المبادىء القومية الاجتماعية وحدها طريق الإنقاذ

تمطرنا الاستياءات الخصوصية بأهدافها الدينية السياسية وقضاياها الرجعية بوابل من التحريضات والمهيجات الرامية إلى تعديل الحكومة أو تبديلها وتغيير المجلس النيابي في لبنان. فالقضية الكبرى لها هي قضية تغيير الوزارة وإبدال أعضاء المجلس النيابي. وإذا تغيرت الحكومة وتبدل المجلس على ما يوافق شهوتها فقد تمت القضية الكبرى وانحلت جميع المشاكل!

لست أريد تناول شهوات المشتهين ولا معالجة عقليتهم، فهذا أمر صعب جداً والأفضل أن يهتم بهم بعض الأخصائيين في الأمراض العصبية والنفسية. ولكني أريد أن أتناول القضية الكبرى الأخرى ـ قضية إنقاذ الشعب من الحالة التعسة التي أوصلته إليها الشعوذات السياسية وسياسة التكالب على الحكم.

لم يبقَ شك، بعد تعميم المبادىء القومية الاجتماعية في طول البلاد السورية وعرضها وبعد درسها وتحليل الأحداث على ضوئها، في أنّ مصائب الأمة هي نتيجة القضايا الفاسدة التي يساق الشعب في تياراتها العمياء ويقوم بالدعوة إليها عدد من النواب المستغلين والمشعوذين غير المسؤولين عن حياة الأمة ومصيرها. ولم يبقَ شك أيضاً في أنّ أمراض الأمة يشترك فيها الحكام، الذين هم من نفسية الشعب المسيطرة، أو، على الأقل، التي كانت مسيطرة ولا تزال في الشعب بقية عظيمة منها، وجميع السياسيين خارج الحكم العاملين بهذه النفسية عينها وجميع التكتلات والتشكيلات السياسية التي تأسست على تلك القضايا الفاسدة. فمعالجة الحالة التي أرزحت الشعب بإقصاء الحاكمين عن الحكم ليحل محلهم فيه حاكمون آخرون يقومون على أساس القضايا الفاسدة المشار إليها هي أشبه شيء بمعالجة الحمى بقشور البطيخ!

كثير من المستائين والمحرضين والناقمين هم من المقصين عن الحكم، لأنهم من كتلة سياسية كانت متسلمة الحكم في لبنان وكان الشعب يئن تحت حكمها كما يئن اليوم تحت حكم خصومهم الذين تسلموا الحكم في نزاع داخلي وإنترناسيوني. فكيف يعقل أنّ أولئك السياسيين العتيقين الذين لم يمثّلوا أية قضية جديدة تختلف عن القضايا التي مثّلوها قديماً، سيتمكنون من “إنقاذ البلاد”؟

المستاؤون والمحرِّضون والناقمون الجدد المنضمون إلى المستائين المقصيين هم أيضاً من أصحاب القضايا الفاسدة عينها التي أوصلت الشعب في لبنان إلى الانعزال والفقر والتهدم الداخلي ـ قضايا القوميات الدينية والعصبيات الطائفية واللاطائفية التي مزّقت الأمة وقطّعت أوصالها الاجتماعية وشرايينها وأوردتها الاقتصادية واستعبدتها للإرادات الأجنبية.

قلت في مقالي “انقلب السحر على الساحر!” (ص 295 أعلاه) إنّ النهضة القومية الاجتماعية نشأت نهضة عنف قومي اجتماعي في وجه عنف أجنبي استعبادي. فقد كانت الحركة القومية الاجتماعية، الحركة الوحيدة في البلاد التي انشأت قضية كاملة تقدر أن تواجه بها الأمة القضايا الأجنبية المعادية لها. وكانت في الوقت عينه الحركة التي أنشأت القضية القومية الاجتماعية، قضية عزّ وخير للأمة ضد قضايا الرجعية القديمة والجديدة المذلَّة للشعب، والسائرة به إلى الشر والهلاك. وقد ظهرت في البلاد حركات قامت على اساس محاكاة الحركة القومية في مبادئها وتقليدها في مظاهرها. وبعض تلك الحركات نشأ بإيعاز الأجنبي المحتل، وبعضها نشأ بفعل الدوافع الرجعية فقط.

إنّ التقليد الزائف لا يسير بالشعب إلا إلى الضلال والتهور. لا يمكن أن تعوّض القضايا الزائفة الأمة عن قضيتها الصحيحة الأصلية. إنّ السعادين إذا قلدوا البشر لن يصيروا بشراً، والعملة الزائفة تخدع بعض الناس وتصل إلى حد وتقف عنده.

إنّ الذين تسكعوا على أقدام المحتلين، ونشأوا على اساس التعاقد معهم قد يقيمون قضية طائفية تفيد الأجنبي، ولكنهم لا يقدرون أن يخدموا الأمة التي خانوها.

إنّ أتعس مظهر يظهر به لبنان في هذا الوقت هو مظهر التشكيلات القائمة على التدجيل والمحاكاة والتقليد التي تنادي بالإصلاح، وهي أشد ما تكون حاجة الإصلاح. إنها قد كتَّلت الطائفية وحولتها إلى “قومية” متحجرة لا شيء من نضارة الحياة والتقدم فيها، ومع أنها ترى كيف تقود طائفة حية برجالها ومواهبها نحو الانعزال التام الخانق، والانفصال عن مجرى الحياة القومية فهي لا تزال تمعن في ضلالها، وتنادي بأنّ طريقها الموصلة إلى الهلاك النهائي هي “طريق الإنقاذ”.

لا مفرّ للغيورين على خيرالشعب وإنقاذه من الاعتراف بأنّ الحركة الإنشائية العظمى التي أوجدت قضية الحياة والعزّ للأمة، هي الحركة القومية الاجتماعية التي حاربت في سبيل الشعب كلّه لا في سبيل طائفة من طوائفه، والتي أوجدت بمبادئها القومية الاجتماعية أساساً جديداً للمجتمع يثبِّت بناءه ويحصن كيانه.

ليست الحركة القومية الاجتماعية حركة طمع ونقمة وحلّ قضية استياء خصوصي، بل حركة نهوض قومي اجتماعي وحلّ المشاكل النفسية والاجتماعية والسياسية التي تمنع الأمة من السير إلى عزها وخيرها.

بينما الفئات العاجزة عن الاضطلاع بقضية نهضة الأمة تشتغل في القضايا الجزئية ـ قضايا الطائفية وتبادل الأشخاص في الحكم تنادي الحركة القومية الاجتماعية الشعب إلى الالتفاف حولها للقضاء على الاستعمار والاستعباد الداخليين وعلى الشعوذة والتدجيل الوطنيين، ولمواجهة الأخطار الخارجية العظيمة المحدقة بنا وهي تقترب نحونا يوماً بعد يوم من الجنوب ومن الشمال!

لا ينقذ الأمة من تخبطها وأخطارها غير حركة كلية شاملة لها صفة قومية عامة، ولها مبادىء اجتماعية تؤسس حياة جديدة، وتطلق قوى الأمة في تيار عظيم نحو مصير مجيد!

المبادىء القومية الاجتماعية وحدها هي طريق الإنقاذ. فالذين يريدون فعلاً خير الأمة فما عليهم إلا الاتجاه نحو الحركة القومية الاجتماعية التي تقدم مبادىء الإنقاذ التي أوجدت الإصلاح الفعلي في صفوفها، الذي هو نموذج رائع للإصلاح الذي يمكن أن تقدمه للأمة كلهاّ

الجيل الجديد،، بيروت،

العدد 11، 20/4/1949

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى