الزعيم في سانتياغو

 

سانتياغو (الأرجنتين) ــــ مايو/أيار
الجالية السورية في ولاية سانتياغو (الأرجنتين) كانت قد دعت حضرة الزعيم لزيارتها. وكانت كثرة أشغاله تقضي بتأجيل هذه الزيارة من برهة إلى برهة. إلى أن تمكن أخيراً من تحقيق أمنيتهم فسافر يوم 8 من هذا الشهر.
وما إن عرفوا بقدومه حتى استعدوا لاستقباله وذهب جمهور منهم إلى محطة لابندا ينتظرون القطار الذي يحمل إليهم زعيم النهضة الجديدة المباركة في سورية.

وما كاد يصل القطار ويطل الزعيم من النافذة، حتى تلقوه بالتهليل والترحيب، وكانت السيارات معدة لنقلهم جميعاً إلى سانتياغو. وبعد السلام على القادم الكريم سارت بهم تلك السيارات إلى البلد، وهناك حلَّ الزعيم ضيفاً في منزل أحد أفراد الجالية حيث أعدت له كل أسباب الراحة.

عندما أقبل المساء أخذ الناس يقبلون لمشاهدة الزعيم من جديد حتى امتلأت فسحة الدار على وسعها، وجلس الناس صفوفاً مرتبة وكلهم ينتظرون أن يروا وجه الضيف المفدى.

الساعة التاسعة والنصف خرج الزعيم من غرفته وتلقاهم بتحيته الخاصة وابتسامته الخاصة، فوقفوا جميعاً احتراماً له وأخذوا يصفقون تصفيقاً حاداً دلَّ على شعورهم العميق.

والحقيقة أنّ الزعيم لم يكن مستعداً للكلام في تلك الساعة، لأنه لم يأخذ راحته بعد من عناء السفر، ولكن الجماهير أخذت تنظر إليه كأنها تطلب منه الكلام، فأخذ يحدثهم عن الحركة القومية وكيف بدأت، ولما رأى منهم إصغاء كله لهفة وشوق تحول حديثه إلى شبه خطبة استمرت نحو ساعتين.

أخذ الزعيم يعدد أمراضنا الاجتماعية والأخلاقية وما وصلنا إليه من الضعف وعدم الثقة، وقال إنّ أعظم ما أصبنا به هو أننا نسينا تاريخنا، وصرنا حائرين كاليتيم الذي يجهل أباه وأمه، ويهتم دائماً بكشف هذا السر فيقول في سره بلهفة: من هو أبي، ومن هي أمي؟

والحقيقة أنّ اليتيم الذي يجهل أباه وأمه لا يمكن أن تكون شخصيته كاملة، لأنه يشعر دائماً أنه ينقصه شيء، وأنّ هذا الشيء لا يمكن أن يستعيض عنه بشيء آخر. إنّ الكرامة لاي يحل محلها شيء لأنها الغرض الأسمى في الحياة، والشعوب متى عرفت قيمتها الحقيقية تموت في سبيلها.

فيجب على السوري أن يعرف من هو أبوه ومن هي أمه، أي أن يراجع تاريخه ويدرسه بتدقيق وإمعان. ومتى لاحق هذه القضية يدرك أنه ليس يتيماً بل هو ابن تاريخ مجيد، وأنّ بلاده أعطت إنتاجاً في أسواق الرقي الإنساني مثل أعظم الأمم، بل أكثر منها.

فوجود السوري في العالم ليس من الأشياء التي يمكن الاستغناء عنها، بل هو كائن لازم وضروري للحضارة والثقافة وترقية النوع البشري. فنحن يجب أن نكون أمة عظيمة حرة ليس لمصلحتنا فقط، بل لمصلحة الإنسانية كلها. إنّ السوري متى تحرر من قيوده وانطلق فكره، يعطي العالم تفكيراً جديداً هو بحاجة إليه.
ثم أشار الزعيم إلى الحرية التي يتغنى بها السوريون وأولادهم في أميركة فقال: إنّ هذه الحرية لا يجوز لأحد منا أن يفتخر بها، لأنها ليست لنا ولا نحن اشتركنا في تكوينها، فهي حرية مستعارة ظهورنا بها كمن يظهر أمام الناس بثياب غيره.

إنّ الحرية، مثل الثروة، لا يجوز لأحد أن يفتخر بها إلا إذا جناها بعرق جبينه. عندئذٍ يمكنه أن يقول: هذا لي. والسوري في أميركة مهما تمتع بأنواع الحرية لا يمكنه أن يقول: هذا لي، بل هو يشعر دائماً أنه عبء على غيره ويتمتع بما لسواه، وأنّ هذه الحرية جاءته عن طريق العطف والإحسان. وكل حرية من هذا النوع لا تجلب للإنسان غير الألم والمرارة.

ثم أخذ الزعيم يتكلم عن الصراع بين مبدأ القيمة المادية للحياة الإنسانية الممثل بالشيوعية، ومبدأ القيمة الروحية الممثل بالفاشستية، فقال إنّ الحياة الإنسانية يجب أن تعتبر حاصلاً مادياً روحياً. هذا ما تقول به الفلسفة السورية القومية الاجتماعية. وهذه الفلسفة يحتاج إليها العالم كله لا سورية فقط.

وتطرق إلى الكلام عن مؤسسة الديموقراطية في العالم، كذلك سورية القومية التي تضع أمام العالم اليوم فكرة «التعبير عن الإرادة العامة» بدلاً من فكرة «تمثيل الإرادة العامة» التي لم تعد تصلح للأعمال الأساسية لحياة جديدة.
إننا نشق في الحياة طريقاً جديداً نختاره نحن لأنفسنا ونعتمد عليه في تفكيرنا الخاص، وسوف يكون هذا الطريق من جملة الإنتاج الذي يأخذه الناس عنا. إنّ التفكير الحاضر دخل في طور الشيخوخة في العالم كله، والبشرية بأسرها تنتظر تفكيراً جديدا تنال به سعادتها وراحتها وحريتها، وهذه البضاعة الجديدة سيخرج أكثرها وأفضلها من سورية بلاد العبقرية والنبوغ.

إنّ الديموقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس، فتحولت إلى نوع من الفوضى لدرجة أنّ الشعب ذاته يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها «تمثيل» الإرادة العامة، وصار ينتظر انقلاباً جديداً. وهذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية القائلة بالعودة إلى الأساس والتعويل على «التعبير عن الإرادة العامة» بدلاً من «تمثيل الإرادة العامة» الذي هو شكل ظاهري جامد.

فالتفكير السوري القومي الجديد هو إيجاد طريقة جديدة اسمها «التعبير عن إرادة الشعب»، وقد يكون هذا التعبير بواسطة الفرد أو بواسطة الجماعة حسبما يتفق أن يوجد.
فهذه الفكرة الجديدة، أي «التعبير عن إرادة الشعب»، هي الاكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد. وهو دستورنا في سورية الذي نعمل به لنجعل البلاد دائماً كما تريد الأمة.

إنّ الأمم كلها تريد الخير والفلاح. ولكن المشكل هو في إيجاد التعبير الصالح عن هذه الإرادة. فالإدارة العامة إذا لم تجد «التعبير» الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة تصبح عرضة لأن تقع فريسة للمطامع والمآرب «التمثيلية».
فالتمثيل هو دائماً أهون من التعبير، لأن التمثيل شيء جامد يتعلق بما قد حصل، أما التعبير فغرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد.

هذا هو الخلل الاجتماعي الذي يريد التفكير السوري الحديث أن يصلحه، تفهُّم إرادة الشعب وإعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة.
ثم أخذ حضرة الخطيب يسرد شيئاً من حضارة السوريين في الماضي والمبادىء الصالحة التي أخذها الناس عنهم، فذكر نشوء الديموقراطية في سورية التي ظهرت لأول مرة في التاريخ البشري بواسطة انتخاب الملوك في الدول السورية.

ثم ذكر الشيء الكثير عن الثقافة العمرانية وإنشاء المدن البحرية وتحسين الوسائل الاقتصادية عن طريق الزراعة وغير ذلك من وسائل الرقي الإنساني، التي كانت كلها مما أنتجه الفكر السوري، أي إنّ سورية كانت الينبوع الأول لكل هذه العوامل.

كانت كلمات الزعيم تقابل بالتصفيق الحاد وكانت الجماهير تصغي إليها بانتباه كلي، وما انتهت السهرة حتى كان حضرته مفهوماً من الجميع، وكانت مهمته النبيلة ملء الأفئدة والقلوب. وفي اليوم الثاني ما كنت تسمع إلا الحديث عن النهضة السورية القومية.

سورية الجديدة، سان باولو،
العدد 67، 25/5/1940

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى