الحالة السياسية في الوطن – عودة إلى اللعبة القديمة



منذ سنة 1935، سنة اكتشاف الحزب السوري القومي، حتى اليوم والحكومة الفرنسية تستنفد قواها وتبذل غاية جهدها في منع اختمار الشعب السوري بفكرة القومية الصحيحة، التي أخذ الحزب السوري القومي يبثها في جميع أوساط الشعب، وفي فعل الممكن لمنع قيام القيادة السورية القومية بتوجيه الشعب السوري كله وفاقاً للنظرة السياسية العالية، والفهم السياسي العميق، والدقة التكنيكية المتناهية المستتبة لزعامة الحركة السورية القومية.

ومنذ أُعلنت الحرب العالمية الحاضرة حتى اليوم، ولا دأب للفرنسيين غير اتقاء استفحال أمر الحركة السورية القومية ودرء خطرها على سلطتهم غير المشروعة. فمن بين جميع الحركات «الوطنية» والأحزاب والجمعيات لم تهتم السلطة الفرنسية لغير أمر الحزب السوري القومي، لأنها كانت تشعر أنّ أمر هذا الحزب قد أصبح كالبركان القريب الثوران. فقررت القبض على رجال قيادته الموجودين في الوطن وزجهم في السجون، لأن بقاءهم أحراراً بينما الفرنسيون على أهبة الانهماك بقتال طاحن، يقضّ مضاجعهم ويعرقل خططهم، ولما حبطت محاولات السلطة الفرنسية للقبض على كبار رجال الإدارة القومية لجأت إلى أقبح حيلة عرفت في تاريخ الدول، وهي حيلة اتخاذ كلمة الشرف الدولي وسيلة للغدر. فأرسلت هذه السلطة، على ما بيّنته رسالة وردت على «سورية الجديدة» السنة الماضية ونشرتها في عددها الصادر في 13 أبريل/نيسان 1940، تعرض على الحزب السوري القومي المفاوضة لعقد اتفاق على أساس مطاليب الحزب، طالبة انتداب شخصية عالية لها حق المفاوضة والبتّ. فاختار رئيس مجلس العمد نفسه، الأمين نعمة ثابت، أن يذهب بنفسه للقيام بالمفاوضة، مع علمه أنّ طلب المفاوضة قد يكون حيلة خسيسة للإيقاع بإدارة الحزب. ولما ظهر كرجل شريف، جريء يهزأ بالمخاطر وينتظر أن يكون للدولة التي عرضت المفاوضة بقية من شرف العهد وحرمة المنزلة وضع رجال تلك الدولة أيديهم عليه وأخذوه إلى السجن.

استنفدت السلطة الفرنسية كل حيلة في أمر الحزب السوري القومي حتى لجأت إلى حيلة المكر والغدر التي تلجأ إليها الدول الواقفة على شفا جرف هاوٍ ولم تبقَ لها ثقة بنفسها ولا إيمان بقضيتها. هذا ما أدركه رجل من كبار رجال النهضة السورية القومية الأمين نعمة ثابت. فلمّا جرى بحث أمر المفاوضة في مجلس العمد، وأبدى بعض أعضائه خشيتهم أن تكون المفاوضة حيلة خسيسة للقبض على بعض رجال إدارة الحزب، واقترحوا عدم إجابة الفرنسيين إلى دعوتهم للمفاوضة، قال الرئيس ثابت قوله الخطير الذي تمَّ على الفرنسيين وهو: «إذا كان في هذه المسألة احتيال كان دليلاً على فساد الدولة التي تأتيه وضعف دعائم سلطتها وعلى أنّ نجاح قضيتنا السريع أمر مؤكد. إني أذهب وحدي فإذا وقع الغدر الذي تتوقعونه فثقوا بأن انتصارنا أكيد وليقم كل منكم بواجبه».
لم يمر وقت طويل على هذا القول حتى تقوضت دعائم فرنسة وسقطت تحت أقدام الجيش الألماني الفاتح الذي أخضعها في أيام معدودة من بدء المعارك مع جيشها.

بعد القبض على رئيس مجلس عمد الحزب السوري القومي بهذه الحيلة الشائنة، وكانت قد ألقت الحكومة القبض قبل ذلك على العميد الأمين جورج عبد المسيح، سعت الجاسوسية سعياً حثيثاً وتمكنت من القبض على عدد آخر من رجال الإدارة العليا، أمثال الأمين عبد الله قبرصي المحامي، فضلاً عن عدد كبير من القوميين في دمشق وحمص وحلب وحماه وفي طرابلس وزحلة ومشغرة. فأوقف مئات من القوميين وجرى التنقيب في كل مكان للعثور على خطط الحزب ووثائقه على غير طائل. وبقي عدد من رجال الإدارة العليا أمثال الأمين مأمون أياس وجبران جريج بعيدين عن متناول أيدي رجال الحكومة، إلى أن كان حادث اجتماعهم السري في بيروت الذي جرى من غير اتخاذ الاحتياطات المعهودة في مثل هذه الظروف، لسبب لا بدّ أن يظهر فيما بعد، حيث داهمت الاجتماع قوة من رجال الشرطة الخفية بقيادة رئيسها أسعد البستاني وألقت القبض على المجتمعين، على ما أكَّدته الأخبار التي نشرتها عدة صحف وأثبتتها «سورية الجديدة» في عددها الصادر في 5 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

كل ذلك فعلته السلطة العسكرية الفرنسية لكي تمنع اختمار الفكرة القومية في الشعب وتحول بين الشعب والقيادة القومية. فماذا كانت النتيجة؟
إنّ الأخبار المتواترة في الأسابيع الأخيرة الواردة في برقيات الشركات الكبرى تعطي الجواب المفحم.
سقطت فرنسة تحت طيارات الجيش الألماني ودباباته. ولكنها لا تزال متشبثة بفكرة الامبراطورية ولا تزال تحلم باستعباد شعب حر. فلم يمضِ على سقوطها وقت يذكر حتى أعلنت أحكامها العسكرية القاسية على الزعيم وأركان إدارته، سالكة خطة الإرهاب. ولكن الحزب السوري القومي الناهض لم يلقِ سلاحه ولم ينفك عن الجهاد. واستمرت عملية تخمير الشعب وإعداده للوقوف في وجه المستبدين بحقوقه.

استمرت المناشير توزع في بيروت ودمشق، في كل مدينة وكل قرية. وعادت السلطة العسكرية فألقت القبض من جديد، بواسطة مدير رجال الشرطة الخفية أسعد البستاني الغيور على مصالح الجيش الامبراطوري المتسلط على البلاد، على زمرة أخرى من رجال الحزب العاملين في عدادها الأستاذ جورج حكيم أستاذ الدروس الاقتصادية في الجامعة الأميركةنية، والأستاذ زكريا اللبابيدي المحامي، وغيرهما.

ومع أنّ السلطة أطلقت سراح جميع السياسيين الآخرين، أمثال نبيه العظمة وسيف الدين المأمون، فهي لم تتخلَ عن رجال الشأن في الحزب السوري القومي، بل تشبثت بهم تشبث الغريق بخشبة طافية. يمكن التساهل مع جميع أعداء الاحتلال الفرنسي ولكن لا يمكن التساهل مع رجال الحزب السوري القومي، لأن خطر أولئك خطر محدود، أما خطر القوميين فغير محدود. هذه حقيقة راهنة خَبِرتها السلطة الفرنسية تكراراً.

لأول مرة بعد الاحتلال تجد فرنسة نفسها في سورية تجاه قوة راقية تنمو وتعظم باستمرار، وفاقاً لسنّة النشوء والارتقاء ولنواميس الطبيعة والاجتماع. لأول مرة وجدت فرنسة نفسها أمام عدو للاستعباد والاستعمار يختلف بطبيعته عن جميع الأعداء الرجعيين، الاعتباطيين. في الحزب السوري القومي وجد الاستعمار الفرنسي عدواً متعلماً، واسع الثقافة، مدركاً للأسباب والمسببات، عارفاً بدخائل الأمور ومخارجها، حكيماً لا يتردد وشجاعاً لا يتهور، يأخذ بأسباب النشوء الطبيعي ويعلم أنّ الطفرة محال، مؤمن برسالته القومية ومخلص لها، شخّص الداء تشخيص الخبير وعالج العلة في صميمها، هو عدو قبض على خناق العداوات الداخلية بيدٍ من حديد، فأزهق روحها وأحلّ الوفاق والإخاء القومي محل التنابذ الديني والعشائري، وأخذ يحوّل الأمة إلى جيش عظيم سيأتي يوم يكون له شأن وأي شأن. فقامت السلطة الفرنسية في سورية تناهض هذا الحزب بكل قواها، واتخذت خطة حرب الأعصاب والإرهاب. ولكن النتيجة لم تكن كما توقعت السلطة.

النتيجة كانت أنّ الحكومة قبضت على عدد من رجال إدارة الحزب العليا عدة مرات واعتقلت مئات القوميين لمذّات قصيرات. ولكن عملية تخمير الشعب السوري بالمبادىء القومية لم تتوقف يوماً واحداً. ودلّت إحصاءات الحوادث على اتساع انتشار الحركة السورية القومية اتساعاً مطّرداً. وفي كل حادث اعتقال جديد كان التحقيق يمتد إلى مناطق جديدة لم تكن محسوبة من المناطق القومية.

وكانت النتيجة الكبرى أنّ لقاح التفكير القومي اتصل بأدمغة الشبيبة، خصوصاً بين طلاب المدارس والجامعات. أصبحت المبادىء السورية القومية ذات جذور قوية ذاهبة في الأرض. فخسرت السلطة الاستعمارية أول معركة خطيرة، وأحرزت الحركة السورية القومية أول انتصاراتها الباهرة بعد حرب أعصاب عنيفة هائلة.

استمرت المناشير القومية التي لم تتمكن الاعتقالات من إيقافها. وبينما رجال السلطة الفرنسية يؤكدون أنَّه لم يتغير شيء، إذا بالحركة السورية القومية تذيع وسط النار والدم أنّ القوة السورية القومية قد حققت قول الزعيم أنها ستغيّر وجه التاريخ. وجه سورية قد تغيّر. الشبيبة السورية قد تحركت، والتخطيط السوري القومي يسدد خطواتها.

عمّت المظاهرات المدن السورية في جميع منطقة الاحتلال الفرنسي. فأذاعت السلطة أنّ المسألة مسألة افتقار إلى الخبز. ولكن حكومة الفزّاعات التي نصبتها في بيروت ودمشق لم تقدر على الثبات. سقطت فزّاعات دمشق أولاً. دولة رئيس مجلس المديرين بهيج بك الخطيب دالت. ثم تلاها سقوط أعظم فزّاعة عرفت في تاريخ الفزّاعات في العالم ــــ سقط صاحب الفخامة السخرية، مستعرض «قوات الجمهورية اللبنانية» في ساحة البرج المؤلفة من مئتين أو ثلاث مئة من حاملي البنادق المسخّرة لحراسة الفزّاعة!
سقط صاحب الألقاب الموضوعة في غير موضعها الذي روي عن بيانه الساحر أنه نطق مؤكداً للفرنسيين أنّ اللبنانيين يساقون بالعصا، وأنه يكفل لهم إخضاعهم بالعصا مدى حياته، إذا كفلوا له «رئاسة الجمهورية» مدى حياته، المسيو، الشفاليه، الذي كان يخاطب أبناء وطنه بلغة أجنبية إميل إده.
لم يقدر الفرنسيون أن يكفلوا له «رئاسة الجمهورية» مدة حياته، لأن اللبنانيين لم يكونوا تلك الحيوانات التي تكلم عنها «فخامته»، ولأن الشباب أخذ يهدد بإحراق الأخضر واليابس، ولأن الحركة السورية القومية التفتت وأبدت نواجذها!
سقط إميل إده وسقط معه صاحب المعالي عمر بك بيهم.

مع كل ذلك لم تستفد السلطة الفرنسية من الدروس التي ألقيت عليها في آسية، كما أنها لم تستفد من الدروس التي ألقيت عليها في أوروبة. فعادت تبحث عن بقايا الفزّاعات. وحاولت أن تعيد عهد «الكتلة الوطنية» التي أوصى السيد غارا في تقريره بالاعتماد عليها لولائها لفرنسة، ولكن السيد هاشم الأتاسي المعروف بنزاهته وحسن طويته لم يشأ الرجوع إلى ذلك العهد المشؤوم، وخشي غيره عاقبة السير قد مشيئة الإرادة الجديدة في الشعب. فخابت من هذه الجهة ولكنها اهتدت إلى آخر «باب» من «أبواب» الشعوذة فألّفت حكومة أسندت رئاستها إلى السيد خالد العظم فشكل حكومته بالاشتراك مع صفوة خطار الغزي وجان صحناوي وإحسان البرازي ونسيب البكري.

هذا في دمشق. أما في بيروت فقد اهتدت إلى رجل جديد هو ألفرد نقاش، رئيس محكمة الاستئناف. وتقول برقية لــ«يونيتد برس» صادرة عن بيروت بتاريخ 12 أبريل/نيسان إنّ حكومة جديدة قد تألفت برئاسة السيد نقاش يشترك فيها عدد من رجال القضاء والمحاماة، وإنّ هذه الحكومة قد تشكلت.
وقد وردنا من مصدر خاص أنّ الحكومة اللبنانية تألفت على هذا الشكل: رئيس: ألفرد نقاش ماروني، الشؤون الداخلية: أحمد الداعوق، مسلم سُنِّي. شؤون الثقافة والبريد والبرق: يوسف النجار، أرثوذكسي. الشؤون المالية والتموين: نجيب بولس، أرثوذكسي. وكيل شؤون المعارف. فؤاد عسيران، شيعي، وأنّ السلطة قد أعادت «الحياة الدستورية».

يذكّرنا هذا التدبير بالتدبير السابق له حين أعادت السلطة الفرنسية «الحياة الدستورية» في لبنان لكي تحوّل الأنظار عن الحركة السورية القومية التي أخذت تنتشر في البلاد ولكي تلهي الشعب بالتحزبات الداخلية العمياء والمشاحنات على «النيابة» و«الوزارة» و«رئاسة الجمهورية» وغير ذلك من الألقاب.
إنّ هذه الضلالة الأخيرة لن تكون أحسن مصيراً من الضلالة الأولى.
إنّ النهضة السورية القومية قد قررت مصير الانتداب في سورية!

الزوبعة، بوينس آيرس،
العدد 18، 15/4/1941

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى