الفتنة الدينية بين سورية الأرجنتين – الحي الإسلامي

إنّ استغلال الإسلام المحمدي والمحمديين لأغراض نفعية ولسياسات إنترناسيونية ليس بالشيء الجديد. وقد تصدَّت الزوبعة في أعداد سابقة لتبيان تزاحم ألمانية وبريطانية وإيطالية وفرنسة على تحريض المحمديين في كل مكان لبلوغ مآرب سياسية أو حربية خصوصية. وتجد هذه المآرب دعامة في مطامع بعض الأشخاص من المحمديين في الارتقاء إلى الحكم والخلافة على سلّم العصبية الدينية كالسيد شكيب أرسلان الدرزي الأصل والمحمدي المذهب، الذي يريد أن يحوّل الدروز إلى مسلمين محمديين ليكتسب بهم عصبية ضمن المجموع المحمدي لأنه لا عصبية له فيه يمكنه الاعتماد عليها لتحقيق مطامعه في الخلافة والانتصار على مزاحميه في النفوذ. وكالأمير عبد الله صاحب شرق الأردن وكالشيخ تاج الدين الحسني.
وما هي هذه الخلافة وما هو هذا الحكم الذي يطمع فيه هؤلاء النفعيون والاستغلاليون؟ هما ولاية من يد أجنبية تجعل صاحبها في مقام باي تونس عند الفرنسيين أو خليفة مراكش عند الإسبان وبعض المال الذي يقبضونه للدعاوة!

وهنالك مصيبة أخرى تأتي مع المصيبة بالطامعين في الحكم باسم الدين هي المصيبة بصغار النفعيين الذين يقبضون أجوراً زهيدة لقاء نشر جميع ما توعز به المصادر الأجنبية مباشرة أو مداورة. وهذه المصادر عندها رجال ذوو اختصاص في نفسيات الجماعات الدينية يهيئون الفكر والمواد التي يلزم نشرها ويقدمونها إلى المأجورين لهذا الغرض فيتكفل هؤلاء بإذاعتها أو دسها في الأوساط المقصودة.
إنّ تأخر اليقظة القومية في أكثر الشعوب المحمدية، أو التي أغلبيتها محمدية هو الذي يوجد سبيلاً لهذا التلاعب بعواطف المؤمنين الدينية وتسخيرها للأغراض الأجنبية. فباسم الدين تقدر الإرادات الأجنبية أن تغرِّر بالجماعات الدينية التي لمّا يشملها الوعي القومي وتستغل تعصبها الديني الأعمى لأغراضها.
وتأخر اليقظة القومية في بعض الشعوب المسيحية، أو التي أغلبيتها مسيحية يوجد السبيل عينه للتلاعب بعواطف المؤمنين الدينية وتسخيرها للأغراض الأجنبية. والدول الأجنبية الطامعة في سورية ما زالت تثير المحمديين على المسيحيين ثم تتقدم إلى هؤلاء بالحماية فيقبلونها والعاقبة السيئة كانت دائماً على الملّتين. ولما كان غرض هذا المقال تناول الدعاوة الأجنبية بين السوريين المحمديين التي أخذت تفعل منذ مدة غير يسيرة في الوطن وفي الجوالي السورية وذرّ قرنها منذ زمن في الجالية السورية في الأرجنتين فإننا نحصر الموضع في هذه الناحية.

وصلت إلينا في أوائل ديسمبر/كانون الأول الماضي نسخة من جريدة الاستقلال التي يصدرها في هذه الحاضرة السيد أمين أرسلان الذي بلغنا أنه تجنس منذ زمن بالجنسية الأرجنتينية ولكنه بدلاً من أن يهتم بشؤون وطنه الجديد ويترك شؤون الوطن الذي أنكره ونبذه لا يزال يعدّ نفسه من «كبار الوطنيين» السوريين أو «المسلمين» أو غير ذلك. والنسخة هي من العدد الصادر في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بالرقم الهندي وفي 1 نوفمبر/تشرين الثاني بالرقم العربي. وفيها مقالة بقلم زائر جديد للجالية السورية في الأرجنتين هو الطبيب نديم المعرّي وخلاصة المقالة دعوة إلى إنشاء «الحي الإسلامي أو العربي» (أي أنّ الإسلام والعروبة لفظتان مترادفتان بمعنى واحد) وفتح اكتتاب ويكون إيجاد «الحي الإسلامي» بإنشاء «جامع ومدرسة ومساكن تتهيأ فيها كل أسباب الراحة ما عدا المحلات التجارية وما يتبعها ثم تعميم المشروع ليشمل مقبرة خاصة بالمسلمين وبدون أن ننسى التفكير مبدئياً في مرجع لمرضانا. وإن شئت فسمِّه عيادة أو مستوصفاً أو مصحاً على قدر ما تسمح به الظروف، الخ».

وقد علّق السيد أمين أرسلان على مقال «صديقه الراقي الدكتور المعرّي بتحبيذ ما جاء فيه كل التحبيذ وبالثناء غاية الثناء على وطنيته والمشروع الجليل الذي يهتم بإبرازه إلى حيّز الوجود لأنه مشروع ضروري لحياة الجالية الإسلامية في هذه الديار، الخ». وبناءً عليه نجد أنه لم يعد هناك حتى ولا محاولة لإبقاء صبغة واحدة للجالية السورية في الأرجنتين وغيرها من الجوالي.

لا ندري ما هو مذهب السيد أمين أرسلان الديني، فلا نعلم هل هو باقٍ على الدين الدرزي أم هو مسلم محمدي سُنِّي كنسيبه السيد شكيب أرسلان. وقد يكون جرى له في الدين ما جرى له في الوطنية، أي أنه قد يكون تجنس بالدين المحمدي مع بقاء اشتغاله في الشؤون الدرزية، كما تجنس بالوطنية الأرجنتينية مع بقاء اشتغاله بالمسائل «العربية السورية اللبنانية الإسلامية الوطنية القومية الدرزية المسيحية الاستقلالية».
ولا ندري من هو الدكتور نديم المعرّي. وإنما ندري أنّ أحد المأجورين للدعاوى الأجنبية بين المسلمين المحمديين قَدِم مؤخراً من البرازيل بإيعاز خصوصي للاشتغال بهذه الدعاوى بين السوريين المحمديين في الجمهورية الأرجنتينية. وإنّ مهمته هي بذل المجهود لإيقاد نار التعصب الديني التي يمكن الإرادة الأجنبية استعمالها عند الضرورة لأغراضها الحربية. وإنّ هذا الشخص اتصل حال وصوله بأصحاب الصحف القائمة بهذه الدعاوى من قبل فأخذت تنشر له الفصول حول «مشروعه الجليل». ولم تكن جريدة الاستقلال الجريدة الوحيدة التي «حبَّذت» هذا المشروع الفاسد، بل هناك جريدتا العمى العربي أو العلم العربي والفطرة الإسلامية أو الطفرة الإسلامية.

وما هو هذا «المشروع الجليل» الذي يحبذه السيد أمين أرسلان السوري اللبناني العربي الأرجنتيني الإسلامي المحمدي الإسلامي الدرزي وتحبِّذه جريدتا الشقاق الديني العمى العربي والطفرة الإسلامية؟
هو جعل السوريين المحمديين في المهجر كاليهود. فيكون لهم «حارة» خاصة بهم كما لليهود «حارات» خاصة بهم فينعزلون عن أبناء وطنهم غير المحمديين ويعدّون أنفسهم «شعباً خاصاً» لا يجوز أن يختلط مع «الشعوب الأخرى».

إنّ مسألة إنشاء جامع إسلامي هي مسألة يجب على جميع السوريين من محمديين ومسيحيين ودروز تحبيذها لأن أبناء شعبنا المحمديين يحتاجون إلى مسجد يمارسون فيه فروض دينهم. والزوبعة تقترح أن يناصر هذا المشروع جميع السوريين بدون تمييز ديني. وإنّ من دواعي السرور لجميع السوريين بدون فارق ديني أن ينال كل دين من أديانهم الوسائل اللازمة لإقامة فروضه.

أما المدرسة المحمدية والمستشفى المحمدي وإنشاء حي للسكن والتجارة مختص بالمحمديين فهي فتنة، الغرض منها إيجاد التباعد بين أبناء الوطن الواحد والجنس الواحد.
إنها فكرة رجعية تحمل وراء مظاهرها الدينية المشبعة هوساً أغراضاً سياسية خفية هي الأغراض الحقيقية الوحيدة. فقرائن الحال تدل على أنّ بعض الدول المحاربة قد قرّرت، لتهييج جماعات كثيرة ضد عدوتها، مساعدة المشتغلين في السياسة باسم الدين بين الجماعات المحمدية لإضرام نار الحزبية الدينية والتغرير بالجماعات المذكورة.

فمسألة إنشاء حي محمدي في كل مهجر سوري لا تحمل في باطنها فكرة دينية، بل فكرة سياسية يستفيد منها بعض المشتغلين في السياسة عن طريق الدين وتستفيد منها بعض الأمم الأجنبية المحاربة في أغراضها القومية. فلو كانت المسألة مسألة دينية بحتة لان الداعي اقتصر على فكرة إنشاء جامع للمحمديين. ولو كان في هذه المسألة غاية وطنية أو قومية لكانت الدعوة وجهت إلى جميع السوريين لإنشاء مدرسة سورية لأبناء الوطن الواحد وإنشاء مستشفى سوري لجميع السوريين بلا فارق (إذ ما يسمى اليوم «المستشفى السوري اللبناني» يكاد يكون مؤسسة مارونية خصوصية).

إنّ مشروع «الحي الإسلامي» هو مشروع نتيجته التفرقة بين أبناء الوطن الواحد وليس له غرض ديني صحيح. وغرضه الحقيقي استغلال شعور المؤمنين البسطاء لأغراض خفية تكون وبالاً على الأمة السورية وعلى أمم الشرق العربي. وتحبيذ هذا المشروع صادر عن نيات لا تمتُّ إلى الوطنية الصحيحة ولا إلى القومية الحقيقية بصلة.

وإنّ من الأمور المحزنة أن يصل التلاعب بعواطف المؤمنين إلى حد بعيد في الشعوذة والتدجيل. فقد نقل إلينا أنّ دعاة الأجانب من السوريين المحمديين يشيعون بين أبناء الملّة المحمدية أنّ هتلر محمدي وأنه يقوم بهذه الحرب الطاحنة ليس لخدمة ألمانية كما يجاهر بل لخدمة الدين المحمدي. وإنه لا يجاهر بغرضه الحقيقي الآن، لأن أمته مسيحية وقد لا توافقه. ولكن بعد انتصاره سيعلن قصده الحقيقي ويفرض المحمدية على جميع الأمم التي يمتد إليها سلطانه!

ولا يبيّن للناس هؤلاء الدعاة «الوطنيون» كيف ستقبل أمة هتلر المسيحية أن يفرض هتلر عليها الدين المحمدي بعد انتصاره بسواعدها هي. ولعلهم يقولون إنّ هتلر سيترك حينئذٍ أمته ويستند إلى الحاج أمين الحسيني وحزبه أو إلى السيد شكيب أرسلان ومقالاته فيكتسح بقوة أحدهما ألمانية كلها وجميع أوروبا ثم يحوّل هذه القوة الهائلة إلى أميركا وآسيا فلا تمضي سنوات معدودة حتى نرى هتلر خليفة محمد والدين المحمدي يعمّ العالم!

لا قصد من هذه العجالة التدخل في مسائل المتحاربين ولكن قصدها هو داخلي بحت يتلخص في: وجوب التقارب والتفاهم والتوحيد بين جميع السوريين لإسعاد أمتهم وترقية وطنهم.
والشقاق الديني والتفرقة والتباعد تشقي الأمة وتخرب الوطن. وهذه كلمة لقوم يعقلون. وأما الذين لا يعقلون فلا كلمة لهم.

أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،
العدد 36، 15/1/1942

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى