الحرية وأم الحرية – تأملات في الثورة الفرنسية

جمال، عظمة، أبّهة، مجد، حرية، تاريخ ــــ فرنسة!
أمام الجمال قف متأملاً، وأمام العظمة قف متمعناً، وأمام الأبهة قف متهيباً، وأمام المجد قف صاغراً، وأمام الحرية إشمخ بأنفك واهتف، وأمام التاريخ قف متذكراً معجباً، أما أمام فرنسة فخرّ على ركبتيك ساجداً، لأنك إذا كنت أمام كل مظهر من هذه المظاهر الساحرة تقف خاشعاً متأثراً، فإنك أمام فرنسة لا يسعك إلا أن تخرّ على ركبتيك وتسجد لهذا الاسم المقدس لأن فرنسة تمثل الكل.

لست بأول شارح لهذه العقيدة، فقد شرحها قبلي الكثيرون من الكتّاب الكبار الذين يعوَّل على بُعد نظرهم وتعمق أبحاثهم في تعليل التقدم الإنساني وارتقاء البشرية، ورفعوا فرنسة إلى أعلى ذرى المجد وأسمى درجات الجلال. وليس موقفي الآن موقف من يجدّ في اقتفاء آثار أولئك الكتّاب ويكدُّ للوصول إلى النقطة التي بلغوها، لأن أولئك ساروا في سبيل العظمة والمجد والتاريخ والألوهية معظِّمين ما تناولته أقلامهم وممجِّدين ما حسن في أعينهم ومورِّخين ما أعجبت به عقولهم ومؤلِّهين ما صبَت إليه نفوسهم وجرت به أقلامهم، حتى أصبحوا آلهة وكل ما كتبوه إلهياً مؤلَّهاً، يؤمن عليه الناس تأمينهم على وحي هبط إليهم من السماء. أما أنا فأسير في سبيل ملأى بالحقائق لا بالمظاهر، وسبيلي لا تؤدي إلى الألوهية بل إلى الإنسانية. فكل ما أبحث فيه في الموضوع الذي أنا بصدده الآن إنسانيٌّ بحت لا شأن للآلهة ولا للألوهية فيه.

أجل، لقد أصبحت فرنسة بفضل هؤلاء الكتّاب والتاريخ في مصاف الآلهة المبدعة التي تُنزل الآيات البينات وتُهبط الموحيات الخالدات لتهدى الإنسانية إلى السلام والسعادة وتنير لها طريق الحرية والمحبة. لذلك أحب كثير من الناس فرنسة حباً بلغ درجة العبادة. وإني إذا كنت قد قلت لك أن تسجد لفرنسة على سبيل المجاز، فإن من الناس من يسجد لها متمماً هذا القول بالحرف.
ابتدأ عصر مجد فرنسة الإلهي بعد الثورة الفرنسية الشهيرة التي شبّت في أصيل القرن الثامن عشر. فقد ألبس التاريخ هذه الثورة ثوباً قشيباً وعدّها أعظم ضربة سقطت على العبودية التي كانت ترسف في قيودها البشرية جمعاء. لذلك تقدِّس الأمم الأوروبية والأميركية يوم الرابع عشر من يوليو/تموز، وتعيِّد فيه لأنه يوم تلك الثورة الهائلة.
منذ ذلك الزمن حتى اليوم والبشرية تنظر إلى فرنسة بعين الإعجاب والإجلال، حاسبة إياها منقذة الإنسانية من وهدة العبودية ومُسيّرتها في سبيل الحرية، حتى أنها دعت يوم الرابع عشر من يوليو/تموز يوم الحرية الإنسانية، وجعلته عيداً رسمياً تحتفل فيه بتذكار الثورة الفرنسية، فتنبري العواصم والمدن الأوروبية والأميركية مكسوة بالأعلام المتعددة الألوان وإلى جانب كل منها علم فرنسي. وتبرز الجرائد والمجلات طافحة بالمقالات الفلسفية والتاريخية التي دبجتها أقلام مشاهير الكتّاب، وكلها ملأى بعبارات التعظيم والتمجيد لفرنسة والرابع عشر من يوليو/تموز.

منذل ذلك الزمن حتى اليوم، والكتّاب والخطباء يهتفون أنّ عار العبودية قد غسلته دماء الثورة الفرنسية التي جرت في مدن فرنسة وعاصمتها باريس أنهراً متشعبة الفروع وتدفقت شآبيب شآبيب، وأروت هضاب وأودية تلك الأرض العطشى إلى الدماء، الجائعة إلى الحروب. ومنذ ذلك الزمن حتى اليوم وشعوب العالم المتمدن تحذو حذو أولئك الكتّاب والخطباء، وتهتف لفرنسة كلما أكملت الأرض دورتها حول الشمس مرة في الرابع عشر من يوليو/تموز، ناعتة إياها بأم الحرية تارة وتارة بمنقذة الإنسانية وطوراً بإلهة المدنية.

«عار الإنسانية، ذل البشرية، شقاء الشعوب، كل هذه قد محتها الثورة الفرنسية وغسلتها بالدم». هذا ما يهتف به الكتّاب والخطباء في الرابع عشر من يوليو/تموز، وفي كل زمن يجيء فيه ذكر الحرية والعبودية أو إسم فرنسة، في حين أنّ عار الإنسانية وذل البشرية وشقاء الشعوب كلها أمور لا تزال منطبعة على جبهة الإنسانية، وهي تزداد وضوحاً كلما ازداد النوع البشري ارتقاء. ولم تكن تلك الثورة الهائلة التي يعدّها الكثيرون من أمجد صفحات الإنسانية وأشرف ما تفاخر به فرنسة، إلا أكبر لطخة عار وسمت بها جبهة الإنسانية وأشد ظلاماً من كل ما عرف من تاريخ فرنسة المظلم.

وكأني بأولئك الكتّاب والخطباء السائرين في موكب الهتاف لم ينظروا إلى الثورة الفرنسية إلا من الوجهة التي نظر إليها التاريخ، أي إلى حوادث الثورة ومدارها نفسها من حيث المكان والزمان لا من الوجهة الحقيقية الجديرة بالنظر وهي أسباب ونتائج تلك الثورة. فكانت كتاباتهم وخطبهم أشبه شيء برواية يقوم أبطالها بأعمال عظيمة مدهشة، كقصل أعناق الملوك والأمراء ودك جدران الباستيل، إلى غير ذلك من الحوادث التي لها أهميتها ولكنها ليست أهم ما في تلك الثورة المريعة. ولكن كيف ينتظر العالم منهم كتابة ما لم يُسطِّره التاريخ وهم قد استقوا مادتهم من التاريخ وقصَّروا مصادرهم على التاريخ، كأنهم لا يدركون أنّ هنالك ما هو قبل التاريخ وأهم من التاريخ، وهو الحقيقة الفلسفية التي تبحث في مسببات الأمور ونتائجها وتحكم بخيرها للإنسانية أو شرها ونفعها أو ضرّها. لذلك كانوا كلما كتبوا شيئاً عن تلك الثورة كرروا على مسامعنا عبارات «هو ذا التاريخ أمامكم اسألوا التاريخ»، فكان التاريخ شاهدهم الوحيد في كل ما يكتبون أو يقولون.

لو كانت مسألة الثورة الفرنسية مسألة تاريخ فقط، لم يكن هنالك بد من الإيمان بالثورة الفرنسية وتقديس ذكرها عند سائر الشعوب التي تنشد الحرية وتكره العبودية والاستبداد. ولكن المسألة على خلاف ذلك، والحكم في أمر الثورة الفرنسية ليس عائداً إلى التاريخ، بل إنّ البتّ في حقيقة أمر تلك الثورة يقتضي له أبحاث طويلة وتفكير عميق في علوم الحياة والنفس ودرس طبائع الشعب الفرنسي وغرائزه وطبائع الشعوب الأخرى وغرائزها. فالحكم بأن الثورة الفرنسية كانت من أكبر العوامل التي كان القصد منها القضاء على العبودية وترقية الإنسان في سبيل الحرية والمدنية، وأنّ نتيجتها كانت كذلك دون أن يكون ذلك الحكم صادراً عن تحليلات وتعليلات فلسفية سيكولوجية تقنع العقل الإنسان بأن الثورة الفرنسية أفادت الإنسانية، وأنّ انهيار جدران الباستيل واقتلاع ارتجته قضى على العبودية الشعبية، وأنّ الدماء التي طافت في شوارع وأزقة باريس غسلت ذل فرنسة وعار الإنسانية معاً، وبالتالي إنّ الثورة الفرنسية من أمجد صفحات الإنسانية وأشرف ما تفاخر به فرنسة ــــ قلت إنّ الحكم بذلك دون أن يكون هنالك تحليلات وتعليلات يقبل بها العقل، لا لأنها تحليلات وتعليلات فلسفية سيكولوجية بل لأنها تقرر حقيقة مقنعة مفعمة بالبراهين والحجج الدامغة حتى لا يكون الحكم مقتصراً على سفسطات تاريخية أكل عليها الدهر وشرب ومضغتها أفواه الكتّاب والخطباء حتى لم يبقَ هالك ماضغ، لمن الأمور التي فيها من التحقير لمدارك العقل البشري ما يجعلنا نشك في تقدم الإنسان وارتقائه.

ماذا يمكن التاريخ إفادتنا عن تلك الثورة المريعة من حيث نفعها للإنسانية أو ضرّها؟ وكيف يمكن التاريخ تبرير عمل تلك الثورة؟ والتاريخ ليس إلا عبارة عن صورة ثابتة لحوادث سابقة لا تعلل عن شيء فيما يختص بفلسفة تلك الحوادث. وهل أنّ سبق تلك الحوادث يفيد أنها هي الفاعلة في الارتقاء الإنساني وأنها هي التي أوصلته إلى الموقف الحالي، أم أنّ مجرد قولنا إنّ تلك الثورة دكّت عرشاً وخلعت ملكاً يصح أن يعبّر عن أنّ دك ذلك العرش وخلع هذا الملك كانا عملاً مفيداً للإنسانية وعاملاً عظيماً في تحرير البشرية من قيود العبودية والسير بها إلى مرتع الحرية؟

إذا كنا نستدل بالتاريخ على الماضي، فإنما نفعل ذلك لنعيد إلى ذاكرتنا الحادثات والاختبارات التي مرت بالنوع البشري في الأزمنة التي سبقت زماننا. أما الحكم بنفع تلك الحادثات والاختبارات أو ضرّها وما هو مبلغ تأثيرها في أحوال النوع البشري برمته وكيفية فعلها فيه، فغير مختص بالتاريخ. لذلك كان التعليل عن الثورة الفرنسية من الوجهة التاريخية فقط خطأ تمشى عليه أكثر الذين يعتبرون الثورة الفرنسية منقذة البشرية من هوة العبودية، ويعتقدون أنّ فرنسة حاملة لواء الحرية وفي مقدمة الأمم التي تعتبر حقوق الإنسان الطبيعية وتحترمها.

إنّ المظهر التاريخي الذي ظهرت فيه الثورة الفرنسية والزمان والمكان اللذين حدثت هذه الثورة فيهما أكسبتها صفة سامية، فهي قد نشبت في زمان كانت في سلطة الملوك مستمدة من الله لا من الشعب ــــ في زمان بلغ فيه استبداد الملوك بالرعية حداً عجز عنده البشر عن احتماله. ويكفي لتعريفه أنه زمان القرون الوسطى، وفي مكان كان مركز قوة عظيمة للاستبداد وخزاناً هائلاً للظلم ينفتح فتتدفق منه الأوامر التي لا مردَّ لها كأنها القضاء والقدر، وينفذها مأمورون تجري في عروقهم دماء «الشرف والإخلاص»، فتساق الأنفس التي تعمل على تكدير راحة «ولي النعمة» وتعكير صفو حياته إلى ظلمات لا يخرجون منها إلا إلى ظلمة القبر. ذلك كان شأن فرنسة قبل الثورة، وهذا هو التعليل لتلك الثورة الهائلة.

ولكي لا يلتبس فهم هذا التعليل على المُطالع، يحسن بي أن أوضحه على صورة تلم بالنظرية العامة القائلة بأن الثورة الفرنسية من أكبر العوامل في ارتقاء الحرية وإبادة العبودية، وأنّ فرنسة أُمّ الحرية وحاملة لوائها. فالذي عليه جلّ النظر بين الذاهبين هذا المذهب أنّ الثورة الفرنسية أصابت العبودية في القلب فأردتها. وهم يبنون نظريتهم هذه على تعليل أنّ الاستبداد والعبودية هما نتيجة مقرَّرة للمبدأ الأرستوقراطي، لا بل إنهما من بعض صفاته، وأنّ المبدأ الأرستوقراطي ليس إلا عبارة عن نظرية واعتقاد يتشبث بهما الأفراد الذين يميلون إلى السيادة التامة والحكم المطلق والاستبداد بالشعب. وحسب هذا التعليل يكون الاستبداد والعبودية منحصرين في المبدأ الأرستوقراطي، والمبدأ الأرستوقراطي منحصراً في الملوك والأشراف، إذ هم الأفراد الاستبداديون وأصحاب عقيدة الأرستوقراطية. وعلى هذا الرأي كان الكاتب الفرنسي الشهير روسو. وبموجب هذا التعليل أطلق على هؤلاء إسم «أرستوقراطيين». ومن ثم كان لا بدّ لإبادة العبودية والاستبداد من إبادة الأرستوقراطية، وإبادة الأرستوقراطية تعني إبادة الأرستوقراطيين.

بناءً على هذه النظرية وهذا التعليل، اعتُبرت الثورة الفرنسية التي قضت على الملك والملكية وأعدمت أكثر حكام الملك والأشراف، ثورة الديموقراطية ضد الأرستوقراطية، أو بالحري ثورة الحرية ضد الاستبداد والعبودية، وهذه هي الصفة السامية التي يهتف لها العالم.

بيد أنّ هذه النظرية نظرية فاسدة إذا قرأناها بفلسفة أعمق وبحث أدق وأوسع، وعلّلناها تعليلاً أعمّ وأكمل. فإن الأرستوقراطية بمعناها الأصلي الذي عرّفها به شيشرون وأرسطو هي حكم الأفضلين أو حكم الأفضل.

الأرستوقراطية غير منحصرة في الملوك والأشراف، لأن الأرستوقراطية على أنواع شتى. فمنها أرستوقراطية المال وأرستوقراطية العقار وأرستوقراطية القوة وأرستوقراطية النبوغ وأرستوقراطية اللقب. وما أرستوقراطية الحسب التي يتمتع بها الملوك والأشراف إلا جزءاً صغيراً من الأرستوقراطية الكاملة، وهي ليست ملازمة للملكية كما يفهم ذلك بعض الذين يتلقفون الأمور كيفما اتفق، بل هي موجودة في الجمهورية أيضاً. وقد جاء في تعريف أرسطو لها ما معناه أنّ الأرستوقراطية أقلية من ذوي الأهلية والفضل، يسودون في جمهورية فيديرون شؤونها وينفّذون القوانين الموضوعة بأمانة ودقة ويقومون بعبء الحكم حباً بالمصلحة العامة والخير العام. وهذا يعني أنّ الأرستوقراطية يمكنها أن تحيا وتنمو بدون الملكية، فهي أبداً موجودة في كل نفس تضطرم بشعلة الارتقاء والتفوق وفي كل فرد أفضل.

قد حدد روسو وفولتير وغيرهما من الكتّاب الذين كان لهم شأن كبير في إضرام الثورة الفرنسية أقلامهم وشحذوا رؤوسها وانهالوا بها على الملكية والأرستوقراطية بصواعق المقالات، وصوروا للشعب الفرنسي أنّ حريته تتوقف على إسقاط العرش وإبادة الأرستوقراطيين. فكانت كتاباتهم من أكبر العوامل المثيرة لهمّة الشعب الفرنسي على إضرام تلك الثورة والمناداة بما سمّوه «حقوق الإنسان».

ولكن هل خلّصت الثورة الشعب الفرنسي من عبوديته؟ وهل أزالت الظلم والإجحاف اللذين كانا لاحقين بالإنسان وحقوقه؟

ليت جان جاك روسو وفلوتير وسائر الكتّاب الأحرار يعودون ليبصروا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم ويلمسوا بأيديهم النتيجة المحزنة لتلك الثورة المريعة. ليتهم عادوا وأبصروا أرتجة وجدران الامبراطورية النابوليونية تقام على ضحايا الشعب الفرنسي وسائر الشعوب الأوروبية. ليتهم عادوا وأبصروا الدماء والحروب التي ترتبت على نتائج الثورة الفرنسية التي يعتقد العالم أنها أُضرمت حباً بحقن الدماء وإبطال الحروب. ليتهم عادوا وأبصروا أبناء فرنسة الذين جاهدوا في سبيل حريتهم يساقون إلى مجاهل روسية سوق النعاج، حيث يفترسهم الجوع والبرد والنار ويذهبون ضحية مطامع فرد قام من وسطهم وأذاقهم من الظلم والاستبداد والإجحاف ما لم يذوقوه على عهد الملكية الذي سبق الثورة. وليتهم يعودون الآن ويرون ما إذا كان إجحاف الجمهورية بحقوق الإنسان أقلّ من إجحاف الملكية بها.

إنّ المبادىء السامية التي بشّر بها روسو ورصفاؤه، والتي إليها يعزو جمهور الكتّاب نشوب الثورة الفرنسية، لم تكن في الأصل مبادىء فرنسية لذلك انقلبت بعد تلك الثورة شر منقلب. وبعد أن كانت الإنسانية تخاف شر ملوك فرنسة، أصبحت تخاف شر زعماء فرنسة غير الملوك الذين هم بالحقيقة أشد خطراً على الإنسانية، وأكثر إجحافاً بحقوق الإنسان من الملوك المتوجين. ولا يفرق استبداد زعماء فرنسة بعد الثورة عن استبداد ملوكها قبل الثورة، إلا في أنّ الملوك استبدوا بما أوتوه من سلطة اللقب، أما الزعماء الذين خلفوهم فيستبدون بما لهم من سلطة السياسة والدهاء متسترين تحت غطاء الديموقراطية والحرية.

لقد حاولت الثورة الفرنسية أن تبيد الأرستوقراطيين من البلاد، ولكنها لم تكن لتبيد إلا أزكى وأشرف دم أنجبته فرنسة. أما الأرستوقراطية فقد تجلت بعد إبادة أولئك «الأرستوقراطيين» في الجمهوريين الديموقراطيين الذين خلفوهم بأشد قسوة وأكثر استبداداً. وإننا إذا بحثنا في نتائج الثورة الفرنسية في فرنسة وحدها، بصرف النظر عن نتائجها في الخارج، وجدنا أنها لم تحقق الأماني التي عقدت عليها من هذه الوجهة. فإن الثورة بإبادتها الملوك والأرستوقراطيين، انتزعت السلطة من أيدي أشخاص ربوا على إتيان المكرمات والطموح إلى كل ما هو شريف وعظيم بحكم ما يكتسبونه من محيطهم الممتاز فضلاً عن تأثير الوراثة المباشرة وغير المباشرة، مما يجعلهم يفقهون المركز الذي هم فيه ويرغبهم في السير في سبيل مستقيمة شريفة حفظاً لمركزهم وصيانة لأسمائهم، لتجعلها بين أيدي أفراد ربيَ كثيرون منهم على المكر والدهاء يعرفون من أين تؤكل الكتف، فضلاً عن أنهم لا يحجمون عن إتيان الصغائر في سبيل غاياتهم ومآربهم. فكانوا ولا يزالون يتلاعبون بأفكار الأمة وعواطفها تلاعب الصبيان بالأكر، بعضهم بما أوتيه من التملق والاستمالة والبعض الآخر بما فطر عليه من المكر والدهاء.

لهذه النتيجة تعليل ينطبق على المثل العربي المشهور القائل «كما تكونون يولَّى عليكم». أما التعليل الذي وجدته أنا وأظنه أكثر انطباقاً على الواقع، فهو أنّ طبيعة رجال كل أمة تعود إلى طبيعة الأمة نفسها. فإذا كانت الأمة ميالة بطبيعتها إلى الظلم والاستبداد وسفك الدم، كان رجالها وزعماؤها ميالين بحكم هذه الطبيعة إلى إتيان الأمور المتقدمة. وما أحراني في مثل هذا الموقف بتشبيه الأمم بالأشجار التي تنمو وتورق وتعطي ثماراً من نوعها. فكما أنّ إعطاء أثمار الشجرة الواحدة أسماء جديدة غير التي كانت لها لا يغيّر شيئاً من طبيعتها، كذلك إعطاء رجال الأمة الواحدة ألقاباً جديدة غير التي كانت لهم لا يغيّر شيئاً من طبيعتهم. فإذا رأينا بين رجال الأمة الفرنسية وزعمائها الذين عقبوا الثورة الفرنسية حتى اليوم من هم أكثر استبداداً وأبعد مطامحاً إلى السيادة والسلطة من الملوك الذين تقدموا الثورة، فلأن ذلك عائد إلى الطبيعة الاستبدادية المتأصلة في الأمة الفرنسية التي يظهر أنّ تغيير حكومتها من الملكية إلى الجمهورية لم يُحدث في طبيعتها تغييراً ما.

أما الإنسانية؟ ماذا استفادت الإنسانية من تلك الثورة؟ على هذا السؤال تسمع زمجرة الهاتفين وصياحهم قائلين «التاريخ. الحرية. الإخاء. المساواة. المبادىء الفرنسية. لا تنكروا ما لفرنسة».

يبحث بعض الكتّاب في مبادىء الحرية والإخاء والمساواة ذاهبين إلى أنها مبادىء أوحتها فرنسة إلى العالم بواسطة ثورتها الكبرى. وبناءً على هذه النظرية تكون فرنسة عند دعاة الديموقراطية أُمّ الديموقراطية ومبدعة هذه المبادىء السامية. بيد أنّ التوفيق بين هذه المبادىء والسياسة الفرنسية الحديثة والقديمة هو الدافع الذي حدا بي إلى التساؤل عما إذا كان هذا الزعم في محله.
ولقد استخلصت بعد إعمال الفكر في ما آلت إليه فرنسة بعد الثورة أنّ مبادىء الحرية والإخاء والمساواة ليست بالمبادىء الراسخة في روح الشعب الفرنسي، بل إنّ هذه المبادىء كانت حين إعلانها في فرنسة أشبه شيء بسحابة مرت على أرض رملية وأمطرتها فلم يفد المطر شيئاً وما كادت تلك السحابة تزول، حتى عاد الرمل إلى ما كان عليه.
ما كادت الثورة الفرنسية تضع أوزارها، حتى رأى الفرنسيون أنفسهم منقادين إلى إرادة رجل ضرب بهم في طول مجاهل أوروبة وعرضها، وساق أشداءهم إلى صحارى روسية البيضاء حيث زجهم بين لهيبين من حريق ودنق ورمى بهم إلى أنياب المشقة والجوع لأن البلدان الأخرى لم تكفِ لسد مطامحه الحربية. ثم جاءهم بعد ذلك الجمهوريون الذين كانوا ولا يزالون يتنازعون السيادة عليهم تنازع الرعاة على قطيع من الغنم، متذرعين للوصول إلى هذه السيادة بالشعب نفسه ومتسلحين بإرادة الأمة. وكم من مرة أدَّى ذلك إلى انقسامات كادت تجر على فرنسة الخراب والدمار؟

قال روسو في كتابه «كونترا سوسيال» عن الإنكليز وحريتهم ما يأتي «يعتقد الإنكليز في أنفسهم أنهم أحرار. إنهم يخدعون أنفسهم. إنهم أحرار في الوقت الذي ينتخبون فيه أعضاء البرلمان فقط، أما بعد انتخاب هؤلاء الأعضاء فإنهم يكونون عبيداً. هم لا شيء».

فروسو هزأ بالحرية الإنكليزية وعدّها حرية وهمية ليس لها من صفات الحرية إلا حرية انتقاء الآسيةد أو المستعبدين لأن الحكومة في إنكلترة ليست ديموقراطية. والحقيقة أنه وإن كان لا يزال لأرستوقراطية الحسب حقوقها في إنكلترة، نرى أنّ أرستوقراطيــي إنكلترة أكثر اهتماماً بشؤون أمتهم وأشد إخلاصاً وأمانة في خدمتها بما يوافق روحها وينطبق على راحتها وسعادتها من كثير غيرهم من ديموقراطيــي الأمم الأخرى وفي عدادهم ديموقراطيــي فرنسة. وهذا عائد إلى أمرين جوهريين: أولهما ارتقاء الشعب الإنكليزي إجمالاً إرتقاءً متيناً راسخاً، و ثانيهما تبادل الثقة بين الشعب والأمة بتبادل الحقوق والواجبات.

في إنكلترة يؤدي الأشراف الأمة حقوقها، أما في فرنسة فالأمة تتنازع حقوقها تنازعاً الأرستوقراطية الإنكليزية أرستوقراطية في الظاهر ديموقراطية في الباطن أو هي الأرستوقراطية الحقة التي تمثل الأفضلية بأبهى معانيها. أما الديموقراطية الفرنسية فديموقراطية في الظاهر، أوتوقراطية في الباطن وهي في مثل هذه الحال أسوأ أنواع الحكومات.

فواضح مما تقدم أنّ العِبرة ليست في دك العروش وقصل أعناق الملوك وإبادة الأرستوقراطيين ولا في نوع الحكومة. ولعل الخطأ الكبير الذي ارتكبه روسو في كتابه المشار إليه هو حسبانه أنّ الحرية لا يمكن أن تكون إلا مع الديموقراطية. ولمّا كان هذا المقام ليس مقام انتقاد مطول لفلسفة روسو، فإني أكتفي بالكلام عليه عند هذا الحد.

وقد استخلصت أيضاً من الحقائق المتقدمة أنّ المبادىء المتقدم ذكرها لا يمكن أن تكون مبادىء فرنسية لأنها وطبائع الشعب الفرنسي على طرفي نقيض. أما المناداة بها في الثورة الفرنسية فاقتباس عن الثورة الأميركية، وهو ما ثبت لدى الكثيرين من أهل النظر على الرغم من محاولة الفرنسيس نسبتها إلى روسو في الأصل. والحقيقة أنّ أصل هذه المبادىء يعود إلى ما قبل الثورتين الأميركية والفرنسية بأزمنة، فهي مبادىء مسيحية في الأصل. وكل من قرأ العهد الجديد من الكتاب المقدس يجدها متجلية في كثير من العبارات الفلسفية الخالدة التي فاه بها ذلك الناصري السامي. فالنصرانية هي التي أعطت العالم هذه المبادىء.

ومهما يكن من الأمر، فإنه لا يوجد في كل تاريخ فرنسة ما يثبت أنّ الثورة الفرنسية أضرمت تأييداً للمبادىء المتقدمة. وكل ما يمكن إثباته هو أنّ الثورة الفرنسية أضرمت للتخلص من استبداد وقتي بدليل أنّ الفرنسيين ما كادوا ينتقضون على استبداد ضعيف، حتى استسلموا إلى استبداد قوي. ولا أظن أنّ نكبة فرنسة والعالم بالملكية الفرنسية كانت أشد من نكبتها بالامبراطورية النابوليونية التي كلفت فرنسة والعالم دماءً وأموالاً كثيرة، وبدليل سياسة الدهاء والخداع التي يجري عليها جمهوريو فرنسة الآن وفي كل زمان.

إنّ السياسة الفرنسية التي عقبت الثورة الفرنسية، والتي لا تزال فرنسة جارية عليها، لم تبرهن قط على أنّ فرنسة رمت من وراء إضرام ثورتها خدمة الإنسانية وتأييد مبادىء الحرية والإخاء والمساواة. كما وأنها فشلت في أن تظهر فرنسة دولة تكره الظلم والجور وتبغض الاستبداد والاستعباد. وها نحن نراها الآن بعد أن خرجت من هذه الحرب الضروس دولة تسعى إلى الاستعمار والاستعباد جهد طاقتها، وتأتي في سبيل ذلك من ضروب الظلم والاستبداد ما لا يجوز صدوره عن أمة فيها مقدار حبة خردل من الكرامة الإنسانية، فكيف بأمة تعدُّ نفسها في مقدمة الأمم الراقية وتدّعي أنها أُمُّ الحرية ومبدعة المبادىء الإنسانية السامية؟

القول بأن الثورة الفرنسية أضرمت لترقية الحرية وتأييد الحقوق الإنسانية قول مؤوّل تأويلاً لا ينطبق على الحقيقة والفلسفة والواقع كما يتضح مما تقدم. ومهما يكن من أمر إعلان ما سموه حقوق الإنسان، فإن ذلك الإعلان الذي لا يختلف كثيراً في نتائجه عن إعلان حرية الشعوب الصغيرة أثناء الحرب، لم يُبح للفرنسيين إلا حرية الانغماس في حمأة الشهوات والرذائل التي تصرفهم عن سائر الشؤون وتجعلهم سهلي الانقياد. وهذه هي الحرية الوحيدة التي يتمتع بها الفرنسيون بكل ما في كلمة الحرية من المعنى.

لقد أكثر البشر الذين تعودوا أن ينتقضوا على كل قديم ويحبذوا كل جديد ويعرضوا عن الحقائق ويتعلقوا بأذيال الخيال، من الإطناب بالثورة الفرنسية وفرنسة إلى حد كادوا عنده يقطعون على أنفسهم كل مجال للتفكر في ماهية ما يطنبون به. والحقيقة أنه لو لم تكن الثورة الفرنسية خالية من المبادىء السامية المنسوبة إليها لما انتهت بمثل هذا الإفلاس الذي لا نظير له في العالم.
وعندي أنّ الثورة الفرنسية أعظم مجزرة عرفها التاريخ وأكبر خدعة خُدع بها العالم إلى اليوم، لأنها وما ترتب عليها من الحروب والمجازر الأخرى في العالم لم تهب العالم الحرية والإخاء والمساواة، ولكن أفقدته كثيراً من زهرة رجاله وكبّدته خسائر حسية ومعنوية كبيرة.

لا أريد بما تقدم أن أقول إنه كان يجب على الفرنسيين أن يبقوا خاضعين لاستبداد حكامهم ويستمروا في حال العبودية التي كانوا عليها. ولكني أقول إنّ مبادىء الحرية والإخاء والمساواة ليست مبادىء ابتدعتها الثورة الفرنسية لأنها مبادىء مسيحية، وإنّ الفرنسيين بعد أن أضرموا الثورة وتخلصوا من عبوديتهم عادوا فاستسلموا إلى عبودية أخرى من نوع آخر، ولم يكتفوا بذلك فقط بل هم يوافقون على استعباد الغير أيضاً.

فيرى مما تقدم كل ذي بصيرة وفهم أنه ليس هنالك ولا وجه واحد حقيقي للاعتقاد بصحة ما ينسبونه إلى الثورة الفرنسية من الصفات الإنسانية السامية والمبادىء العالية، وأنّ الصفة الحقيقية الوحيدة الواضحة في تلك الثورة وضوحاً تاماً هي صفة المجزرة الدموية فقط.

لا تعجب يا عزيزي المطالع من هذه النتيجة المناقضة لكل ما سمعته عن محاسن فرنسة والثورة الفرنسية، لأن الأمة التي معظمها سكير متهوس محب لسفك الدم والاستعمار والاستعباد، لهي إلهة لا يمكن أن تكون أُمّ الحرية، ولا أن تكون ثوراتها مبعثاً للمبادىء السامية، ولا يرجى منها ولا من ثوراتها إلا ما يرجى من كل سكير متهوس محب لسفك الدم والاستعباد وثوراته!
لقد خدعت فرنسة بثورتها العالم كله بعض الوقت ولكنها لن تستطيع خداعه كل الوقت، وإنّ الذين كانوا يحسنون الظن بفرنسة قد ابتدأوا الآن يغيّرون اعتقادهم.


أنطون سعاده
مقال مخطوط، سان باولو 
14/7/1923

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى