الخروج من الفوضى إلى الثّقافة ودور الثّقافة في خضمِّ الأزمات

كتبت عميد الثّقافة والفنون الجميلة الرّفيقة فاتن المر

قد يظنّ المرء أنّ إشعاع الثّقافة يبهت في أوقات الأزمات وأنّ الجمال يخبو عندما تسود الفوضى، كما يردّد البعض أنّ صوت المثقّفين ينخفض حين تعلو قرقعة السلاح. إن حصل هذا فهو مؤشّر مرضيّ وليس حتميًّا، وهو تهديد للصحّة النّفسيّة يضاهي الخطر على الصّحّة الجسديّة، كما أنّه تهديد للبناء الاجتماعيّ، يشارك في ضرب تماسكه، في ضياع توازنه وفي تغريبه عن هويّته وحضارته، فالابتعاد عن إدراك الثّقافة الّتي تشمل بمفهومها الأوسع كلّ جوانب حياتنا وتاريخنا وتناسي الإبداع يسهمان في تعميم فكرة الهزيمة، في نشر الخمول والقبول بتداعيات الواقع المفروض على المجتمع دون السّعيّ إلى بدائل.

إنّ التّوازن النّفسيّ والفكريّ هو من أولى وسائل الصّمود ثمّ التّماثل إلى الشّفاء. لا خيار لدينا إلّا أن نصمد ونواجه، لا سبيل آخر أمام الشّعوب الحيّة. وقد تكون الثّقافة السّلاح الأنجع والأقرب منالًا إلينا كي نتفادى الوقوع تحت الضّربات، تلك المنظّمة من ضمن خطّة تهدف إلى تدمير المجتمع أو العشوائيّة منها.

قد يميل المرء في أوقات الشّدّة إلى التّقوقع والغرق في العزلة، هنا يأتي دور الثّقافة في الحثّ على التّواصل وإعادة الشّعور بالتّلاقي حول مشاريع صناعة الجمال وصقل الفكر والذوق. كما أنّ الانشغال ببناء النّفس في حقبة اضمحلال الأفاق العمليّة والضّائقة الاقتصاديّة يعزِّز المناعة في وجه القلق واليأس.الأدب، الرّسم، الموسيقى والسّينما... إلخ، كلّها وسائل لحياة الشّعوب في مواجهة خطط الموت.

كيف يمكن لنا أن ننهض بمجتمع لا تعطى فيه الثّقافة قيمتها الفعليّة؟ السّياسيّون في كياناتنا يبحثون عمّا يعود عليهم بالرّبح الآني، بينما الثّقافة هي عمل دؤوب لا تظهر نتائجه إلّا على المدى البعيد، هي استثمار في المستقبل، هي بناء نشيّده ببطء شديد وبالكثير من التّعثّر.

من ناحية أخرى، نجد أنّ صنّاع الثّقافة من أكثر المتضرّرين من الأزمة، لذلك فإنّ في الاهتمام بهم واجبًا وطنيًّا، وفي الوقوف إلى جانبهم وإيفائهم حقّهم من التّقدير فائدة متبادلة لكلّ الأطراف المجتمعة حول النّتاج الثّقافيّ. لذلك، لا بدّ من إرادة للفعل ترسم سياسات تسمح لنا باستكشاف ثقافتنا، ثمّ الثّقافات العالميّة، كما لا بدّ من وضع العمل الثّقافيّ تحت لواء الحرّيّة المسؤولة، إذ لا ثقافة من دون حرّيّة، ولا حرّيّة تدمغ الثّقافة في المجتمع من دون مسؤوليّة واضحة تجاه استنهاض طاقات الشّعب، فالحرّيّة المسؤولة تسمح بطرح كلّ الأسئلة الممكنة حول الحياة والكون والفنّ وحرّيّة الثّورة على كلّ ما يكبّل عمليّة النّهوض.

تبقى الثّقافة دواء للكثير من الأمراض الاجتماعيّة؛ فهي تسهم في مواجهة سياسات سيطرة المادّة في المجتمع الاستهلاكيّ، وتلاشي العقل النّقديّ والتّسطيح الفكريّ في عصر البربريّة الجديدة.

أمّا اليوم، في خضمِّ الأزمات الّتي تعصف بوطننا، فلا بدّ من البحث عن طرق جديدة لمقاربة الثّقافة، لحماية المنتجين ولإنشاء الجسور بينهم وبين كافّة أبناء المجتمع. وربّما تكون أولى المهام الّتي تولج إلى المعنيين بالشّأن الثّقافيّ إعادة الوصل بينه وبين المدرسة والجامعة، إذ تمّ تغريبه عنهما في الآونة الأخيرة نتيجة حمى التّسابق التّجاريّ لكسب “الزبائن” من الطّلّاب أو نتيجة للكسل والإهمال.

يكمن دور التّعليم الأكاديميّ في تعليمنا التّواضع، التّواضع أمام الإبداع، التّواضع أمام ما لا نفهمه، أمام الفراغات في تنشئتنا التّربويّة والسّعي إلى ردمها.

إنّ البلاد الناهضة والمتقدّمة تضع الثّقافة في المراتب الأولى من اهتماماتها وتسخّر أقصى الإمكانيّات لإبراز دورها والسّماح بوصولها إلى العدد الأكبر من أبناء الشّعب، كما تجهد في الانفتاح على الثّقافات العالميّة. أمّا نحن، فقد غالينا في إهمال ثقافتنا وتراثنا، مساهمين بذلك في جريمة من يعملون على إقصائنا عن معرفة هويّتنا وعلى نشر الإحباط وفقدان الثّقة بأنفسنا، بحضارتنا، وبقدرتنا على التّطلّع إلى مستقبل أفضل. فلنسع إلى تخطي الحقب الظلاميّة الّتي أوصلتنا إلى الدّرك الّذي نقبع فيه ولنجهد في تعزيز العمل الثّقافيّ من الإبداع إلى اكتساب المعرفة، فإنّ تنمية الإحساس بالجمال يسهم في الارتقاء الروحيّ كما المادّيّ للأمم الحيّة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى