استقلال مراكش الإسبانية

الويل لقوات الغرب من قوات الشرق متى ثارت هذه ثورتها! إنّ الويل قريب لأن الثورة قريبة بإذن الله. وها بوادره قد ظهرت على ضفاف مراكش حيث يقف الجيش الإسباني وقفته الأخيرة ليسقط آخر جندي ثابت لافظاً مع نَفَسه الأخير «فلتحيى إسبانية»، كما سقط في معركة واترلو آخر جندي من الحرس الامبراطوري النابوليوني لافظاً مع نَفَسه الأخير عبارة «فليحيَ الامبراطور».
لا نحاول الآن أن نصف الانتصار الذي أحرزه الجيش المراكشي في خروجه على مستعبدي مراكش ومستعمريها الإسبانيين وصفاً شعرياً، بل نحاول أن نستخرج منه دروساً ثمينة من الوجهتين النظرية والعملية مبتدئين بتحليل العوامل الباعثة على نهضة المراكشيين والمؤدية إلى نجاحها.

إنّ أهم العوامل التي تبعث الأمم المستعبَدة على النهوض للتخلص من نير العبودية الثقيل هو شعورها بحقوقها الطبيعية في الحياة، التي أولها الحرية. فالحرية حق طبيعي يشعر الإنسان بحاجته إليه كما يشعر بحاجته إلى الهواء والغذاء. ومتى سكتت أمة عن المطالبة بحق الحرية فعلت ذلك مضطرة إلى أن تكون الفرصة الموافقة للمطالبة بذلك الحق قد سنحت فتثور الأمة إذ ذاك بدافع الشعور المشار إليه وتفعل ما في طاقتها لنيل حقها.

هذا ما حدث في مراكش بعد أحقاب من الاستعمار. فقد احتملت مراكش مرارة الاستعمار إلى أن جاءت الفرصة الموافقة التي أتت بعبد الكريم الذي ألَّب حوله أحرار البلاد، وابتدأ يهاجم الجيش الإسباني الناعم البال. كان شعور الأمة متهيئاً للعمل الذي وضعه عبد الكريم نصب عينيه، وكان التنعم الإسباني قد بلغ حده الأقصى. فلما أُعلن الجهاد تقدم المراكشيون بإيمان غير متزعزع ويقين بالحق لا يعرف الشك، وهذا هو الشرط الأساسي لنجاح الثورات الاستقلالية.

هذا هو الشرط الذي لا بدَّ منه لكل حركة استقلالية. ولو كنا أخذنا رأي بعض السوريين بنهضة مراكش، وهي في البدء، لما كنا حصلنا إلا على جواب واحد هو جواب عدم الإيمان وعدم اليقين. لماذا؟ لأن بعض السوريين يعدّون جيوش إسبانية فيرونها أكثر كثيراً من جيوش مراكش، فضلاً عن كمال تجهيز هذه ونقص تجهيز تلك. وهم لا يرون أهم من هذه المقابلة مع أنه يوجد أهم منها بكثير، وهو المقابلة بين الروح السارية في أولئك والروح السارية في هؤلاء، وما يدعم مبادىء الفريق الطالب حق الحرية من تيار عواطف إنسانية وتأثير الفلسفات الاجتماعية في عقليات الشعوب، ثم يأتي ما يسمونه عدم التوازن السياسي. ولا يمكن الإغضاء عما لهذه الحقيقة من التأثير الكبير على سير الثورات الاستقلالية. والظاهر أنّ المراكشيين فهموا مثل هذه الأمور الجوهرية، وسيسجل لهم التاريخ أسبقيتهم على السوريين في فهم مبادىء استقلال الشعوب. قد يكون بين السوريين من سبق المراكشيين إلى الاطلاع على مبادىء استقلال الأمم، ولكن التاريخ يحكم بالفهم للسابق إلى العمل.

فَهِمَ المراكشيون أنّ حريتهم تتوقف على السير في سبيل لا مندوحة عنه، هو سبيل الاعتماد على النفس والقيام بثورة كبيرة في طول البلاد وعرضها عندما يحين الوقت المناسب. فوضعوا وجوب العمل بما فهموه نصب أعينهم. وكانوا رجالاً عزومين لا يترددون في تقديم التضحية المطلوبة لنيل حقوقهم في الحياة. وهذا من الأسباب الرئيسية التي تبعث على نجاحهم.

فعلت الروح التي سرت في قلوب المراكشيين فعلها وكونت من القبائل المتنافرة جسماً واحداً يسير نحو غرض واحد، وأخرجت من تلك الأقوام التي تباري العالم ببراغيثها وقذارتها رجالاً يضربون الجيش الإسباني ضربات لم تخطر لأحد ببال. وكان من وراء تلك الضربات أنهم دفعوا الجيش الإسباني إلى شواطىء البحر المتوسط بعد مقاتل كبيرة. ومن يدري كم يتمكن الجيش الإسباني من الثبات في مواقفه الأخيرة على الشواطىء؟

إنّ الروح التي بعثت المراكشيين على النهوض حملتهم على اتخاذ خطة عملية فعالة، فساروا في ثورتهم بجد واجتهاد عظيمين، ولم يتركوا وسيلة إلا وتذرعوا بها، ولم يدعوا فرصة إلا وانتهزوها، ولم يغفلوا عن حركات أعدائهم لحظة واحدة. بل إنهم لم يتركوا لهؤلاء مجالاً للراحة قط، فكانوا يناوشونهم ويحاربونهم دائماً. وبفضل هذه الخطة العملية الفعالة يرى المراكشيون أنفسهم اليوم آسيةد بلادهم ــــ يرون أنهم ضحّوا، ولكنهم يفهمون أنّ تضحياتهم أنالتهم الحرية التي هي الحياة. ومن يفهم أهمية الحرية في وجود الأمم، ويسوِّغ لنفسه أن يقابل بين تضحيات المراكشيين وإحرازهم الحرية؟

نجد في نجاح الثورة المراكشية ما يؤيد ما نقول به من وجوب اعتماد الأمم المستعمَرة على القوة والإجراءات الفعلية المنظمة. فالمراكشيون ما كانوا يكونون آسيةد أنفسهم وبلادهم لولا اعتمادهم على القوة والإجراءات الفعالة. وفي هذه الحقيقة نجد أيضاً البرهان على أهلية الاستقلال الذي هو إحدى ذرائع الاستعمار عند الدول الطامعة. فاستقلال مراكش يوحي إلينا أنّ الأهلية للاستقلال هي نيله، ولو كان المراكشيون انصرفوا إلى إقناع العالم بالكلام بأهليتهم للاستقلال لكان ذهب تعبهم باطلاً كما ذهب تعب غيرهم من الأمم التي هي أرقى منهم بكثير.

من يقول إنّ مراكش أحق بالاستقلال من مصر وسورية؟ ومع ذلك فمصر وسورية لا تزالان غير أهل للاستقلال، وستبقيان كذلك إلى أن تنالا استقلالهما بالسيف. هذه هي الحقيقة التي تؤيدها النهضة المراكشية الجديدة بعد أن أثبتها التاريخ في كل أدواره. وهذا هو الدرس الكبير الذي تلقيه النهضة المراكشية على الأمم المستكينة إلى الذل، كما أنها تلقي دروساً أخرى على الأمم المستعمِرة التي جعلت شغلها الشاغل ابتلاع الشعوب الصغيرة سداً لشهواتها وإشباعاً لمطامع عسكرييها ومتموليها.

إنّ ثورة مراكش تقول للأمم المستعبَدة: إنهضي أيتها الأمم الغافلة فما في الاستكانة والاحتمال إلا الذل وحياة مرة حقيرة، إنهضي أيتها الأمم المستعبدة فما العبودية إلا قبر أمواته أحياء، إنهضي لأن الحرية هي الحياة ومن لا ينهض لنيل الحرية خوفاً على حياته خسر الحرية والحياة معاً.

هذا هو صوت مراكش الصارخ. فمراكش التي كانت مدة أجيال عبدة للغرباء قد أصبحت الآن أستاذة في الحرية من الطبقة الأولى. وهذا التغيُّر المدهش الذي حصل في مراكش لم يكن ممكناً قط لولا اعتماد المراكشيين على الصارم البتار الذي له في تأييد الحق بيان يعجز دونه بيان الفلاسفة وفصاحة الخطباء.

لقد اقتفت مراكش خطوات الأمم الحية التي تقدمتها في مضمار الحرية والعمران، فبرهنت بعملها الحازم أنها أمة حية أهل للاستقلال الذي تنشده. وسواء انتهى جهاد مراكش بالنجاح التام أو بالفشل، فإن مراكش تكون بريئة من كل تبعة لأنها أمة قامت بواجبها خير قيام. ولكن لا يخطر في بالنا قط أنّ جهاد مراكش ينتهي بالفشل، لأن المراكشيين قد صمّوا تصميماً كلياً على تضحية كل غالٍ ورخيص في سبيل نيل حريتهم وحقوقهم.

إنّ المراكشيين أحرار الآن بفضل جهادهم العظيم، وسيبقون أحراراً ما زالوا مجاهدين. وهذه أمثولة عظمى يجب أن تدرسها الأمم الناهضة إلى الحرية. فالجهاد هو خير كفيل لنيل الحقوق وإحراز الحرية. وكل أمة لا تجاهد في معترك هذه الحياة توقع صك عبوديتها بيدها، وتحكم على نفسها بالموت بنفسها.

نعتقد أنّ ثورة مراكش ستؤثر على مجرى الأفكار في الأمم الشرقية كلها، محدثة فيها ثورة خواطر شديدة تزعزع ما بقي من آثار الاستكانة والخضوع، وتنفخ في الصدور روحاً جديدة في الاعتماد على الصارم البتار والسواعد المفتولة، وتقوّي الإيمان بوجوب العمل والثقة بالنفس.

نحن لا نشك بأن أمم الشرق ستقتفي خطوات مراكش. فالحقيقة أنّ نهضة مراكش تمثل استيقاظ الأمم الشرقية كلها تمثيلاً ينطبق على الحقيقة. فمنطق القوة قد وجد سبيلاً إلى قلوب السوريين والمصريين والعراقيين والعرب والهنود والصينيين وسائر أمم الشرق التي كانت عبارة عن إقطاعيات كبيرة لدول أوروبة الطامعة. إنّ الحال قد تبدلت كثيراً عن ذي قبل. فالشعوب التي ذكرناها هي الآن عبارة عن براكين تسير فيها الثورات البركانية سيرها النظامي، والوقت الذي تبتدىء فيه تلك الثورات الدخول في طورها الانفجاري الخطر ليس بعيداً بل هو قريب جداً.

لقد ابتدأت الشعوب الشرقية تدرك منطق القوة وتفهم ضرورة إدخاله في حياتها الاستقلالية. وعلى هذه الحقيقة نبني اعتقادنا بنشوب ثورات استقلالية كبيرة قريباً في الشرق. وإننا نكرّر هنا أنّ الاستقلال لا يأتي إلا عن طريق الإجراءات الفعالة واستخدام القوة كلها مهما كانت صغيرة، لأن القوة هي السلاح الطبيعي الأساسي للدفاع. ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نهنىء المراكشيين الذين فهموا هذه الحقيقة ونفذوها، وندعو لهم بالتقدم المستمر.

هنا يخطر على بالنا سؤال خطير، وهو: متى يأتي دورنا نحن؟

هذا السؤال يجب على السوريين أن يجيبوا عليه في أقرب فرصة مناسبة، فليستعدوا له!

أما ما نعتقده نحن، فهو أنّ المسألة السورية تقتضي الإسراع في العمل الفعال. فحركة الخواطر في سورية متجهة كلها نحو الحرية والاستقلال التام. ولكن لا بدّ من تنظيم الحركة الفعلية تنظيماً دقيقاً. وواجب كل سوري حرّ أينما كان وحيثما وجد هو أن يعمل كل ما في طاقته لنفع هذه الحركة التي تحرّره من عبودية هي عار عليه وعلى الإنسانية جمعاء.

قرّب الله ذلك اليوم الذي تصبح فيه سورية شعلة يضيء نورها سبيل الأحرار وتحرق نارها قلوب الخونة.

أنطون سعاده
المجلة، سان باولو 
السنة 11، الجزء 2، 1/3/1925

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى