الجهل المطبق

لنتابع خلط صاحب الحارضة. قال، فضّ فوه، بعد عبارته المتقدمة:
«فالإنجيل كتاب روحاني يُعنى بالآخرة فحسب ولا يعلم في هذه الدنيا غير الدروشة والزهد وقهر الجسد وحبس العقل في قفص من غباوة الاستسلام لما وراء المنظور، وهو يقتل المواهب ويهيض الأجنحة ويعصب على العيون ويربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة ويخنق الطموح، فلا مجد عنده إلا مجد الخضوع الأعمى للتعاليم السماوية كما بشّر بها هو. لا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة تسام الخسف والهوان والجلد بالسياط ما دمت تعتقد أن بعد الموت حياة ثانية تثاب فيها على خنوعك واستسلامك وصبرك على الظلم. ولقد فسح الإسلام لمحبي الكسب وطالبي الثروة مجالاً لا حد له قوله: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً» في حين جعلت المسيحية الفقر شرطاً أساسياً لدخول السماء عملاً بقولها للغني الذي طلب أن يرث الحياة الأبدية: «بع كل أملاكك ووزع ثمنها على الفقراء واتبعني» ولعمري لو عمل كل غني بهذه الشريعة لأصبح الناس جميعاً مدقعين ولم يبقَ في الأرض من يستطيع أن يجود على فقير بفلس».
لا ننتظر أن يكون لرشيد سليم الخوري ضابط من جهله، لأن الضابط يكون من العلم ولا يمكن مطلقاً أن يكون من الجهل، فهو في الفقرة المتقدمة يستمر في غباوته ويتابع المقابلة بين المسيحية والإسلام على قاعدة أن الحديث النبوي هو الإسلام وشريعته. فقوله: «لقد فسح الإسلام لمحبي الكسب وطالبي الثروة مجالاً لا حد له بقوله، (أي بقول الإسلام): «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، إلخ» يجعل الحديث النبوي في مقام الشريعة الإسلامية. وهو جهل ما بعده من جهل، فالإسلام لا يقول هذا القول وإنما الذي يقوله هو محمد [القول للإمام علي] لا الإسلام. وهنالك فرق أساسي جوهري بين الرسالة الإسلامية والحديث النبوي لا يغفله غير الجهال الذين يطلبون الكسب والثروة حتى بالتدجيل على الدين والعلم.


لما كان الخوري قد اتخذ في هذا الكلام صفة باحث متجرد عن الاعتقادات الدينية، وكنا آلينا على أنفسنا تتبعه في جميع التواءاته واعوجاجاته فإننا سنعالج هذه النقطة من وجهه الدراسة العلمية:
إن الكلام الذي ورد على لسان محمد أو قيل إنه ورد على لسانه يقسم إلى قسمين: قسم عزاه محمد إلى الله معلناً أنه نزل عليه وحياً إلهياً، وقسم لم يعزه إلى الله فهو حديث منه حدّث به في أوقات متفاوتة. فالقسم الأول فقط هو الإسلام والشريعة الإسلامية وفيه أوامر الله ونواهيه وحدوده، فلا يحق على المسلم إلا ما ورد فيه. والمشكوك فيه من القسم الأول آيات قليلة. أما القسم الثاني فليس الإسلام ولا الشريعة الإسلامية وإنما هو أقوال حكمية يستفيد المسلم منها في كيفية فهم نبيّه وفهم نظرته في بعض أحوال الدين والدنيا. وهذا القسم الثاني مشكوك في الكثير منه. ومع أن المتقدمين عزلوا المشكوك الذي سمّوه «مجروحاً» عن «الصحيح» فإن الأبحاث المستفيضة المتأخرة دلت على أن الكثير من الحديث النبوي المحسوب صحيحاً مجروح، أو غير صحيح فلم يعد يصح اعتماده حتى ولا في صفته المحدودة كحديث فاه به محمد من غير أن يعيّن شريعة أو نصاً يجب التمسك به.


بناءً عليه، لا يقول إن الحديث النبوي هو الإسلام الذي يعيّن للمسلمين طريق الحياة، غير جاهل جهلاً مطبقاً كرشيد الخوري الذي ظن أن استعارة بعض العبارات العلمية الصبغة وإطلاقها في معرض التدجيل لكفيلان بأن يسويا بين الجهل والعلم!


قلنا في المقالة السابقة إن المقابلة بين الإنجيل والحديث النبوي هي جريمة ضد الدينين المسيحي والإسلامي (الصفحة 85 أعلاه) للذين يعدون نصوصهما، أو نصوص أحدهما، فضلاً عن أنها دليل قاطع على جهل صاحب الحارضة أوليات «البحث» الذي تصدى له تزلفاً إلى أتباع الدينين المذكورين، غير عابىء بالعواقب الوخيمة التي يجرها مطلبه النفعي على أبناء أمة واحدة وهي الآن أحوج منها في أي زمن آخر إلى قتل روح التعصب الديني الذي لم تجنِ منه غير الويل.


ونقول هنا إن الجريمة قد كبرت بإقامة المثل الدنيا المادية، التي رأينا في ما تقدم من هذه المقالات الدراسية أن رشيد الخوري لا يعرف مُثلاً غيرها، مقام المثل العليا التي تتجه إليها جميع النفوس الطالبة الانتصار على المادية المعطلة للمزايا الإنسانية السامية. فالواضح من كلام صاحب الحارضة المتقدم أن المقياس الذي يسعمله لتفضيل الإسلام على المسيحية هو المقياس المادي، فبينا هو يصف الإنجيل بأنه «كتاب روحاني»، يقيم مادية الإسلام في مقابلها ويجعل المادية أساس فضائل الإسلام كلها، لأنه لم يتخذ غير الجزء المادي البحت من حديث نبوي [كلام للإمام علي] مشهور وهذا الجزء هو: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً».


رأى رشيد الخوري في هذا الجزء من أحد أحاديث محمد [كلام الإمام علي] أعظم حكمة في الإسلام. فقد انطبق هذا المثل على عقليته الرازحة بالمادية أيما انطباق فقال عنه: إنه جوهر الرسالة الإسلامية التي فسحت به «لمحبي الكسب وطالبي الثروة مجالاً لا حد له». وبناءً على هذه القاعدة التي وجد فيها الخوري كل الإسلام وجوهر ما يفضل به على المسيحية لم يجد حرجاً في أن يطلب هو الكسب والثروة حتى باستباحة إثارة التعصب الديني وإراقة الدماء بين المسيحيين والمسلمين من السوريين.


إن أعظم فضيلة يراها رشيد سليم الخوري في الإسلام هي: اتباع الشهوات المادية وفسح المجال اللامحدود لها، بدلاً من كبحها وإحلال الفضائل النفسية المفضلة الإنسان على الحيوان محلها.


وهو، لعجزه عن طلب المثل الروحية العليا التي يراها في الإنجيل ولا يرى خرقاً فيها يمر منه إلى ماديته الحقيرة المخربة، يقول إن الإنجيل كتاب «يعني بالآخرة فحسب»، أي أنه يجب ترك تعاليمه جانباً، في كل ما يتعلق بالحياة البشرية. والانتهاء إلى هذه النتيجة هو شي طبيعي. فجميع الميالين إلى الشر والإجرام يبغضون القوانين المسنونة لمحاربة الإجرام، ويسبّون القضاة النزهاء الذين حكموا عليهم أحكاماً عادلة قاسية. وجميع الأولاد السيئي التربية في بيوتهم المعتادين على إطلاق العنان لشهواتهم ورغباتهم الجامحة يكرهون المعلم الذي يجتهد في تعليمهم طريق الفضائل ويسخرون من تعاليمه ويستهزئون بها.


لنأخذ هذا الدرس بالترتيب، لئلا يفوتنا شي من فوائده، لنعد إلى ما نقلناه في المقالة السابقة من كلام رشيد الخوري. وهو مع ما نقلناه هنا أساس النظريات التي يبني عليها الخوري تفضيله الإسلام على المسيحية. فبعد أن ذكر أقوال النبي في ضرورة صحة العقل للمؤمن قال إن من أهم ما يمتاز به الإسلام على المسيحية هو أن محمداً «أشاد بذكر العلم وفضل العلماء»، وأنه ليس في الإنجيل «أي واحدة تذكر العلم بخير أو بشر».


هذه المفاضلة السقيمة تظهر كم يجهل رشيد الخوري التاريخ الاجتماعي والتاريخ السياسي للبشرية، ومقدار جهله نشأة المسيحية في بيئتها وعوامل نشأة الإسلام في بيئته. ومع أن المقابلة بين الإنجيل والحديث النبوي لا تصح من أساسها كما بيّنا آنفاً فلا بد لنا من تناول هذه القاعدة المتهدمة للمفاضلة لأنها تشتمل على سفسطة سهلة الشيوع عند العامة والخاصة الناقصة الثقافة لكمال سطحيتها ولإغفالها الحقائق الاجتماعية والتاريخية. فهي، من هذه الجهة، تكوّن خطراً على صحة الاتجاه الفكري وعلى الارتقاء النفسي نحو أجمل المثل العليا.


نشأت المسيحية في سورية بعد أن كان مضى عهد طويل على ارتقاء السوريين عن مرتبة البربرية التي بقي عليها العرب بعامل بيئتهم الطبيعية غير القابلة للعمران والتمدن، وبعد أن كان مضى زمن طويل على إنشاء السوريين أعظم مدنية عرفها العالم في التاريخ القديم وهي المدنية التي قامت على قواعدها المدنية العصرية.


نشأت المسيحية في بلاد كانت قد بلغت أوج العلم والتمدن وشبعت من الفتوحات في إفريقية وأوروبة، بلاد لم تكن في حاجة إلى من يحبب إلى شعبها العلم، لأنها كانت أسبق الأمم إليه ومنها تعلّم الإغريق والرومان فالتبشير بمحاسن العلم في أمة العلم ما كان يكون له وقعٌ غير وقع قولك للناس، الماء ضروري لأنه يُذهب العطش، والخبز يسد الجوع.


لم يكن المسيح يهودياً، ولم يكن له «آباء يهود» كما كان يقول صاحب الحارضة هاجياً إياه، بل كان سورياً يتكلم ويخاطب الجماهير بالسريانية. وهو نفسه رفض أن يدعى «ابن داود» كما أراد اليهود، فقال في ذلك: «كيف يقولون إن المسيح ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فإذا كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟»1، بهذا القول قطع المسيح كل سبيل لقيامه على أساس التقاليد اليهودية القائلة إنه يكون يهودياً من نسل داود، فلا يصح أن يقال إن المسيح كان يهودياً فهو ابن البيئة السورية.


أما الإسلام فقد نشأ في العربة التي لا عمران فيها ولا تمدن، والعرب لم يرتقوا عن مرتبة البربرية ولم يعرفوا العلم، وفنونهم مقصورة على الغزو والسلب والاحتيال ونظم الشعر. فحدثهم محمد بما يحتاجون إليه. ولذلك كان حديثه في محله وفي ما يحتاج إليه. فحثهم على طلب العلم، لأنه لم يكن لهم. وهو الذي كاد يضيق ذرعاً بهم فنزلت الآيتان: {الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حيكم}2… {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تَعْلَمُهم نحن نَعْلَمُهم سنعذبهم مرتين ثم يُردّون إلى عذاب عظيم}3.


وفي النصوص الإسلامية اعتراف صريح بأن الرسل يرسلون لهداية أقوامهم، وأن محمداً رسول إلى العرب خاصة بدليل قول القرآن: {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه أي من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد}4 و{إنّا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}5 و{لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}6.


فواضح من الآية الأخيرة أن رسالة الرسول العربي الملقب بالأميّ اختصت بالعرب بعناية الله الذي أرسله هادياً لقومه كما أرسل غيره هادياً في أقوام أخرى. وهذه الهداية، لكي تكون مجدية، وجب أن تبتدىء من الدرجة التي عليها القوم لا من درجة فوقها. وهذه هي الهداية الصحيحة. فإن معلم المدرسة العالم الخبير لا يبتدى تعليم الأحداث علم الجبر والهندسة والمنطق قبل أن يكونوا أكملوا دروس الحساب والجغرافية والأشياء. ولو أن المسيح ومحمداً تبادلا الرسالة فظهر المسيح في العربة وظهر محمد في سورية لما كانت رسالة المسيح ابتدأت على الدرجة العالية التي ابتدأت بها في سورية ولما كانت رسالة محمد ابتدأت على الدرجة العالية التي ابتدأت بها في العُربة. لو كان محمد في سورية لما وجد حاجة للكرازة بأهمية العلم لأن السوريين كانوا السبّاقين فيه وإليهم يعود فضل تعليم العرب العلم والفلسفة كما تشهد بذلك التواريخ العربية عينها.
هاني بعل
للبحث استئناف

،1(الزوبعة) ،بيونُس آيرس

العدد (19)، 30/4/1941

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى