مِن الولادة إلى الشّهادة

نشأته

        وُلِد أنطون خليل سعاده في الأوّل من آذار عام 1904، في بلدة الشّوير – جبل لبنان، لأسرة اعتنقت العلم بَوصلة حياة، مؤلّفة من الطّبيب والرّوائيّ واللّغويّ والمترجم خليل سعاده، والسّيّدة نايفة نصير الحائزة على شهادة ثانويّة عامّة من الولايات المتّحدة الأميركيانيّة.

       عمل الدّكتور خليل طبيبًا في لبنان وفلسطين ومِصر، وألّف أوّل معجم عربيّ – إنكليزيّ، كما كتب العديد من الرّوايات باللّغتين العربيّة والإنكليزيّة.

       بسبب سفر والده المتكرّر للعمل، نشأ أنطون في الشّوير برعاية والدته حتّى مطلع العقد الأوّل من القرن المنصرم، لينتقل وعائلته إلى مصر إثر وفاة الوالدة،  ليعود إلى الوطن عام 1913، ليمكث الحَدَث أنطون وأخواته الثّلاثة سليم وإدوارد وغريس (عايده) بعناية جدّتهم لأبيهم وأحد أعمامهم، بينما سافر الأبّ إلى الأرجنتين، والأولاد الكبار إرنست، أرثور وشارلي كانوا قد التحقوا بخالهم في الولايات المتّحدة الأميركيانيّة لمتابعة دراستهم.

       ومع نشوب الحرب العالميّة الأولى، تقطّعت أواصر التّواصل بين أفراد العائلة المشتّتين بين القارات، ليصبّ وفاة جدّته ومرض أخته الصّغرى زيت الويل في حياة ابن العاشرة، وتضرب المجاعة آنذاك طبول التّشرّد على أنطون وأخوته، قبل أن يتسنّى لهم الالتحاق بمأوى برمانا للأطفال والنّساء، حيث أمضى أمرّ سنين عمره.

السّفر الأوّل

        بعد أن حطّت الحرب أوزارها، عاود الفتى أنطون الاتصال بأبيه، وسافر إليه بحرًا رفقة أخوته إلى الولايات المتّحدة الأميركيانيّة، ليتلقيَ أخوته الكبار، ويعمل لبضعة أشهر في محطة لسككِ الحديد. 

       بعدها كان الحال قد استقرّ بالدّكتور خليل في البرازيل، حيث بدأ العمل على العمل الصّحيّ والصّحفي والأدبيّ مع الجالية السّوريّة هناك، وكتب إلى أولاده لملاقاته، لينتقل أنطون وأخوته الثّلاثة إلى البرازيل، ويبقى أخوته الكبار في أميركانية، إذ لم يتسنَ للعائلة اللّقاء مجدّدًا.

        في البرازيل اختار الشّاب أنطون ألّا يلتحق بمدارس الجالية السّوريّة، بل أن يدرس على يد والده، وأن يشاركه في إدارة وإصدار جريدة “الجريدة”، حيث تسلّم في بادئ الأمر بعض الأعمال الإداريّة والماليّة، ليُباشر الإسهام بالكتابة، حيث بذغ اهتمامه بشأن سورية بين عامي 1922 – 1923، حيث نشر العديد من المقالات تُعنى باستقلال سورية والاجتماع البشريّ فيها.

        بعدها ارتأى الدّكتور خليل وقف نشر جريدة الجريدة اليوميّة، وإعادة إصدار مجلّة المجلّة الإسبوعيّة، الّتي كان قد نشرها في الأرجنتين خلال سنين الحرب، ليهتمّ أنطون بإدارتها، وإغناء موادها، ولا سيّما في مسائل السّياسة الخارجيّة الّتي أولاها اهتمامًا منذ ذلك الوقت، وعندها بدأت اتجاهاته النّهضويّ ونزعته التّجديديّة بالتّبلور، حيث ظهرت البوادر الأولى لرغبته في تأسيس حركة سوريّة منظّمة تتظر في شؤون سورية الوطنيّة، ومصير الأمّة السّوريّة، وتكرّس وعي سعاده المُبكر للأخطار المُحدِقة بأمّته في مقال نشره في المجلّة تحت عنوان “الصّهيونيّة وامتدادها”، دعا فيه بوضوح لتأسيس حركة نظاميّة مُعاكِسة للحركة الصّهيونيّة، وإلّا فإجراءات الحركة الصّهيونيّة سيُكتب لها النّجاح.

       وخلال فترتي عمله في الجريدة والمجلّة، انكبّ سعاده على الدّراسة والقراءة، فدرس الألمانيّة والبرتغاليّة والرّوسيّة، وتوسّع في علوم التّاريخ والاجتماع والسّياسة.

      وفي العام 1925، امتدّ عمله لأوّل محاولة تنظيم سياسيّ، لينخرط في مجمّع ماسونيّ سوريّ يرأسه والده، محاولًا ووالده توجيه أعمال المحفل باتجاه الإلتزام السّياسيّ بمشاكل وهموم الوطن، فلم يوفّقا فآثرا الاستقالة، وقد قدّم أنطون سعاده كتاب الاستقالة من الماسونيّة في 24/5/1926، ونشره في جريدة القلم الحديديّ.

بداية العمل السّياسيّ المنظّم

      باشر سعاده عمله السّياسيّ العمليّ عبر تأسيس حزب “الرّابطة الوطنيّة السّوريّة”، عام 1926، لكنّه لم يوفّق في جمع العناصر الجادّة في الجالية، وغلب على نشاطها الطّابع الارتجاليّ والأعمال العلميّة البسيطة، فتركها وأسّس عام 1927 حزب “الوطنيّين الأحرار” في البرازيل أيضًا، ولكنّ مصير هذا الحزب لم يكن أفضل من مصير الرّابطة. لينصرف أنطون بين العامين 1926 و 1930 إلى التّعليم في بعض اللّجان التّربويّة الّتي أقامتها الحكومة البرازيليّة للإشراف على البرامج التّعليميّة، وكتابة بعض المقالات المتفرّقة، ورواية” فاجعة حبّ”، في ذكرى أخيه سليم الّذي توفى شابًا.

العودة الأولى إلى الوطن

      عاد أنطون سعاده إلى الوطن في تمّوز 1930، حيث أمضى صائفة ذاك العام في الشّوير، وانتقل بعدها إلى دمشق، لدراسة إمكانيّة العمل السّياسيّ فيها، كونها العاصمة التّاريخيّة لسورية ورمز المعارضة في وجه الانتداب الفرنسيّ، مستهلًا عمله ببعض الاتصالات السّياسيّة والكتابة الصّحافيّة في جريدتي القبس واليوم، كما مارس التّعليم، ليصطدم بعقليّة السّياسيّين التّقليديّين والوجهاء، إذ مُنع من إلقاء محاضرة في “المجمع العلميّ” في دمشق بعد اطّلاع رئيس المجمع على مضمون المحاضرة، ليقرّر العودة إلى بيروت عام 1931 ومزاولة العمل السّياسيّ إنطلاقًا منها.

      ففي بيروت، قرّر تأسيس حزب جديد، مستفيدًا من تجاربه في البرازيل ودمشق، مركّزًا على مستويّين أساسيّين: الأوّل هو انتقاء وتنمية العناصر الصّالحة للعمل الحزبيّ الجديد من بين الشّباب المثقّف، فعمد إلى استقطاب طلّاب الجامعة الأميركيانيّة مستفيدًا من عمله مدرّسًا خصوصيًّا للغة الألمانيّة خارج ملاك الجامعة، والثّاني في إيجاد المنابر الصّالحة لبثّ الأُسس العامّة لدعوته، فحاضر في تجمّعات طلّابيّة مثل “العروة الوثقيّ” و”جمعيّة الاجتهاد الرّوحيّ للشبيبة” و “النّادي الفلسطينيّ”، فحملت هذه المحاضرات أسس الدّعوة وخطواتها العامّة تهيئةً للجوّ الثّقافيّ – السّياسيّ العامّ.

تأسيس الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ

     وفي 16 تشرين الثّاني 1932، أسّس أنطون سعاده الحزب السّوريّ القوميّ الإجتماعيّ سرّيًّا من أربعة أعضاء، حيث كانت المواد الثّقافيّة الّتي قامت عليها الدّعوة في بادئ عهدها قليلة، تقتصر على نصوص المبادئ ونصوص محاضرات سعاده، لينمو الحزب تدريجيًّا في ظلّ عاملَي الاعتناق التّتابعيّ والإدخال السّرّيّ البطيء.

    وفي عام 1933، أعاد سعاده إصدار “المجلّة” في بيروت لتساهم في نشر وتوضيح أسس النّهضة الّتي يسعى إليها الحزب، فظهرت على صفحاتها للمرّة الأولى في الوطن، دراسات تحليليّة لمعنى الأمّة، أصبحت فيما بعد نُواة كتاب أنطون سعاده العلميّ “نشوء الأمم”، كما نُشِرت في “المجلّة” نصوصه ومحاضراته في الأندية الثّقافيّة الطّلّابيّة، ومقالات نقديّة وتوجيهيّة في الأدب والثّقافة القوميّة.

    خلال المرحلة التّأسيسيّة، جرت إختبارات سياسيّة وإداريّة عديدة، فحَرُص سعاده على تفادي الأخطاء الماضية، وحماية الحزب من الفرديّة والتّسرّع والارتجال، إذ ترافق النّموّ العدديّ والانتشار الجغرافيّ للحزب مع نموّ هيكليّته الإداريّة ووضوح التّفاصيل التّنظيميّة، وصياغة نظامه ودستوره. ومع حلول العام 1935، بات الحزب يضمّ نخبة الشّباب المثقّف في البلاد.

     وفي الأوّل من حزيران 1935، أقام الحزب اجتماعه العامّ الأوّل في منزل أحد مسؤوليه “نعمه ثابت” في بيروت، ليتعرّف الأعضاء على سعاده كزعيم للحزب، والّذي ألقى خطابًا مكتوبِا هو من أهمّ الوثائق الفكريّة الثّقافيّة الّتي تشرح العقيدة وطبيعة النّهضة الّتي يهدف إليها الحزب.

الاعتقال الأوّل

     بعد هذا الاجتماع، قامت سلطات الانتداب باعتقال سعاده وعدد من معاونيه في 16 تشرين الثّاني 1935، بتهمة تشكيل جمعيّة سرّيّة تهدف للإخلال بالأمن العامّ والإضرار بأراضي الدّولة وتغيير شكل الحكم، حيث كان الاعتقال الأوّل امتحانًا لأهليّة الحزب الجديد للبقاء والاستمرار، وأهليّة سعاده للقيادة والمواجهة العلنيّة الصّريحة مع القوى المناهضة للحزب.

     وخلال المحاكمة، أعلن سعاده لمعتقليه عن مسؤوليّته الكاملة عن تأسيس الحزب شفويًّا وخطّيًّا، وآزر معاونيه لتحمّل أعباء الأسر، وحافظ خلال مراحل التّحقيق والمحكمة على أولويّة استمرار الحزب، فكان الاعتقال دليلًا جديدًا على ميزة هذا الحزب، فحُكِم على سعاده بالسّجن 6 أشهر أكمل فيها مؤلّفه العلميّ “نشوء الأمم”.

إثر خروجه من السّجن في 12 أيّار 1936، وجد سعاده نفسه أمام عدّة اختبارات على السّاحتين السّياسيّة والحزبيّة، حيث أدّى انكشاف أمر الحزب إلى الكثير من الاهتمام والإقبال عليه، ما دفع سعاده إلى ضرورة تغيير أسلوب العمل، ما حمّله أعباء دورَي القيادة السّياسيّة والزّعامة الحزبيّة بشكل أكبر، كما دفع بالقوى المناوئة إلى الاستعداد لمحاربته، فكان همّه خلال هذه الفترة، إعادة تحصين الحزب وإصلاح ما تداعى من بنيته خلال الاعتقال الأوّل.

الاعتقال الثّاني

       مع تسارع الأحداث السّياسيّة، أدّت بعض التّعقيدات لسجن سعاده للمرّة الثّانية في 26 حزيران 1936، ومكث في السّجن حتّى 12 تشرين الثّاني 1936، منجزًا فيها مبادئ الحزب وغايته.

      عند خروجه من الاعتقال، وجد سعاده أنّ نشاط القوى المعادية قد أخذ أشكالًا تنظيميّة جديدة، إذ ظهرت على السّاحة السّياسيّة عدّة أحزاب طائفيّة ومذهبيّة.

     كما عمل على حلّ المشاكل التّظيميّة في الحزب الّتي طرأت أثناء غيابه، وهدَف إلى وضع الحزب على مسار المشاركة الكثيفة في الحياة السّياسيّة والثّقافيّة في البلاد،وتمثّلت هذه المشاركة عبر اتصالات سياسيّة واسعة، وإصدار بيانات ومذكّرات في شؤون الانتداب ومسألة اسكندرونة، والعلاقات بين الكيانات السّياسيّة السّوريّة، والاشتراك في مؤتمرات وإقامة اجتماعات حزبيّة علانيّة في المناطق.

الاعتقال الثّالث

     أثار هذا النّشاط الباهر مخاوف سلطات الانتداب، فاستفادت من حادث بسيط خلال احتفال حزبيّ في بلدة يِكفيّا، لشن حملة على الحزب واعتقال زعيمه، فدخل سعاده السّجن للمرّة الثّالثة في 10 آذار 1937 ولم يخرج منه حتّى 15 أيّار 1937.

بدء تثبيت مبادئ الحزب بين النّخب الشّابّة

    تنبّه سعاده للمخاطر الاعتقال المتكرّر على سلامة الحزب، وضعف فرص نجاحه في العمل السّياسيّ، فكان خروجه من السّجن الثّالث نتيجة هدنة بين الحزب والحكومة اللّبنانيّة، وقد استفاد من هذه الهدنة لإصدار ج ريدة حزبيّة يوميّة هي جريدة “النّهضة” الّتي ظهر عددها الأوّل في 14 تشرين الأوّل 1937، وكتب سعاده بشكل يوميّ إفتتاحيّتها، متناولًا المسائل السّياسيّة الخارجيّة والمسائل الفكريّة العامّة، ونقد القوى السّياسيّة المناوئة.

    حيث ظهرت على صفحاتها مواهب النّخبة الثّقافيّة الشّابّة الّتي اهتمّ سعاده باستقطابها إلى الحزب، لتوفّر “النّهضة” للحزب منبرًا واسعًا في القضايا الفكريّة، ووجودًا مميّزًا على السّاحة القوميّة.

    وتنبّه سعاده لأولويّة تأمين دعم ماليّ مستمرّ للحزب، ودعم انترناسيونيّ من الجاليات السّوريّة والتفافها حول قضيّة الحزب، وبدأ التّحضير لجولة على مراكز الاغتراب السّوريّ لتوفير سبل الانتقال بالحزب لمرحلة القدرة على تحقيق أهدافه، عبر تأمين الدّعم للقيام بعمل حاسم في سبيل التّحرّر من الانتداب.

    وفي أوائل 1938، أُصدرت الطّبعة الأولى لكتاب “نشوء الأمم”.

السّفر الثّاني

   في ربيع 1938، عادت العلاقات بين الحزب وسلطات الانتداب تتأزّم، فغادر سعاده بيروت بجواز سفر يحمل اسم “أنطون خليل مجاعص”، وما إن غادر بيروت، قامت سلطات الانتداب بمداهمة مراكز الحزب بغرض اعتقاله، وعطّلت صحيفة “النّهضة”، ومنعت العمل الحزبيّ.

     وفي هذا الحين، انتقل سعاده إلى فلسطين لتفقّد فروع الحزب في السّاحل الفلسطينيّ، ومنها إلى قبرص في انتظار اكتمال تحضيرات رحلته إلى المهاجر السّوريّة، لينتقل إلى رومة ويخليها برلين، ملبّيًا دعوة من فرع الحزب هناك، حيث ألقى محاضرة في جامعة برلين، وضّح خلالها الحدود الشّرقيّة للوطن السّوريّ،وموقع جنوب العراق فيه.

     في كانون الأوّل 1938، وصل سعاده إلى البرازيل، واستقرّ في “سان باولو” مدينة صباه، ليبدأ لقاءاته مع أعيان الجالية وأبنائها وأصحاب الصّحف والمثقّفين والأدباء، ليصدم بالذّهنيّة التّقليديّة الرّافضة لتيار القيادة الجديدة في السّياسة والأدب والثّقافة. تزامنت هذه الزّيارة مع تداخل جهود محازبي فرنسة وعملائها، وسعيهم مع السّلطات الفرنسيّة لتعطيل عمل سعاده في البرازيل.

      عندها، كان سعاده يُعدّ لإصدار صحيفة أسبوعيّة في البرازيل تحمل صوت النّهضة تحت مسمّى “سورية الجديدة”، وصدر العدد الأوّل لها في 11 آذار 1939، لتقدم السّلطات البرازيليّة على اعتقال سعاده واثنين من معاونيه في 23 آذار، بتهمة الدّعوة للسياسة الفاشستيّة، والمَس بسلامة العلاقات للدولة البرازيليّة، فسارعت الجهات المثقّفة للدفاع عن سعاده، فأرسل رئيس جمعيّة الصّحافة في “سان باولو” رسالة استفهام إلى دائرة الأمن العامّ، كما تقدّم قنصل فرنسة بطلب تسليم سعاده بتحاكمه سلطات اللنتداب، لترفض السّلطات البرازيليّة، وبعد تحقيق دقيق تبيّن للمحكمة براءة سعاده من التّهم الموجّة إليه، وأفرجت عنه ومعاونيه في 30 نيسان 1939. وبعد إسبوعين من خروجه من السّجن، غادر إلى الأرجنتين، ليتابع اهتمامه بجريدة “سورية الجديدة”، وأعمال الحزب في الوطن والمهجر.

      ثمّ حاول تجديد جواز سفره في السّفارة الفرنسيّة في أيّار 1940، لكنّ السّفارة رفضت، لتصدر سلطات الانتداب في حزيران من العام نفسه، حكمًا غيابيًّا، قضى بسجنه 20 عامًا وإقصائه 20 أخرى. ونتيجة لهذا الحكم، استحصل سعاده على إقامة دائمة في الأرجنتين.

      مع اضطراره القسريّ البقاء في الأرجنتين، أصدر سعاده جريدة “الزّوبعة”، لأنّ “سورية الجديدة” في البرازيل كانت عُرضة لمشاكل إداريّة وسياسيّة مستعصيّة ناجمة عن شراكة في ملكيّتها، حالت دونما الالتزام الدّائم بسياسة الحزب. وصدر العدد الأوّل من “الزّوبعة” في 1 آب 1940، وسرعان ما تحوّلت إلى منبر للأبحاث الفكريّة العالية، فنشر المقال الأوّل من سلسلة” جنون الخلود” في تشرين الأوّل 1940، والّتي استمرّت حتّى أيّار 1942، وفيها تناول مسائل الأدب والفلسفة والدّين والعروبة، وأتبع ذلك بسلسلة مقالات حول الأدب جمعها في كانون الأوّل 1942 في كتاب “الصّراع الفكريّ في الأدب السّوريّ”. 

زواج سعادة وجولييت المير

     خلال هذه الفترة، تعرّف على جولييت المير، وهي من عائلة طرابلسيّة هاجرت مع عائلتها في العاشرة من عمرها إلى الأرجنتين،  وكانت جولييت وأخوها قد انتسبا للحزب في الأرجنتين، وأضهرا تفانيًا ونشاطًا كبيرين في صفوفه، مما قرّب العائلة بأسرها من سعاده، لتنمى مشاعر الحبّ بين الزّعيم وجولييت، وتزوّحا في نيسان 1941، ورزقا بثلاث بنات، اثنتان منهن ولدتا في المهجر (صفيّة وأليسار)، وإحدهن بعد العودة إلى الوطن (راغدة).

الصّراع مع العقليّة التّقليديّة

     في ظلّ وجود صحيفتين للحزب في أميركيا اللّاتينيّة، وتأسيس فروع جديدة له، تحوّل الحزب من حركة جديدة في الوطن يمكن التّواصل معها، إلى حركة حقيقيّة في المهجر تواجه القيادات السّياسيّة التّقليديّة في الجاليات السّوريّة، ليظهر صراع بين سعاده وأقطاب المواقع التّقليديّة كالشّاعر القرويّ رشيد سليم الخوري، وزكي قنصل وإيليا أبو ماضي وغيرهم، وأقردت “الزّوبعة” صفحات عديدة بقلم سعاده للردّ على هجمات هؤلاء على الحزب وعقيدته.

      إلى جانب النّشاط الإذاعيّ – السّياسيّ – الفكريّ، وَجُب على سعاده العناية بالشّؤون التّنظيميّة للحزب في المغترب، وأمام المسؤوليات المتراكمة على كاهله، أتت مشكلة ضعف الموارد المادّية لتزيد الطّين بلّة، فشارك سعاده رفيقين في الحزب بشركة صناعيّة – تجاريّة، لكنّه لم تنجح.

فانتقل إلى منطقة كومان في الأرجنتين ليستثمر بمحلٍّ تجاريٍّ أداره بنفسه، حتّى عودته من إلى الوطن عام 1947. وكانت “الزّوبعة” قد توقّفت عن الصّدور عام 1943، حيث حاول سعاده جاهدِا إعادة إصدارها، لكنّ العائق الماديّ حال دونما ذلك.

عودة الاتصال بالوطن والإدارة الحزبيّة فيه 

      أواخر 1946، وصل إلى الولايات المتّحدة الأميركيانيّة غسّان تويني مفوّضًا من قبل إدارة الحزب في الوطن، للاتصال بالزّعيم، فتعرّف خلالها سعاده على واقع العمل الحزبيّ في الوطن، ليلحظ العديد من الأمور الشّاذّة في سياسة النّهضة وفلسفتها، ومنها خُطَب رئيس المجلس الأعلى نعمه ثابت، ومقالات عميد الثّقافة فايز الصّايغ، وعاد الاتصال المباشر بين الحزب وسعاده، لترده نشرات حزب ومطبوعاته منذ 1946.

      لم تكن عودة الزّعيم إلى الوطن سهلة، فقد كان عليه التّغلّب على مصاعب إداريّة وعمليّة وسياسيّة، وفي طليعتها عدم رغبة الحكومة اللّبنانيّة السّماح بعودته، وعدم امتلاكه لجواز سفر يسمح  له الخروج من الأرجنتين، لكنّه استحصل على جواز سفر مؤقّت من السّفارة الفرنسيّة في الأرجنتين سمح له الانتقال إلى البرازيل، وتمكّن هناك الحصول على جواز سفر لبنانيّ.

العودة الأخيرة إلى الوطن

      في أواخر 1946، أنهى أعماله التّجاريّة، وقرّر السّافر جوًّا بمفرده إلى الوطن، على أن تلحق به عائلته فيما بعد، ليصل إلى القاهرة في 18 شباط 1947، حيث التقى برئيس المجلس الأعلى في الحزب الأمين نعمه ثابت، وبأسد الأشقر، وتباحث معهما بأمر العودة إلى الوطن، والموقف السّياسيّ الواجب اتّخاذه في هذا المجال.

     ففي هذا اللّقاء، تبيّن لسعاده مدى التّغيير السّياسيّ الّذي طرأ على عمل الحزب، إذ اتخذت إدارة الحزب العليا قرارًا بحصر عمل الحزب ومهمّاته في الدّاخل اللّبنانيّ، وبنت عليه تحالفاتها السّياسيّة.

     وصلت طائرة سعاده إلى بيروت في 2 آذار 1947، استقبله حشد كبير لم يعرفه لبنان من قبل، رغم قرار الحكومة يمنع القوميّين من العبور وسط بيروت في ذلك اليوم، ألقى سعاده فور وصوله خطابًا تاريخيًّا حدّد فيه بوضوح موقفه من استقلال لبنان، وقضايا الوطن ومستقبل الحزب. ليسارع أعداء الحزب لحملة سريعة تعطيلًا للنتائج المتوقّعة لعمل الحزب بعد عودة سعاده. وقد توجّهت جهودهم للزعيم نفسه كما أيام الانتداب عبر عرقلة تقدّم الحزب باعتقال قائده، ليصدر الأمن العامّ قرارًا باستدعاء سعاده للتحقيق ليلًا.

عودة السّجال مع سلطات الكيان اللّبنانيّ

      رفض الزّعيم الإذعان للتحقيق، واعتبر ذلك خطّة عدائيّة، واعتصم في الجبل في منطقة المتن، فأصدرت الحكومة مذكّرة توقيف بحقّه، مسيّرة دوريّات بوليسيّة إلى الجبل بهدف القبض عليه.

      كما أصدرت الحكومة مذكّرة قاضية يتعطيل جريدة “صدى النّهضة” باسم الحزب، فاستفاض عنها بجريدة “الشّمس” الّتي عُطِّلَت بدورها، فتحوّلت إلى مجلّة “الكوكب”، إلى حين إصدار جريدته الجديدة “الجيل الجديد”.

      خلال فترة الملاحقة المتكرّرة، اتّبع سعاده خطّة سياسيّة على الحكومة والأحزاب الموالية لها، فقرّر خوض الحزب للمعركة الانتخابيّة، مرفقًا ذلك بسلسلة بيانات سياسيّة إلى الشّعب، يشرح فيها برنامج الحزب الانتخابيّ، وحقيقة الصّراع مع الحكومة، كما قابل في مكان اعتصامه عددًا كبيرًا من الصّحافيّين المحلّيّين وممثلي وكالات الأنباء العالميّة، واتصل به عددًا من المعارضين.

     على الرّغم من الملاحقة تنقّل الزّعيم شخصيًّا في مدن وقرى جبل لبنان، متحدّثًا إلى المواطنين، ومجتمعًا بأعضاء الحزب، وأمام صلابة موقفه، والاهتمام الإعلاميّ به، والتفاف الشّعب حوله، تراجعت الحكومة عن موقفها الأوّل، وأتمّت اتصالات ومفاوشات السّياسيّة، أفضت إلى سحب مذكّرة التّوقيف، وأعلن سعاده انتصار الحزب على القمع السّياسيّ الحكوميّ.

تنظيف الحزب من العناصر الشّاذّة

      لم تكن المعركة الخارجيّة مع الحكومة اللّبنانيّة آنذاك، الأزمة الوحيدة الّتي واجهها سعاده، بل تزامنت مع مواجهة داخليّة مع بعض أعضاء الإدارة العليا في الحزب مثل نعمه ثابت، مأمون أيّاس، غسّان تويني.. إذ رأي هؤلاء أنّ عودة سعاده ومواقفه السّياسيّة تتعارض وسياستهم في التّوافق مع القوى الحاكمة في الكيان اللّبنانيّ، فطاليوا بتعديل الدّستور للحدّ من سلطة الزّعامة، وعارضوا موقف الزّعيم من الحكومة، واتّهموه بالعناد السّياسيّ، فوجد سعاده أنّ استمرار المعركة الدّاخليّة يعرّض الحزب لخطر خسارة المعركة الخارجيّة، فقام بحلّ الإدارة العليا في الحزب، ومع خروج الخصام إلى العلن قام بطرد هؤلاء من صفوف الحزب.

فلسطين.. لم تغب يومّا عن حياة وتفكير وتخطيط الزّعيم

      بعد انتهاء معركة مذكّرة التّوقيف وحسم الخلافات الدّاخليّة، التفت سعاده للمسائل القوميّة، وخاصّة مسألة فلسطين، ومع اقتراب ذكرى وعد بلفور، وترافقها مع اجتماع الأمم المتّحدة للنظر بشأن فلسطين، دعا سعاده إلى مهرجان شعبيّ كبير يقام في بيروت، لإظهار الرّفض والمقاومة لما يجري في فلسطين، لكنّ الحكومة اللّبنانيّة رفضت السّماح للحزب بإقامة المهرجان، فاستعاض عنه ببيان من سعاده حول مسألة فلسطين، أعلن فيه حلولًا عمليّة لمواجهة الكارثة القادم، وبحلول أخر تشرين الثّاني 1948 أصدرت منظّمة الأمم المتّحدة قرارًا بتقسيم فلسطين.

     فاشترك الحزب في الأعمال العسكريّة الدّائرة في فلسطين، إزاء رفض الحكومة تسليح القوميّين حتّى أشدّ فترات القتال، وارتقى منهم شهداء.

    ومع نكبة إعلان دولة إسرائيل على الأراضي السّوريّة في فلسطين، رأى سعاده أنّ الاعتماد على القوى السّياسيّة الحاكمة في كيانات الأمّة أمر غير مجدٍ، وبدأ العمل بهدوء لتشكيل جهاز قياديّ حزبيّ من بين أعضاء الحزب، يُشكّل نواة عمل تحريريّ مقبل.

إعادة توجيه البناء الفكريّ وتثبيت المواقع الشّعبيّة

    في خضمّ هذه الأحداث، ركّز الزّعيم على إعادة بناء الحزب فكريًّا، وتثبيت مواقعه الشّعبيّة وتوسيعها، فأعاد نشاط النّدوة الثّقافيّة وفتح أبوابها للطلبة الجامعيّين والمثقّفين عامّة، وألقى بين كانون الثّاني وأوائل نيسان 1948، عشر محاضرات تضمّنت شرحًا موسّعا للعقيدة القوميّة، لتصبح هذه المحاضرات من أهمِّ مصادر دراسة فكر سعاده وأسس النّهضة. وفي 1948، صدرت الأعداد الأولى لمجلّة “النّظام الجديد” الّتي تضمّنت نصوص عدد من المحاضرات النّدوة الثّقافيّة، والعديد من الكتابات الفكريّة والتّاريخيّة والفلسفيّة بقلم سعاده، وعدد من المفكّر ين الشّباب الملفين حوله، بتعمد الحكومة إلى تعطيها في نيسان 1948 بعد صدور خمسة أعداد منها فقط.

      بالتّزامن مع نشاطه العقائديّ الفكريّ، قام سعاده خلال عام 1948، بعدّة جولات في المناطق اللّبنانيّة، وراح يخطب في الحشود المجتمعة، لحثّها على الانخراط في صفوق العمل القوميّ، وأخذ بتوجيه جهوده نحو الدّاخل الشّاميّ، فزار دمشق مرارًا ملتقيًا الطّلبة والهيئات السّياسيّة فيه، وفي خريف 1948 قام بجولة امتدّت من دمشق إلى حمص وحلب وحماة والسّاحل السّوريّ الشّماليّ.

      لاقت جولات سعاده اهتمامًا واسعًا في أوساط الشّعب، حيث أثار بروز الحزب في ميدان العمل الشّعبيّ يُثير حفيضة أهل الحكم في كيانات الأمّة. 

      نشر سعاده 17 مقالًا في جريدة “كلّ شيء”، ما بين شهري كانون الثّاني وآذار 1948، وقد تضمّنت هذه المقالات نقدًا شديدًا للمرجعيّات السّياسيّة الفكريّة، وتحليلًا دقيقًا لإفلاس الإنعزاليّة اللّبنانيّة، والإنفلاشيّة الوهميّة، واستمرّت مقالات سعاده بعد ذلك على صفحات “الجيل الجديد” الّتي عادت إلى الصّدور في نيسان 1949.

عودة المواجهة مع حكومة الكيان اللّبنانيّ

     أمام نجاح الأعمال العقائديّة والإعلاميّة بقيادة سعاده، ازداد الضّغط الحكوميّ على حزبه في الكيان اللّبنانيّ، لتعاود الحكومة منع الاجتماعات الحزبيّة العلنيّة العامّة، واشتدّت المواجهة حتّى كادت تؤدّي إلى صدامات خلال الاحتفالات الحزبيّة في الأوّل من آذار 1949.

     في أواخر آذار 1949، قام قائد الجيش الشّاميّ حسني الزّعيم بانقلاب مسلّح في دمشق، بدا في حينه ردًا على نكبة فلسطين، فلم يتوانَ سعاده بالاتصال بحاكم دمشق الجديد، لكنّ هذه الاتصالات لم تؤدِّ عمليًّا إلّا إلى وعود مخادعة، كما أنّها عجّلت في تحرّك الحكومة اللّبنانيّة للمباشرة بتفيد مخطّطها للقضاء على سعاده وحزبه، بالتّواطؤ مع حسني الزّعيم وجهات مخابراتيّة خارجيّة انترناشيونيّة وإقليميّة.

      فيما كانت الحكومة بحاجة إلى مأخذ يسهّل لها علانيًّا وإعلاميًّا مباشرًا، لتنفيذ خطّة تصفية الحزب السّوريِّ القوميِّ الإجتماعيِّ، توفّر لها هذا المأخذ في حادث افتعلته الدّولة بواسطة حزب الكتائب اللّبنانيّة، حيث هاجمت عناصر منه مطبعة جريدة “الجيل الجديد” وأحرقتها، لتستفيد المحكوم من هذه الحادثة، وبدأت قوّاتها فورًا مداهمة مراكز الحزب، ومنازل قياديّه وأعضائه وألقت القبض عليهم، وبعد أيّام قليلة أصبح 3 آلاف من القوميّين الاجتماعيّين في السّجن، وقسم كبير من القياديّين قيد الملاحقة.

إنتقال سعاده إلى دمشق

      لكن الحكومة لم تنجح باعتقال سعاده، الّذي وصل سرّيًّا إلى دمشق، وبدأ التّحضير لعمل منظّم يحمي الحزب من الاندثار أمام الهجوم الحكوميّ الشّرس في لبنان.

     تطلّبت خطّة سعاده أن يكون للحزب شيء من حرّيّة العمل السّياسيّ والعسكريّ ضمن حدود الكيان الشّاميّ كمركز انطلاق، فاجتمع بحسني الزّعيم مجدّدًا من أجل هذا الغرض، ولقي منه استعدادًا ظاهرًا للمساعدة المعنويّة عبر السّماح بالعمل السّياسيّ المحدود، فباشر عندها للتحضير للمقاومة الشّعبيّة في الكيان اللّبنانيّ، والتّخطيط للثورة الشّعبيّة على النّظام اللّبنانيّ. 

خيانة حسني الزّعيم.. للزعيم

     لم يتلقَّ الحزب أيّة مساعدة مذكورة من حكومة حسني الزّعيم، وحتّى الوعد بتسهيل العمل لم يتحقّق كما هو متوقّع، فسار الحزب بالثّورة الشّعبيّة في الكيان اللّبنانيّ معتمدًا على قواه الذّاتيّة، فيما كانت الاتصالات بين بيروت ودمشق والقاهرة تسير في اتجاه التّقريب بين الحكومتين اللّبنانيّة والشّاميّة، فما إن أعلن الحزب الثّورة في 4 تمّوز 1949، حتّى وجدت قوّاته المتوجّهة إلى داخل الحدود اللّبنانيّة ضحيّة خيانة حكومة حسني الزّعيم لها، ما مهّد لانه امها أمام قوى الحكومة اللّبنانيّة، مع معرفتها بخطط القوميّين وأماكن تجمّعهم.

محاكمة سعادة الصّوريّة

      وفي السّادس من تمّوز، حيكت مؤامرة ضدّ الزّعيم أفضت إلى اعتقاله في دمشق، وسلّمته للآمن العامّ اللّبنانيّ، الّتي كانت مكلّفة بتصفيته خلال الرّحلة من دمشق إلى بيروت، لكنّ يقظة ضمير أحد كبار الضّباط المكلّفين بهذه المهمة منعت هذا الأمر من الحدوث، فوصل سعاده إلى بيروت مع صباح 7 تمّوز، واستمرّ التّحقيق معه حتّى الظّهر، وانعقدت محكمة عسكريّة للنظر في قضية الحزب مباشرة في اليوم ذاته، إذ رفضت المحكمة إعطاء محامي الدّفاع أيّة مهلة للتحضير، فتولّى سعاده الدّفاع عن نفسه، واستمرّت المحكمة حتّى مساء ذاك اليوم، وأصدرت مباشرة الحكم المحضّر سلفًا بإعدام سعاده سريعًا، ورفضت الحكومة طلب لجنة العفو القضائيّة إعطاءها مهلة النّظر في الحكم، فجرى إعدام سعاده في السّاعة الثّالثة والثّلث  صباح 8 تمّوز دون السّماح له بمشاهدة زوجته وبناته للمرّة الأخيرة.

    جرت محاكمة سعاده المختصرة وتمّ إعدامه بسرّيّة تامّة في ظلّ أشدّ الاحتياطات الأمنيّة، لكنّ وقائع المحاكمة المغلقة السّرّيّة ولحظات حياته الأخيرة قبل الإعدام تسرّبت سريعًا، ليرى الشّعب في هذه الوقائع ما عهده من شجاعة أنطون سعاده وثباته وتفانيه، وهكذا أصبحت لحظات حياته الأخيرة أمثولة في التّاريخ السّوريّ الحديث.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى