الرسَــالة 6 – ادويك

 حبيبي !
أخيراً وردت رسالتك الثانية لتجلو جواً كان قد تلبَّد وادلهمَّ. وجاء ترياقها قبل أن يكون العليل قد فارق. والآن يمكننا أن نعدَّ ما مضى حادثاً من حوادث المواصلات مع العراق. ولا بد أن تكوني تسلَّمت الرسالة الرابعة في الوقت الذي تسلّمت أنا فيه رسالك الثانية. وقد خلوت مساء أمس بهذه الرسالة الحلوة فقرأتها وأعدت وفكرت مليّاً بك وبما تشير إليه الرسالة ووددتُ لو كنتِ قريبة لكنا إذن نجتمع ونتحدث ونصرّف الأمور المعلّقة.
أجل يا حبيبتي! إن ظنونك ليست مخطئة ولا غالطة، كما قد ترين من رسالتي الأخيرة. فإني قد فكرت وأفكر بكل جدّ في مسألة السفر لأسباب اضطرارية إلى حدّ بعيد وفي غاية الخطورة. فالأمر ليس خاطراً عارضاً بل قضية حيوية للحزب وللقضية ولنا.
أما من حيث الحزب فقد فعلت حتى الآن ما يندُر أن يفعله بشر فرد في مثل ظروفي وظروف أمتي. وتمكنت بشق النفس، من التغلب على الصعوبات جمّة وردّ كيد الخصوم العديدين، بوسائل قليلة جدّاً، ومن البلوغ إلى هذا الموقف البعيد بعداً قليلاً عن الخطر، ولكن الخصومة على الحزب آخذة في الازدياد بقدر ما يزداد الحزب رسوخاً وانتشاراً، لأنه مع الانتشار تكثر حوادث الاصطدام مع الرجعيين ومؤسساتهم، وتزداد الحاجة إلى وسائل جديدة تفي بمتطلبات الحزب الناشبة.
وإذا كنت حتى الآن تغلبت بوسائلي الشخصية وابتكاراتي فإن اتساع نطاق العراك يوجب إيجاد أجهزة كاملة للإذاعة والإدارة والمهمّات السياسية. والبلاد اليوم فقيرة والمؤسسات الرجعية أو غير الصالحة لا تزال تعمل عملها، وهي قابضة على أكثر موارد البلاد، ولا بد لنا من الخروج سريعاً من هذا المأزق. فالجريدة التي أصدرناها تحتاج إلى موارد مالية، وإدارة الحزب وإذاعته تحتاج إلى موارد مالية. وهذه الأعمال تحتاج إلى موازنة لا تقلّ عن ألف وخمسمائة أو ألفي ليرة في الشهر. ولا بد لنا من تأمين ورود مثل هذا المبلغ إذا كنا نريد أن نرى حزبنا يتقدم ويزدهر ويقترب من النجاح. ومثل هذا المبلغ لا يمكن تأمينه بالموارد الشحيحة في الوطن السيء الطالع فلا بد تأمينه بواسطة تقوية الحركة في المهجر وإيجاد نظام متين لها وهذا يقتضي سفري أنا شخصياً، لأن هنالك مسائل وضرورات إذاعية وسياسية لا يتمكن غيري من القيام بها على الوجه الأكمل.
وأما من حيث القضية فلا بدَّ من العمل لها بين المهاجرين وتنظيمهم لكي يكونوا قوة للحركة من جهة وواسطة لإيجاد علاقات ودّية مع بعض الدول والشعوب، وإفهام الأمم الغريبة جمال نهضتنا وسموّ اهدافها فيساعد ذلك كثيراً على إحلالها المحلَّ اللائق بها بين قضايا الأمم. ولا بد من إيضاح بعض هذا الأمور في أوربة. وكل ذلك يجب أن يحدث في القريب العاجل لأن الحزب يجب أن يصير قوياً ليصبح صالحاً للقبض على ناصية الاتجاه القومي، ويمنع الفوضى وينشر العقيدة القومية التي لا يمكن توحيد القوى القومية بدونها. ولأن القضية القومية يجب أن تحصل على مركز متين قبل أن تداهم العالم حرب جديدة أرى أنها باتت قريبة.
فعلينا أن نفعل كل ما في مقدورنا لنحول دون سقوط أمتنا فريسة للمطامع الأجنبية وويلات حرب فظيعة. وهذه أسباب رئيسية وفيها تفاصيل لا يتسع لها مجال الكتابة. ولكني أراها جيداً وأرى الشِباك التي تحاك حولنا في الداخل والخارج. فيجب عليَّ أن أقطع هذا الخيوط وأحبط الدسائس وأجد المنفذ الأمين لقضية الحزب.
وأما من حيث ما يخصّنا فإن حياتنا مقرونة بهذا العمل العظيم. ويجب أن تكون لنا القوة الكافية والإيمان الراسخ والعزيمة الصادقة التي تتطلَّبها القضية وأعمالها. ومن جهة أخرى أرى أنه لا بدَّ لي من تغيير العمل المملّ في نطاق ضيق وفتح آفاق جديدة والوقوف على أمور ضرورية للقضية ومن إيجاد الممكنات المستمرة لحياتنا وعملنا. وإني أحتاج لأن تكوني معي وأن يكون لنا متَّسع من الوقت للتأمل في جمال العالم ولينظر الواحد منا في عيني الآخر من غير أن نكون مهدَّدين بتراكم الأشغال وازدياد الحاجات الملحة. إن مسؤوليتنا كبيرة فيجب أن نكون كفؤاً لها.
وليست الأسباب السياسية ممّا يستطيع المرء أن يخضعه لسلطانه فهنالك مآزق وهنالك فرص فإن اطمأنّ للأولى وتوانى للثانية فقد عجز وخَمُل. ولو كان الأمر يتوقف على مجرد إرادتنا ورغبتنا لما كان ألذَّ لي من أن توافق رغبتي رغبتك.
إنك تكرهين التسرُّع في الأمور وأنا كذلك اكره التسرُّع. ولكن السرعة والإبطاء والتسرُّع والتباطؤ هذه أمور قد لا تخلو من التشبيه والالتباس.وأنا ما نظرت إلى شيء متسرِّعاً، بل قستُ الظروف ونظرت في ما هو الأفضل لنا جميعاً. فليس نظري مبنيّاً على ما يتعلَّق بي خاصّة، بل على ماهو مشترك بيني وبينك. وكيف أستطيع التفكير بنفسي وحيداً، وأنا ما فكرت بنفسي قط إلاّ حين فكّرت بك؟
وبعد، فأنا أُبدي لك الأسباب بصورة مجملة، ومنها يمكنك أن تحكمي في الدوافع التي تدفعني الآن في هذا الاتجاه الفكري. أما الماما فتردُّدها لا يزول بتردُّدنا نحن، بل بنجاحنا، وكيف يمكن النجاح في أمر خطير إذا لم تُغتنم الفرص؟
وأنا لا أطيق التفكير بالسير في العالم وحدي. أو ما هي قيمة المسرّات التي لا تشاركينني فيها؟ وماهي الحيوية التي تتولّد بي من البعد عنكِ والافتقار إلى وجودك؟
إني أسلِّم مع الماما بأني غريب الأطوار وشاذٌ في أخلاقي عن أخلاق البيئة التي أعيش فيها. وأعتقد أنه لولا غرابة أطواري وشذوذ أخلاقي لكنت كسائر أبناء هذه البيئة في القعود والخمول والتشبُّث بتوافه الأمور. أما ثباتي في أفعالي وأقوالي وعقيدتي ومثالي الأعلى فلست في محل إقامة الدليل عليه.
سأرسل صورتك حالاً إلى أختي وأجد كيفية أتصالكما. وستكون الواسطة اللغة الإنغليزية التي لا تحسنها أختي جيداً ولا العربية، إذ هي قد ربيت في البرازيل حيث تعلّمت البرتغالية وتعلّمت قليلاً من العربية. أما الإنغليزية فقد جازت فيها دروساً في الولايات المتحدة حيث كانت منذ سنوات، أي قبل زواجها، ولا تزال تقدر على الكتابة بها مع بعض أغلاط، إنها ستفرح كثيراً بك فأنا أعرفها جيداً وأعتقد أنها ستكون سعيدة باجتماعنا.
الذي أراه أنه لا بد من سفري قريباً. فما رأيك؟
لقد سرّني أن تبتدئ هلن تسليتها. أما سلاماتي الخصوصية لها فمن أجل سلامة ذوقها وتبنيِّها اجتماعاتنا على المطل. وأما أمين فقد أعطيت عنوانه للجريدة لترسل إليه رأساً.

سلامي للماما والجميع، ولك مكنونات نفسي كلها.

(التوقيع)
في 17 نوفمبر 1937

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى