السياسة الأوروبية – وجهة المسألة الألمانية


تجري في أوروبة اليوم شؤون خطيرة جداً فيما يختص بالمسألة الألمانية التي أخذت في المدة الأخيرة في الاستفحال وولوج باب جديد من شأنه أن يغيّر تاريخ العالم كما يتفق مع عدل الطبيعة، بعد أن كانت الحرب الطاحنة الأخيرة قد غيّرته كما يتفق مع عدل دهاة السياسة الأوروبية.

لا بدّ لنا في هذا الموقف من التصريح بأن جوّ السياسة الألمانية ملبد بغيوم كثيفة تحدث فيه من حين إلى آخر بروق ورعود، ولكنه حتى الساعة لم تنقض منه صاعقة واحدة وليس في إمكان أحد أن ينبىء بوقت انقضاض الصاعقة وكيفيتها. بيد أنه إذا لم تهب ريح سلام قوية تتمكن من تبديد تلك الغيوم في القريب العاجل، فمما لا شك فيه أنّ الصاعقة ستنقض بعد زمن غير بعيد، وهي ستكون في هذه المرة على هيئة تختلف اختلافاً كبيراً عن سائر الصواعق التي سبقتها، ومن المحتمل جداً أن يعقبها صواعق عديدة في أمكنة مختلفة، بعضها في الشرق والبعض الآخر في الغرب.

من الأمور العجيبة الغريبة التي أحدثتها الحرب الأخيرة، هو ظهور تغيّر هام جداً في تاريخ العالم لم يكن يحلم به سياسي أوروبي قط وقلّما خطر على بال مفكر غربي. وهذا التغيّر رغم خطورته وأهميته في التأثير على التطور الإنساني لا تكاد ترى مفكراً غريباً قد انتبه إلى حقيقته، وما ذلك إلا لأن فعله لا يزال بطيئاً أو مستتراً عن أعين الغربيين المنشغلين بمشاحناتهم والذين بقوا زماناً طويلاً لا يرون مثله. على أنّ ذلك لا يقلل من أهميته في شيء وسوف لا يمضي وقت طويل حتى يصبح له شأن عظيم، وما هذا التغيّر المدهش إلا تنبه الشرق إلى أمور كثيرة كان غافلاً عنها وفي عدادها إبطال الاستعمار والاستعباد. فإن من نتائج الحرب العالمية التي جبلت أكثر الأمم الغربية وبعض الأمم الشرقية في معجنها الكبير مازجة الدماء بالدماء وخالطة الجثث بالجثث، أنّ الشرق أصبح يتأثر بعوامل كثيرة مما يتأثر بها الغرب. لذلك قلت إنّ صاعقة تنفجر في أوروبة قد يعقبها صواعق لا في الغرب فقط بل في الشرق أيضاً.

إنّ الأزمة الآخذة الآن بخناق الدول الأوروبية، والتي لم تعهد لها أوروبة مثيلاً منذ فجر تمدنها إلى اليوم، لهي نتيجة خطأين منطقيين فاضحين ارتكبتهما سياسة الحلفاء عموماً وسياسة فرنسة خصوصاً: أما الأول منهما فهو قطع العلاقات مع روسية، وأما الثاني فهو وضع معاهدة فرساي التي لا أظن أنّ هنالك مفكراً متعمقاً يصح أن يطلق عليه هذا اللقب إلا ويقول باستحالة تنفيذها، لأنها تحتوي في الدرجة الأولى على شروط ليست إلا شروط القاهر على المقهور، أي أنها شروط تتفق مع حق القوة الذي جاهر الحلفاء أثناء الحرب أنهم خاضوا غمار الوغى لإبطاله أكثر مما تتفق مع أي حق أو عدل آخر، وموادها في الدرجة الثانية قابلة التطويل والتقصير كقطعة المطاط، فضلاً عن الفقرات الكثيرة التي يمكن تأويلها وتفسيرها على أوجه عديدة.
يوجد في العالم فريق كبير من الذين قرأوا أبحاثاً سطحية في مسألة التعويضات واختلال الروهر يقول بوجوب تنفيذ معاهدة فرساي كما يريد الحلفاء أو بالحري كما تريد فرنسة، ذاهباً إلى أنّ ذلك حق من حقوق الحلفاء التي يؤيدها العدل، وحجتهم في ذلك أنه لو كان النصر في هذه الحرب حليف ألمانية لكانت أُلحقت بفرنسة خصوصاً وسائر أوروبة عموماً إجحافاً لم تسمع به أذن بشر. ولكني أرى أنّ هذه الحجة فاسدة لأنه ليس من الحكمة أن يتخذ تخمين الناس إمكانية سوء حادث لم يقع ولم يعد هنالك خطر من وقوعه برهاناً لتبرير سوء فعل من جهة أخرى ليس له داعٍ سوى داعي غرور المنتصرين وتشفيهم، أو كما قال لويد جورج عندما رفض موافقة فرنسة على احتلال الروهر وهو «إنّ فرنسة تحب أن تقفز على جسم ألمانية المشلول الآن وتعركه كما يحب الأولاد الصغار أن يقفزوا على جسم جبار صريع ويدوسوه بأرجلهم».

ومن المعروف المشهور أنّ الولايات المتحدة وروسية وسائر الدول الأخرى ما انحازت إلى فرنسة في الحرب إلا بغية إنقاذها من خطر الدوس بالأرجل وليس لتعينها على دوس الغير. فإذا كان ذلك صحيحاً لا يكون احتلال فرنسة الروهر دون موافقة حليفتيها إنكلترة وإيطالية إلا نوعاً من الاستفادة من مساعدة الآخرين بما لا يجوز الاستفادة به.
بعد أن انسحبت الولايات المتحدة من جمعية الأمم التي كانت هي العامل الأكبر فيها ورفضت الاشتراك في حل المشاكل الأوروبية، لم تعد تلك الجمعية إلا عصابة تمثل القاهرين القابضين على أزمة السياسة الأوروبية اليوم، ولم يبق في أوروبة غير الغالب والمغلوب. لذلك كان كلما اعترضت ألمانية على أمر أو رفضت تنفيذ فرض، فسواء كانت على حق في ما تفعل أم على شطط، عُدَّ عملها جريمة تستحق عليها عقاباً شديداً. ولو لم تكن إنكلترة قد تنبهت إلى أنّ مركزها الدولي والأدبي وشرفها الأممي في العالم يدعوانها إلى التصرف بشيء من العدل والحكمة والإنصاف فيما يختص بالمسألة الألمانية، فضلاً عن المصالح العديدة التي تضطرها إلى ذلك، لما كانت أحجمت فرنسة عن اجتياح معظم ألمانية وإرهاقها بالشروط وضرائب التعويضات وشل حركتها وتأثيرها في العالم بحجة أنّ تأمين حياتها وكيانها يقتضي مثل هذا الفعل، دون أن تخشى شراً أو خطراً أو تعتبر نفسها مسؤولة أمام أحد.

إنكلترة هي الأسد الذي يقضي بين السباع في أوروبة، ومما لا شك فيه أنّ أحكامها في الشؤون الدولية أكثر عدلاً من سائر أحكام دول أوروبة، ومهما يكن من أمر ما أوَّلوا به ميلها إلى إنصاف ألمانية في شؤون كثيرة وما نسبوه إليها من الخداع والغش وما رموها به من التلكؤ عن مساعدة حليفتها فرنسة وعزوا هذا إلى إضمار المكر، فإن وقوفها في مواضع كثيرة في موقف القاضي والمصلح فيما يختص بالمسألة الألمانية ووضعها نفسها في الموضع الذي أخلته الولايات المتحدة لمن الأمور التي يستحسنها ويقول بها كل مفكر مجرد عن التحيّز.

لا أرى أين المكر والخداع في مواقف إنكلترة الأخيرة العادلة. فقد طالعت في مجلات عديدة مقالات مختلفة في هذا المكر المزعوم فرأيت أنّ أكثرها مبني على أنه عندما رأت إنكلترة أنّ استيلاء فرنسة على معادن الفحم في الروهر وضمّه إلى ما عندها من الحديد ليس من مصلحتها عمدت إلى المداهنة والمواربة وقالت بوجوب إنصاف ألمانية. وهنالك رأي آخر عمد إليه القائلون بمكر إنكلترة لفرنسة لتثبيت هذا المكر وهو أنّ إنكلترة لم تُصَب أثناء الحرب بما أصيبت به فرنسة من خراب بعض المدن وتدمير بعض المعامل وهلاك بعض الزروع. ويتخذون هذا الرأي أيضاً حجة لتبرير جميع إجراءات فرنسة التي تؤول إلى سحق ألمانية. ولكن أليس أدعى إلى مكر إنكلترة أن تضع يدها هي على معادن الروهر وتأخذ لنفسها النصيب الأوفر من الفحم ولا تترك لفرنسة إلا حصة صغيرة منه لا تستحق الذكر، وهي في وسعها أن تفعل ذلك دون أن تخاف شر فرنسة أو تهددها بالتخلي عنها فيما لو هاجمتها ألمانية في المستقبل إذا بدا لها منها شر. أما الرأي الآخر القائل بأن إنكلترة لم تصب بالأضرار التي أصيبت بها فرنسة ولم تكن في ذات الموقف الحرج الذي كانت فيه فرنسة لتحقد على ألمانية حقد فرنسة عليها وتطلب منها ما تطلبه فرنسة فلا نحتاج في ردّه إلى أكثر من التنبيه إلى أنّ إنكلترة قد أهرقت دماء الألوف الكثيرة من أبنائها في سبيل الذود عن المدن والمعامل والمزارع الفرنسية التي لم يمكن مع كل ذلك تنجيتها كلها من الخراب لوقوعها في ساحة القتال. وفضلاً عن ذلك فإن موقف إنكلترة أثناء الحرب لم يكن يقلّ خطورة عن موقف حليفتها فرنسة. ومن الأمور المعلومة التي لا يختلف فيها إثنان عاقلان هو أنه لو خرجت ألمانية من هذه الحرب ظافرة لما أبقت لإنكلترة مستعمرة واحدة، ولكانت فقدت إنكلترة سلطتها البحرية ومصالحها الاقتصادية وشؤونها التجارية، ولأصبحت تحت رحمة ألمانية مزاحمتها القوية كما كانت أصبحت فرنسة كذلك.

لا أظن أني إذا قلت إنّ الفظاعة الألمانية، إذا كان نشوب الحرب العالمية يعدّ فظاعة ألمانية، لها سوابق تبررها، أكون قد جرّمت الحلفاء في محاولتهم كبح جماح ألمانية وردّها على أعقابها خاسرة ــــ أقول إنّ الفظاعة الألمانية لها سوابق تبررها في النظام السياسي، لا بل إنها تقلّ في شؤون كثيرة عن فظاعات بعض دول الحلفاء السابقة، فهي ليست بأكبر من فظاعة إنكلترة نفسها التي استولت على البحار بطرق قرصانية قبيحة، ثم جاءت الآن تقول بالعدل والإنصاف بين الدول، ولا هي بأعظم من فظاعة فرنسة التي طالما اعتدت على ألمانية وغيرها من الدول دون مسوغ، ثم تقول الآن بسحق ألمانية لأنها اعتدت عليها وعلى بلجيكة، هذا إذا حسبنا عمل ألمانية اعتداء على فرنسة بدون داعٍ، ولا هي بأقبح من الفظاعة الإيطالية يوم حاربت إيطالية تركية لأجل الاستيلاء على طرابلس الغرب، ولا هي بأشد من الفظاعة اليابانية يوم شهرت اليابان الحرب على روسية. وتقلّ فظاعة ألمانية كثيراً عن فظاعة إنكلترة وفرنسة وغيرهما من دول الحلفاء التي أرادت إجبار الصين على قتل نفسها بالأفيون بأن أصلت الصين حرباً تعرف بحرب الأفيون لأن الحكومة الصينية أرادت منع تجارة الأفيون في بلادها، وكانت النتيجة أنّ الحكومة الصينية اضطرت إلى إلغاء أمر ذلك المنع. ومهما يكن من الأمر فإن نهوض الحلفاء وتعاونهم على مقاومة ألمانية ليس جريمة، ولكن يجب الانتباه إلى أنّ الفظاعة الألمانية ليست جريمة لا مثيل لها في التاريخ تستحق عليها ألمانية السحق.

إذا كان الأمر كذلك فلماذا تضطر ألمانية إلى دفع غرامة تقول كل دول الحلفاء بإربائها على ما في وسع ألمانية وعدم مطابقتها للعدل الدولي، ما عدا فرنسة التي تقول إنّ ألمانية تحاول خداع الحلفاء بإظهار عجزها ثم تأبى هي الاشتراك في بعثة تدرس مقدرة ألمانية المالية؟ هذا سؤال أرى أنّ الجواب عليه سياسي حربي أكثر مما هو اقتصادي مالي، ففرنسة لا يهدأ لها بال إلا متى رأت ألمانية في حالة عجز هائل لا تتمكن معها من استعادة قوّتها ونفوذها السابقين.

لست أرى تعليلاً لذلك سوى الأحقاد الهائلة القديمة بين الأمتين الجارتين الفرنسية والألمانية التي تخبو حيناً ثم تعود إلى ظهور على شكل ألسنة من لهيب تندلع إلى سائر العالم. فهذه الأحقاد التي كانت ولا تزال تهدد السلام في أوروبة والعالم بأسره هي التي تدفع فرنسة إلى احتلال الروهر والإصرار على إبقاء الغرامة الحربية كما هي ووجوب دفعها في أوقاتها المعيّنة متسلحة في ذلك بمعاهدة فرساي. أما أعداء ألمانية والمتحيزون لفرنسة فيقولون إنّ روح الجندية الألمانية هي التي تهدد سلام العالم، وإنّ فرنسة قد ذهبت إلى الروهر لإماتة تلك الروح وإنقاذ العالم من شرٍّ مستطير في المستقبل. وهنا تبرز سؤالات عديدة للمتحيزين إلى ألمانية الحق في طرحها على بساط البحث، ومنها هل روح الجندية الفرنسية أقلّ خطراً على العالم من روح الجندية الألمانية؟ هل كانت فرنسة مرة متساهلة مع ألمانية في شأن من الشؤون فكالت لها ألمانية بدل التساهل حروباً وأهوالاً؟ وهذه الأسئلة وغيرها تقودنا إلى الخوض في أبحاث تاريخية طويلة ومجادلات سياسية عويصة ليس هذا المحل محلها.

لنفرض أنّ المتحيزين إلى فرنسة على حق فيما يدّعون، ولننظر في مسألة هامة وهي هل احتلال فرنسة الروهر والتشديد على ألمانية يميتان الروح الجندية الألمانية؟ نعلم أنه ما [إن] وطئت أقدام الجنود الفرنسية والبلجيكية أرض الروهر حتى ابتدأت في تلك المقاطعة الألمانية الغنية بمعادنها ومعاملها مقاومة سلبية شديدة ظلت أشهراً جرت في أثنائها معارك دموية فظيعة بين الأهالي الألمانيين وجنود الاحتلال الفرنسي ــــ البلجيكي، فهل كانت يا ترى هذه النتيجة الطبيعية لإقدام فرنسة على احتلال الروهر دليل احتضار الروح الجندية الألمانية، أم هي دليل استيقاظ هذه الروح ممزوجة بالكره والحقد الشديد على فرنسة؟ لا أظن أنّ عاقلاً بهذا المعنى يشك في أنّ القول الثاني هو الجواب الصحيح الصريح، فاحتلال فرنسة الروهر قد أيقظ الروح الجندية الألمانية التي كان قد أماتها سأم الحرب وويلها بدلاً من أن يبيدها. ولا يمكن أن ينسب توقف المقاومة السلبية إلى موت الروح الجندية الوطنية الألمانية، لأن الحركات الوطنية التي انتشرت على أثر إعلان توقف المقاومة السلبية في طول ألمانية وعرضها تدل دلالة واضحة على أنّ هذه الروح قد ابتدأت أن تتخذ لها شكلاً جديداً وتدخل في طور جديد خطير.
عند هذه الحقيقة، لا يسعنا إلا الاعتراف بحسن موقف إنكلترة التي حاولت أن تمنع فرنسة من ا رتكاب جريمة قد تجر على أوروبة حرباً جديدة، وتخلق لها مشاكل ليست هي على استعداد لمقابلتها وتحمّلها فلم تفلح، ولكنها أفلحت في عدم مشاركة فرنسة وموافقتها على إجراءاتها بحيث أصبحت فرنسة المسؤولة الوحيدة عن المكاره التي قد تنتج عن تصرفها المجحف فيما يختص بألمانية. ولكن فرنسة تبرز عملها بالاستناد إلى نصوص معاهدة فرساي التي لا تعتقد إنكلترة ولا إيطالية ولا غيرهما من الدول ذات الشأن بإمكانية تنفيذها إلا إذا حُوِّرت تحويراً كبيراً. أما فرنسة فقد اتخذت تلك المعاهدة ستاراً تضرب من ورائه ألمانية وتنفذ فيها أغراضها.

تبرر فرنسة احتلالها الروهر وإجراءاتها الأخرى بقولها إنّ ألمانية قد خرقت معاهدة فرساي، بيد أننا إذا تمعنا في هذه المسألة وجدنا أنّ فرنسة أيضاً قد خرقت معاهدة فرساي باحتلالها الروهر واتخاذها إجراءات صارمة ضد ألمانية دون موافقة إنكلترة وإيطالية، وهو ما لا تنص عليه معاهدة فرساي، فكل عمل تقوم به إحدى دول الحلفاء ضد ألمانية بدون موافقة دول الحلفاء كلها يُعدّ خرقاً لمعاهدة فرساي.

لا تميل فرنسة مطلقاً إلى التصرف بالطرق المقبولة التي تريد إنكلترة وإيطالية الجري عليها والتي تقول الولايات المتحدة بموافقتها، وهي أن تُدرس حالة ألمانية المالية وتقرَّر مقدرتها على الدفع، وأن تُخفَّض الغرامة إلى الدرجة التي تتمكن معها ألمانية من الدفع، وأن تُعطى علاوة على ذلك مهلة لتنظيم أحوالها وترتيب أمورها المالية والاقتصادية، وأن تكون ألمانية مطلقة التصرف في جميع شؤونها الداخلية.

ولكي نكون على بيّنة من أمر المسؤولية الكبرى الواقعة على فرنسة وحدها التي تفردت باتخاذ إجراءات صارمة بشأن المسألة الألمانية، وعدم موافقتها على ميول حليفاتها نلقي نظرة عامة على ما حدث ويحدث في ألمانية من جراء احتلال فرنسة الروهر وتدخلها في شؤون ألمانية الداخلية، فنرى أنه قد حدثت فيها المقاومة السلبية ثم توقفت وحلّت محلها الحركة الوطنية والحركة الوطنية الملكية التي كان من ورائها تجند الألوف في بافارية تحت قيادة لودندُرف وهتلر الشهيرين. ومع أنّ الحكومة الجمهورية في برلين تمكنت من إخماد هذه الفتنة في الظاهر، فإنها لا تزال متقدة في الداخل. ثم تَرَك ولي عهد ألمانية هولندا وعاد إلى ألمانية، ونظن أنّ وجوده هناك يزيد في نشاط الحركة الملكية. ولقد احتجت فرنسة احتجاجاً شديداً لدى الحكومة الألمانية على عودة ولي العهد إلى ألمانية ولكن احتجاجها ذهب عبثاً، والمقول أنّ الامبراطور السابق غليوم نفسه يحاول العودة إلى ألمانية ليقوم بنصيبه من العمل في سبيل إعادة الملكية. وخلاصة الأمر أنّ في ألمانية تياراً كهربائياً شديداً غرضه التخلص من «همجية فرنسة»، كما يقول رئيس الحكومة الألمانية. أما محاولة فرنسة تقسيم ألمانية وإعلان جمهورية الرين فقد سارت في أثر محاولتها إماتة الروح الجندية الألمانية باحتلال الروهر وزادت في إثارة البغض الألماني عليها.

كل هذه الأمور تحمل على التشاؤم من المستقبل وتدعو إلى التخوف من نشوب حرب جديدة بين ألمانية وفرنسة. فإنه إذا ظلت فرنسة مصرة على التدخل في شؤون ألمانية الداخلية، وعدم قبول اقتراحات الولايات المتحدة ونصائح حليفتيها إنكلترة وإيطالية بأن تقلع عن عزمها على تنفيذ معاهدة فرساي كما هي، وأن ترجع عن محاولتها إرهاق ألمانية وسحقها، فإن ألمانية تنهض إذ ذاك نهضة جبار قد نفذ صبره على مناوشات عدوِّه، وتمتشق الحسام في وجه فرنسة مرددة قول الشاعر العربي:
أظلماً ورمحي ناصري وحسامي وذلاً وعزّي قائد بزمامي
ولي بأس مفتول الذراعين خادر يدافع عن أشباله ويحامي

أعتقد أنه سواء أفلحت الحركة الملكية في ألمانية أو انتهت بالانخذال، فلا يخلص فرنسة من العداء الألماني سوى العدول عن موقف المنتقم المتشفي الذي وقفت فيه منذ بدء الهدنة إلى الآن، واتخاذ موقف المتساهل المتسامح حباً بالسلام العام. وهي إذا عدلت عن مطامحها في ألمانية وأظهرت رغبة حقيقية في التسامح من أجل توطيد السلام في العالم الذي هو الآن في حاجة إلى السلام أكثر من حاجته إليه في أي وقت آخر، لا يعود هنالك داعٍ لتخوفها من ألمانية والروح الجندية الألمانية مهما قويت ألمانية واشتدت روح جنديتها. لأن السلاح الأدبي الذي تكتسبه فرنسة بتساهلها يعينها على قهر ألمانية في المستقبل كما كان عوناً لها على قهرها في الماضي. أما إذا ظلت هي مصممة على الجري على الخطة الخرقاء التي تشير إلى ضرب ألمانية وهي ضعيفة الضربة القاضية فقد يحدث إذ ذاك أمر عجيب غريب، وهو أنّ الضربة القاضية التي توجهها فرنسة إلى صدر ألمانية ترتد كما بسحر ساحر إلى قلبها هي، وبدلاً من أن تجد هنالك قوة أدبية تؤيدها تجد قوة أدبية تؤيد عدوتها وتعينها عليها، وليس هذا ببعيد الوقوع بعد أن بدت مطامحها للخاص والعام، واشتهر تفضيلها الانتقام على السلام.

لا يمكن أن يكون احتلال فرنسة الروهر وتدخلها في شؤون ألمانية الداخلية عملاً مالياً أو فعلاً اقتصادياً واجباً للحصول على تعويضات من ألمانية، لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان هنالك لزوم لبذل ملايين الفرنكات في سبيل القيام بحملة حربية كبيرة على البلاد الألمانية بل كان الواجب عليها أن تقتصد هذه النفقة الهائلة وتستخدمها لسد مسد قسم من التعويضات الذي تعجز ألمانية عن أدائه. وهي لو فعلت ذلك لما كان تعذر عليها الاتفاق مع ألمانية على قدر من التعويضات يرضي ألمانية ويرضيها ولما كانت خسرت كل مركزها الأدبي، ولما كانت جرّت العالم إلى الموقف الحالي الذي تهلع له القلوب التي هي الآن في أشد حاجة إلى السلام والتعزية.

إنّ أمر إعلان حرب من أجل معاهدة فرساي متعلق بفرنسة وحدها وتبعة تسهيل نشوب حرب جديدة هائلة في أوروبة بسبب التعويضات واقعة على فرنسة وحدها، لأن الولايات المتحدة وإنكلترة وإيطالية قد نفضت أيديها جميعاً من مسؤولية إجراءات فرنسة التي ليس بين هذه الدول الثلاث دولة واحدة تعتقد بصلاحية هذه الإجراءات. فإذا لم تقلع فرنسة عن غيِّها كانت الكفة الراجحة في جانب الحرب لأن ألمانية سوف لا تصبر طويلاً على تحمل ضربات فرنسة.

إذا فشلت الحركة الملكية في ألمانية، أو لم تتمكن من تحقيق أماني الوطنيين الألمانيين وإجلاء فرنسة عن البلاد، فإن ألمانية تضطر للتخلص من قيود فرنسة واحتلالها بلادها إلى الالتجاء إلى وسيلة أخرى فعالة، وهي إعلان البلشفية وطلب معاونة روسية. فيسرع إذ ذاك الدب الأبيض إلى الاتحاد مع النسر الأسود عن طريق بولونية ساحقاً هذه البلاد سحقاً إذا سوِّلت لها نفسها الوقوف في طريقه. والذي يعلم قوة الدب الأبيض والنسر الأسود معاً لا يستبعد وقوع هذا الأمر، ومتى تم الاتحاد، التحم الدب الأبيض والنسر الأسود مع الديك وأضرابه في معارك دموية هائلة.

إذا تم هذا التقدير ونشبت الجرب بين فرنسة وألمانية أو بين فرنسة وبلجيكة من جهة، وألمانية وروسية من جهة أخرى، فهل تتمكن فرنسة بعد أن تكون هي سبب هذه الحرب من خدع العالم للوقوف في جانبها بالاستناد إلى معاهدة فرساي؟

لا أظن أنّ الجواب على هذا السؤال بعد التفاصيل المتقدمة من الأمور المشكوك بصحتها أو التي تدعو إلى الاختلاف، وهو أنّ ذلك من أصعب الصعب إذا لم يكن من المستحيل. ومع ذلك فإن هنالك وجهة أخرى للنظر، وهي أنه إذا أعلنت ألمانية البلشفية فقد لا تضطر إلى محاربة فرنسة، لأنه من المحتمل جداً أن يتبع الشعب الفرنسي الشعب الألماني وينادي هو أيضاً بالبلشفية. ولا يعلم ما في طيات المستقبل إلا علاّم الغيوب.


أنطون سعاده
المجلة، سان باولو
السنة 9، الجزء 9،  1/10/1923

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى