هكذا سيعرّف جوالينا عند كتابته عنها» (هذا الكلام مقتبس عن الهدى).
إنّ هذا الخبر هام ويعني أنّ تطوراً كبيراً قد طرأ على تفكير الأستاذ حبيب كاتبه، حتى أنه صرّح باعتناقه النظرة القومية التي دعا إليها الحزب السوري القومي الاجتماعي.
وإذا كان هذا التصريح قائماً على عزيمة صادقة ورسوخ إيمان وإدراك صحيح للأصول المبدأية فهو من التصريحات الدالة على المبلغ البعيد الذي بلغه التطور العقائدي القومي عند السوريين المغتربين في الولايات المتحدة الأميركانية تحت تأثير انتشار العقيدة السورية القومية الاجتماعية في جماعات السوريين عبر الحدود.

إنّ هذا التطور المحسوس الذي تناول مجموعاً واسعً من مغتربينا يزيد تفاؤلا بإمكان توحيد شعبنا تنظيم أفكاره وأعماله، وتخطيط منهاج عام له يمكّنه من تحقيق مثل الحركة السورية القومية الاجتماعية العليا وغايتها الرامية إلى استقلال الأمة السورية التام، ورفع مستوى الحياة السورية مادياً وروحياً.

إنه لانتصار كبير لجهاد مئات السوريين القوميين الاجتماعيين في الأميركتين. إنه من هذه الانتصارات الفاصلة التي تغيّر اتجاه شعب بأسره. إنه فصل جديد من تاريخ الحركة السورية القومية الاجتماعية وتاريخ الأمة السورية الجديد. فإلى الأمام أيها القوميون الاجتماعيون!

أنطون سعاده
 الزوبعة، بيونس آيرس،

العدد 47، 1/7/1942

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى