السياسة الخارجية – الحرب الأهلية الإسبانية


ما كادت الثورة القومية تنشب في إسبانية حتى شغل الاهتمام بها دوائر باريس وبرلين ورومة ولندن وموسكو، لأن هذه الثورة تختلف عن الثورات الإسبانية السابقة. فنتائجها لن تقتصر على تغيير الحكم أو المحافظة عليه، بل ستتناول مركز إسبانية الإنترناسيوني.
وبديهي أن تهتم فرنسة لتطورات إسبانية لأنها على حدودها الجنوبية، وأن تهتم ألمانية لهذه التطورات الإسبانية الداخلية لأن لموقف إسبانية علاقة كبيرة بموقف ألمانية، وأن تعتني موسكو بإسبانية لأنها تريدها شيوعية ومركز أعمال واسعة في أوروبة للسياسة الروسية الشيوعية، وأن تهتم إيطالية لعلاقة إسبانية بالبحر المتوسط وتأثير موقفها على الوضع السياسي الإنترناسيوني فيه، وأن تشغل بريطانية لأنه لا يجوز أن تحدث حركة سياسية في العالم من غير أن يكون لبريطانية ضلع فيها أو في تسويتها.
وقديماً كانت إسبانية عقدة مشاكل سياسية أوروبية واسعة. وكانت فرنسة دائماً تعمل كل ما في مقدورها لمنع نفوذ أية دولة أخرى قوية في جارتها اللاتينية. فكانت تغار عليها ولا غيرتها على نفسها. ولا غرو، لأنه ما دامت إسبانية تحت نفوذ السياسة الفرنسية أو مستكينة هادئة، ففرنسة في مأمن من مشاكل خطرة على حدودها. أما إذا أصبحت إسبانية ذات سياسة ترتبط بسياسة دول أخرى، فهي قوة يجب أن تتَّقى.
ولما انتصرت الحركة الفاشستية في إيطالية تحركت إسبانية لإحداث محاولة سياسية من النوع نفسه فولدت عهد بريمو دي ريفييرا الذي كان قائداً عسكرياً. ولكن حركة بريمو دي ريفييرا كانت حركة جندية فحسب وقد تناولت الإدارة بالتحسين ولكنها لم تولد نهضة قومية ولم تكن هي نفسها وليدة نهضة قومية، فلم تكن مستكملة عوامل البقاء. ولذلك زالت سريعاً تحت ضغط القوة الروحية المعادية لها التي كان يقودها بلاسكو إيبانيز.
ولكن حدث في عهد ريفييرا، الذي صار فيما بعد مركيز دي استلا، حادث ليس بالشيء الذي يجب أن يهمل. فقد زار ملك إسبانية آنئذٍ ألفنص ملك إيطالية واصطحب معه في هذه الزيارة وزيره بريمو دي ريفييرا الذي قابل موسوليني، ولو كان ريفييرا من طبقة موسوليني لكانت تلك الزيارة أدت إلى تغيير كبير في الموقف السياسي الأوروبي. ومع ذلك فلم تخلُ تلك الزيارة من تعليق في الدول الأوروبية عليها، ونعتها بالتقارب اللاتيني وتفاهم الدكتاتوريتين الإيطالية والإسبانية. وكانت مسألة تونس وطنجة تسمح بإثارة مثل هذه النغمة السياسية. وزالت دكتاتورية ريفييرا بلا أثر خطير.
الثورة القومية الحاضرة في إسبانية تختلف عن حركة بريمو دي ريفييرا وإن كانت تشبها من حيث قيام الجيش بها، فهي ثورة القصد منها إخراج إسبانية من موقفها ومرتبتها الدنيا وإدخالها في السياسة الإنترناسيونية العملية، وجعلها في عداد الدول التي يجب أن يحسب حسابها حين تتزاحم الأمم على النفوذ والمصالح.
إذا تم للثورة القومية النصر، دخلت إسبانية في عداد الأمم الفاعلة في السياسة العامة، وارتقت من دولة في المرتبة الثالثة إلى دولة في المرتبة الثانية، وكان لها وزن كبير في تقرير المسائل الأوروبية والعامة. وهذا ما يجعل مصلحة القوميين القائلين بمركز أحسن وحقوق أوسع للأمة الإسبانية إلى جانب مصلحة إيطالية وألمانية الماديتين بإعادة النظر في اقتسام موارد العالم.
أما الدول الكبرى كبريطانية وفرنسة فإن مصلحتها في إبقاء إسبانية على وضعها السابق: دولة هادئة مستكينة لا تتذمر من شيء ولا تطمح إلى شيء. ومما لا شك فيه أنّ انتصار إحدى القوتين المتطاحنتين يكون ذا نتائج حاسمة في التوازن السياسي.
جلبت الحرب الوطنية الإسبانية مظاهر جديدة وكشفت عن مقاصد سياسية مستورة. فما كادت الحرب تشتعل حتى أظهرت روسية اهتمامها العظيم، يدفعها إلى ذلك مصلحتها في إقامة توازن في غرب أوروبة يقوي مركزها في شرقها. وما أحست بالخطر على الحكومة الإسبانية الاشتراكية الموالية لسياستها حتى بادرت إلى إرسال المدد، ذخائر وجنوداً، فكانت أول دولة تدخلت تدخلاً مباشراً في إسبانية.
كان تدخّل روسية الفعلي، على بعد المسافة بينها وبين إسبانية، دليلاً واضحاً على خطورة المسألة الإسبانية في العلاقات الإنترناسيونية، وقد قاد هذا التدخل الأمم ذات المصلحة إلى التدخل هي أيضاً. فأرسلت الإمداد من الجانبين ودخلت الجيوش الأجنبية من الجبهتين السياسيتين، فتحولت إسبانية إلى مسرح حرب الإنترناسيونية ضيقة النطاق.
ولجنة الحياد الملتئمة الآن في لندن لا تبحث في وقف الحرب ولا في تسوية المصالح المتشابكة في إسبانية بل في مسائل فرعية تتناول “المتطوعين” الأجانب والمراقبة على تجارة السلاح. وفي هذه اللجنة تصطدم نظرية إيطالية وألمانية بنظرية فرنسة ومن ورائها روسية.
ولما ظهر التعقد والتصلب في الموقف لجأ الجانبان إلى التهديد. فتكلمت الصحافة الفرنسية عن “فتح الحدود” وردَّ بعض الساسة الألمان على هذا التهديد قائلاً إنه في مثل هذه الحالة تحتفظ ألمانية لنفسها “بحريّة العمل”.
وتزداد المسألة خطورة بما يظهر من موقف البرتغال الموالي للحركة القومية. وتبدي ألمانية وإيطالية اهتماماً ونشاطاً في توثيق الجبهة وتثبيت موقف البرتغال فيها.
وفي الوقت الذي يزداد فيه نشاط الدبلوماسية الألمانية ـ الإيطالية يزداد الشعور في الأوساط الفرنسية والروسية بالحاجة إلى فعل شيء قبل فوات الأوان. فهل يكون من وراء ذلك الحرب؟

النهضة، بيروت
العدد 7، 21/10/1937

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى