الدولة الدينية اللبنانية في خطر

مما نشرناه في العدد السابق في صدد الحزبية الدينية وويلاتها في وطننا، يتضح أنّ دولة الاستعباد التي سميت «الجمهورية اللبنانية» قد أصبحت أشبه ببركان على وشك الانفجار، والفضل في وجود هذه الحالة عائد إلى الأغراض الأساسية التي بنيت عليها تلك «الدولة» الانفصالية السورية، وإلى نظام الحقوق السياسية والمدني المتّبع فيها، وإلى السياسة الدينية التي لم يكن بد من اتّباعها ليصل الحزب الديني العيسوي إلى أغراضه وغايته الأخيرة من التمسك بالانفصال اللبناني.

لم تكن العواقب الوخيمة للانفصال اللبناني خافية على إدارة الحزب السوري القومي الاجتماعي، والحالة الحاضرة السيئة التي وصلت إليها تلك الجمهورية التي لا استفتاء فيها للجمهور كانت متوقعة ومنتظرة في إدارة الحزب، التي نبهت السكان في لبنان إلى الأخطار الكبيرة التي تدفعهم إليها خطة الرجعة إلى السياسات الدينية وتأسيس الدولة على الحزبية الدينية المجرمة.

وبلاغات الزعيم وخطبه وأحاديثه ومقالاته، وبلاغات الدوائر القومية الاجتماعية العليا تثبت أنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي لم يدّخر وسعاً في كبح جماح المتحمسين للدولة الدينية العيسوية في لبنان، وتدارك الأمر قبل تفاقم الشر الذي قدح شرره أكثر من مرة، منذراً بالويل وسوء العقبى.

ولكن الجهل والتهوس في مراكز الإقطاع والنفوذ الرجعي في لبنان وسياسة مقام البطريركية المارونية الذي لا يزال المذعنون للسلطة الدينية في كل شيء روحي وزمني يعدّونه المرجع الأعلى لسياسة الطائفة المارونية، أبت إلا خدمة المطامع الأجنبية بالاستمرار في ضلال الدولة الدينية والتشبث بظل كيان أُوجد غصباً عن إرادة نحو نصف السكان وإلا حسبان الامبراطورية الفرنسية خالدة، وأنّ استنادها إلى تلك الامبراطورية المشؤومة يصون كيانها الموهوم إلى الأبد!

بهذه العقلية المظلمة قامت الحزبية الدينية المسيحية في لبنان تحارب الحزب السوري القومي وتصيح: يا لكيان لبنان! يا لسياسة الدينية في لبنان! يا للدولة الدينية، يا للبنانيين الأقحاح!

أدركت هذه العقلية الدينية المريضة أنّ نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي يعني القضاء المبرم على الحزبيات الدينية في سورية جميعها.
فما انكشف أمر هذا الحزب في أواخر سنة 1935 وظهر مدى انتشاره وتجلّت قوة عقيدته في تحقيقات المحكمة المختلطة، حتى قامت الحزبية الدينية العيسوية، والأَوْلى أن يقال الحزبية الدينية المارونية، تنادي بالويل وتدعو إلى تدارك الدولة الدينية اللبنانية من خطر هذا الحزب.
وكانت هنالك محادثات ومفاوضات ومراجعات مع رجال المفوضية الفرنسية الذين أدركوا بدورهم أنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي سيقضي على مرض السياسات الدينية والتكتل الطائفي الذي يتذرعون به لتجزئة القسم الشمالي من سورية، الذي أطلقت يد فرنسة فيه تحت إسم الانتداب، على ما تقرر في مؤتمر سان ريمو المشهور أمره.
وانتهت دروس المفوضية الفرنسية السياسية إلى تقرير «إعادة الحياة الدستورية» إلى لبنان، لإضرام نار التعصبات الدينية وتجديد المنافسات الطائفية وشغل الناس بشؤون المزاحمات الطائفية والشخصية في الانتخابات عن النظر في النهضة القومية الاجتماعية التي تشق لسورية طريق الوحدة القومية والوعي القومي والتنبّه للأخطار الخارجية ووجوب دفعها.
وتقرر في أوساط الحزبية المارونية العليا، بالاتفاق والتفاهم مع مراجع الاحتلال الفرنسي، إيجاد حزب ماروني يعمل على إبعاد الشبيبة المارونية عن عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي وإيجاد حالة مقاومة واصطدام مع الحركة العظيمة التي أوجدها نشوء هذا الحزب.

كان من وراء ذلك أنّ مقامات الحزبية المارونية اختارت السيد توفيق لطف الله عواد (الشيخ)، نسيب البطريرك الماروني الحاضر، ليقوم على رئاسة حزب ماروني تعضده لحكومة اللبنانية، والمفوضية الفرنسية وتعترفان به ويعطى صفة «التعبير عن تمسك اللبنانيين بالقومية اللبنانية وبالكيان اللبناني».
فأعلن نشوء هذا الحزب وسمي «حزب الوحدة اللبنانية»، الذي اختار القميص الأبيض لفرقه التي حاول بها تقليد فرق الحزب السوري القومي الاجتماعي.

ولكن أوساطاً مارونية أخرى لم تقبل أن تسمح لتوفيق عواد أن يصير مرجع تكتل الحزبية المارونية كلها، ووافق رفض هذه الأوساط الانضمام إلى حزب توفيق عواد هوىً وهوساً، ابتدأ يضخمان في رأس «رئيس الجمهورية» المؤيد من المفوضية الفرنسية والمصاب بمرض «جنون العظمة»، حتى تصوّر أنه يقدر أن ينشىء حزباً من الشبان الموارنة، يعتمد عليه في خدمة أغراض السياسة الفرنسية، وفي تقوية مركزه الشخصي ونفوذه، وفي محاربة الحركة السورية القومية الاجتماعية، التي كان لنشوئها الفضل كله في «إعادة الحياة الدستورية إلى لبنان» وفي تقرير الفرنسيين اختيار إميل إده رئيساً لجمهورية لبنان.
فنشأت من هذه العوامل الجديدة حركة إيجاد حزب ماروني ثانٍ يستند إلى تأييد رئيس الجمهورية مباشرة.
فتشكلت فئة من الشبان المذكورين اتخذت لنفسها صفة حزب وفرق وسمي حزب «الكتائب اللبنانية» واختير رئيساً له شاب يدعى بطرس (بيار بالفرنسية) جميّل ونتتخب إميل إده رئيساً شرفياً له.
على أنه لم يطل الأمر حتى صار ذانك الحزبان المارونيان مسرحاً لمنافسات الحزبية المارونية الشخصية بين فئة إميل إده الذي كان رئيس الجمهورية، وفئة بشارة الخوري (الشيخ) المعروف برئيس كتلة المعارضة.
فعملت فئة بشارة الخوري وشارل عمون وحميد فرنجية وفريد الخازن ومَن والاهم على اكتساب النفوذ في الفريق المعروف بحزب الكتائب اللبنانية.
وكان نجاح فئة المعارضة كبيراً إلى حدّ أنّ فريق الكتائب اللبنانية لم يشترك في استقبال رئيسه الشرفي حين عودته من فرنسة!

هاج هذا الطور الذي دخلت فيه «الكتائب اللبنانية» أحقاد إميل إده فحمي غضبه وقرر إبادة الأحزاب المارونية التي كان يعدّها من بعض خلقه وحسبها عائشة بنعمة عطفه.
فكان من وراء ذلك أنه صدر قرار بحل جميع الأحزاب اللبنانية ومنع تجمع أفرادها.
وعقب قرار الحل حدوث مظاهرة الكتائب اللبنانية التي فرّقتها الشرطة بالقوة وضربوا رئيسها الذي كانوا يسمونه «عميداً» وجرحوه.
وأدت هذه الحوادث إلى جلسة التصادم في المجلس النيابي اللبناني بين كتلة المعارضة لإميل إده التي ضامها حل «الكتائب اللبنانية»، لأنها كانت تشعر أنّ هذا الحزب الديني صار إبنها بالرعاية والعطف!

أما حزب «الوحدة اللبنانية» فكان من أعماله الباهرة تحدّي شعور المحمديين في لبنان الذي جرّ إلى حوادث 15 و16 ــــ نوفمبر/تشرين الثاني 1937 الشهيرة التي كادت تجرّ الدولة العيسوية اللبنانية إلى هاوية المذابح الدينية، لو لم يتدارك الموقف زعيم الحركة السوري القومية الاجتماعية بإذاعة ندائه الشهير إلى القوميين الاجتماعيين وإصداره التعليمات بتدخل فرق الحزب في بيروت لدعوة الناس إلى السكينة وردّ المآرب الأجنبية العاملة وراء تلك المظاهر.

ليست حالة الحزبية الدينية المارونية في لبنان بسيطة، بل مركّبة ومعقدة.
وليس هنا مجال درس عواملها وأشخاصها وغاياتها.
فنكتفي في هذا البحث بالحوادث التي لها دخل في موضوع هذا المقال.

في جلسة مجلس النواب المذكورة آنفاً، التي جرت يوم الإثنين في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1937، وتطاحن فيها حزبا السياسة الدينية المسيحية المتمركزة في الطائفة المارونية، انفضحت أغراض هذه السياسة العامة والخاصة، إذ أدلى توفيق لطف الله عوّاد بصفته نائباً معيّناً من الحكومة، في تلك الجلسة بتصريحات فاضحة مزقت كل حجب السياسة الدينية الطائفية المارونية.
وإننا نورد منها ما يأتي:
«في ربيع سنة 1936 ابتدأ الحزب السوري القومي يضم عدداً كبيراً من الشباب، حتى في المناطق اللبنانية الصرف» إلى أن قيل:
«إنّ حزب الوحدة اللبنانية تأسس ليوقف تيار هذا الاتجاه الذي هدد استقلال لبنان (يعني انفصاله) وإنّ الأحزاب الأخرى (كالكتائب اللبنانية والجبهة القومية اللبنانية وغيرها) تبعت حزب الوحدة اللبنانية في هذا الغرض النبيل»!

في التعليق على تصريحات السيد توفيق عوّاد المثبتة فوق هذه الفقرة قالت جريدة النهضة المنشورة في بيروت في عددها الصادر في 1 ديسمبر/كانون الأول 1937 بقولها:
«وقد أفادنا السيد عوّاد من فيض علمه أنّ في لبنان مناطق لبنانية صرف ومناطق لبنانية غير صرف. ولعل السيد عواد أول لبناني يعترف بهذه الحقيقة الباهرة التي اجتهد كثيراً ذوو المصلحة في سترها عن الرأي العام والتمويه عليها بتعابير وأصبغة متعددة».

ومن المؤكد أنّ ذكر السيد توفيق عواد وجود مناطق لبنانية صرف ومناطق لبنانية غير صرف لم يكن من باب التفنن الشعري، ولا من باب الغلط في إيراد المعنى. إنه كلام الواثق مما يقول ومن البيئة التي يقول فيها.
وهنالك أدلة تاريخية كثيرة تؤيد نزعة الطائفية المارونية إلى حسبان مجموعها المجموع اللبناني وحده دون غيره.

ومن التصريحات الفاضحة التي ألقاها السيد توفيق عوّاد في جلسة المجلس النيابي المذكورة قوله في الدفاع عن حزبه والأحزاب الشبيهة به:
«نحن، يا حضرات الوزراء، لم نكن مشاغبين عندما كانت الحكومة اللبنانية تأمر موظفيها بالانضمام إلى صفوفنا وتسهيل السبل أمامنا ومساعدتنا في تأسيس فروع لنا. يا حضرات الوزراء، لم نكن مشاغبين عندما دعينا لاستقبال العائدين من باريس».

بهذه العبارات يعترف رئيس حزب «الوحدة اللبنانية» بالنيابة عن حزبه وحزبه الكتائب وغيرهما، بأن هذه الأحزاب الزائفة أنشئت بإرادة «الحكومة اللبنانية» صنيعة المفوضية الفرنسية لتقف في وجه الحركة السورية القومية الاجتماعية الخارجة من صميم الشعب ولتبقى على السياسة الدينية الطائفية التي أوصلت الرجال الذين تشكلت منهم تلك الحكومة إلى كراسي الحكم التي أعدتها لهم الإرادة الأجنبية.

ولم يسع السيد عواد كتم أمر المسؤولية في المشاغب الدينية التي ولّدها وجود حزب «الوحدة اللبنانية» وحزب «الكتائب اللبنانية» وحزب «الجبهة القومية اللبنانية» الدينية إلى جانب فرق «الكشاف المسلم» وفرق «النجادة الإسلامية» وفرق «الطلائع الإسلامية» الدينية. فقال:
«إنّ الظروف السياسية قضت أن نكون نحن في جهة وإخواننا المسلمون في جهة»!
والحقيقة أن لا ظروف سياسية أوجبت الشقاق والمشاغبات غير رفض الرجعيين الدينيين المسيحين قبول الدعوة القومية الاجتماعية التي جاء بها سعاده كما رفضها الرجعيون الدينيون المحمديون.

والآن ماذا ترى هذه الحزبية الدينية العيسوية عاقبة لسياستها الخرقاء التي هي ضد مصلحة المسيحيين جميعهم؟
إنها بعد أن جرّت سكان لبنان من مأزق إلى مأزق، ومن نكبة إلى نكبة، ترى جميع حساباتها وصلت إلى ما يعادل الصفر، وأنّ خطر انهيار دولة الانفصال العبودية في لبنان قد أصبح أدنى إليها من قاب قوسين.
فالحزبية الدينية قتلت الأمل بالمستقبل القومي، وأحيت أحقاداً كادت تتلاشى.
وحمل ضيق نطاق «دولة لبنان» قسماً كبيراً من شباب لبنان، وأكثر هذا القسم من المسيحيين، على المهاجرة، واللحاق بأقرباء وأنسباء له تركوا البلاد في زمن الظلم التركي ــــ زمن سبّ النبي اقتلوه ــــ يائساً من الوطن ومصيره، قاطعاً الأمل من العودة إليه.
وأنزل احتكار الأجانب مرافق البلاد، بموافقة مجلس نيابي لا غيرة له على دين أو دنيا، الضربات الاقتصادية التي قصمت ظهر الشعب، فقلَّت الأعراس وقلّ النسل، خصوصاً في الطوائف العيسوية، ووقف أصحاب سياسة الحزبية الدينية المسيحية ومؤيدو دولة لبنان المسيحية أمام هذه الحقيقة المريعة للحزبين الدينيين المسيحيين:
إنّ عدد سكان جمهورية لبنان المحمديين يضارع اليوم أو يزيد قليلاً على عدد سكانها المسيحيين، وصار يمكن أن تصير الأكثرية في المجلس النيابي محمدية، ثم يصير رئيس الجمهورية محمدياً، وكذلك المدّعي العام المركزي، ورئيس محكمة الاستئناف، ومدّعي محكمة الاستئناف، وسيزيد عدد موظفي الحكومة المحمديين، تدريجاً، على عدد الموظفين الموارنة وغيرهم من المسيحيين، فما أقسى هذه الحقيقة على قلب أمثال أيوب ثابت الذي نظن أنه هو القائل في أوائل عهد إنشاء «دولة لبنان الكبير»:
«إذا لم يقبل المسلمون (المحمديون) هذه الدولة فليخرجوا من البلاد وإلا أخرجناهم على رؤوس الحراب»!

لذلك يريد الحزب المسيحي أن يتدارك هذه الكارثة بالالتجاء إلى المهاجرين من لبنان، ليجعل لهم حقاً في التصويت فيزداد بهم عدد الأصوات المسيحية.
لنفرض أنّ هذه المحاولة الأخيرة نجحت، فكم يطول أمد نجاحها، والمهاجرون يبعدون رويداً رويداً عن وطنهم الذي أخرجتهم منه السياسة الدينية التي تطلب الآن أصواتهم؟
هذا سؤال لا يطرحه أساطين دولة لبنان المسيحية على أنفسهم، ولكن جوابه آتٍ سريعاً:
إذا قدرت تلك الدولة الهزيلة المصطنعة على الثبات ضد تهديم الحزبية الدينية المحمدية فلن تستطيع الثبات في وجه الحركة السورية القومية الاجتماعية، التي ستزيل الحزبيتين الدينيتين المحمدية والعيسوية، لتوجد حزبية واحدة في داخل البلاد هي:
الحزبية السورية القومية الاجتماعية، التي تتكفل بإنقاذ الأمة من تنين النعرات الدينية وإعادة حقوقها وسيادتها إليها.

 أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،

العدد 64، 1/8/1943

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى