المعرض السياسي سورية والإرادات الأجنبية

عرضنا، في أكثر من مقالة، أو مقالتين، رئيسية، لعمل الإذاعات الأجنبية في سورية والعالم العربي. وقلنا في إحدى المقالات السابقة إنّ ألمانية وبريطانية تستعملان سلاحاً واحداً في العالم العربي هو سلاح التحريض الديني الإسلامي. وهذا السلاح هو السلاح الوحيد الذي يمكن استعماله، في الظروف الحاضرة، بنجاح عملي للأغراض الحربية. والسبب هو: أنه لما كانت أكثرية أمم العالم العربي وأقطاره في حالة انحطاط بعيد من الناحية الاجتماعية ــــ الاقتصادية ومن جهة الثقافة المدنية لم يكن من المنتظر أن يؤدي الضرب على وتر القومية في هذه الشعوب إلى أية نتيجة عملية مستعجلة يكون لها تأثير على مجرى الحرب، لأن حالة التأخر الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ الثقافي في معظم شعوب اللغة العربية لم تسمح بتولّد الوعي القومي الصحيح الذي هو نتيجة إدراك حقيقة شخصية المتحد الاجتماعي المكونة من تاريخ الشعب ومزاجه ومزيجه السلالي وعوامل بيئته الجغرافية، بصرف النظر عن نوع دينه، ونتيجة حصول إدراك جلي للمثل العليا في كل شعب.

ونظراً لفقد الثقافة الاجتماعية ــــ الاقتصادية ــــ الروحية ظل التأثير الأقوى في حياة شعوب العالم العربي للاصطلاح الديني والعادات الناشئة عنه. فالنظرة إلى الحياة والعالم، في هذه الشعوب، هي نظرة مكوّنة من عوامل التقاليد الدينية فلا يمكن تغييرها إلا في سياق تطوّر طويل مستمر. ومع أنّ النهضة السورية القومية قد بدأت هذا التطور العظيم الخطير في سورية، التي هي أرقى وأقوى أمة في العالم العربي، وامتد تأثيرها إلى مصر والعراق، فمما لا شك فيه أنّ معظم الأقطار العربية لا تزال باقية على الاعتقادات القديمة في الاجتماع والاقتصاد والحقوق. فهي أقطار جامدة من حيث التقدم الفكري والنظام الاجتماعي. ولذلك كان كل اتصال لهذه الشعوب بمجرى الشؤون السياسية والحربية في العالم غير ممكن إلا عن طريق إيقاظ اهتمام هذه الجماعات بإيقاظ نعراتها الدينية.

إنّ تحريك جماعات العالم العربي للعمل في اتجاه واحد وفاقاً لأغراض أركان القوات الألمانية ــــ الإيطالية في الحرب الحاضرة هو أمر تقضي به الضرورة الحربية في العراك العنيف القائم حول موارد قسم كبير من العالم. وقد كان تحريك هذه الجماعات ضرورياً لأغراض أركان القوات البريطانية ــــ الفرنسية فأخذت فرنسة، قبل سقوطها، تذيع أنها ستحمي الشعوب العربية اللسان والإسلامية الدين من وثنية «النازيين» ومن القوات الألمانية ــــ الإيطالية، وأخذت بريطانية تذيع أنها ستحارب في سبيل حرية الأمم الضعيفة، وخصوصاً أمم العالم العربي. وأعلن موسوليني أنه يريد أن يحمي الإسلام. ووجهت الإذاعة الألمانية جهودها لإثارة النعرة الدينية الإسلامية ضد التسلط الإنكليزي الفرنسي في أقطار العالم الإسلامي. حتى إذا سقطت فرنسة وأبدت إذعانها لمطالب السياسة الألمانية تركت تلك الإذاعة أمر التحريض ضد فرنسة وحولت كل قوّتها للتحريض ضد بريطانية وحدها.

وإنّ التفاهم الأخير بين ألمانية وفرنسة الذي حصل من جراء الحلات والمخابرات الطويلة التي قام بها نائب رئيس الدولة السيد درلان، قد جعل اللهجة الألمانية، فيما يختص بفرنسة، تتغير بالكلية. فإن برقية لشركة «يونيتد برس» عن برلين بتاريخ 3 يونيو/حزيران الحالي (هذه المقالة تكتب بعد هذا التاريخ بسبب تأخر صدور هذا العدد) تعلن أنّ «الدوائر الألمانية المفوضة» عندما سئلت عن موقف ألمانية في صدد الأخبار أنّ الإنكليز يفكرون باجتياح سورية أجابت أنه «على فرنسة أن تحل هذه القضية، ولكن ألمانية مستعدة لمساعدتها».

ولا ننسى الإذاعة التي أصدرتها دولتا المحور، معلنتين بها استعدادهما لمساعدة كل أمة عربية في جهادها للاستقلال. وهذا يعني ضمناً: في جهادها للتحرر من بريطانية وفرنسة. وهي الإذاعة التي علّق عليها خادم الدعاوة الألمانية في الأقطار العربية شكيب أرسلان وعلقّنا عليها بدورنا في مقال نشرناه في العدد 12 من «الزوبعة» الصادر بتاريخ 15 يناير/كانون الثاني الماضي بعنوان «تكرار الأغلاط الماضية».

بعد سقوط فرنسة في يونيو/حزيران من السنة الماضية أصبح العراك قائماً بين دولتي المحور وبريطانية. فرأت دوائر الاختصاص الإذاعي الفني الألمانية أن تهمل أمر فرنسة، من هذه الناحية، وتحوّل كل مجهودها إلى محاربة بريطانية.
وقد استخدمت ألمانية في حرب الإذاعة ضد أعدائها عدداً غير يسير من المشتغلين بشؤون العالم العربي السياسية على أساس الدين، أمثال شكيب أرسلان، وأيدت حركات مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، وشجعت التحريض الديني الإسلامي في كل مكان، ليس لأنها تهتم لنصرة هذا الدين أو لتقدير خاص له، بل لتستخدم الهياج الديني الإسلامي ضد عدوتها بريطانية، فإذا قضت غرضها من هذه الناحية فإن مصير الشعوب العربية يقرر فيما بعد في مؤتمر الصلح. وقد وهم بعض المشتغلين بالسياسة العربية ــــ الإسلامية أنّ خطة ألمانية ستفيدهم وتؤيد نفوذهم المبني على تغرير الناس بإمكان إعادة عهد دولة دينية في العالم العربي تجمع أقطاره. ولا يهمّ هؤلاء السياسيين أتحقق هذا الحلم أم لم يتحقق، ولكن يهمّهم استغلال شعور الذين لا تزال نعرتهم الدينية أقوى كثيراً من عصبيتهم القومية، فيؤسسون مركزاً سيآسية قوياً بينهم يحققون بواسطته أغراضهم الخصوصية المادية والمعنوية. والإرادات الأجنبية التي تساعدهم تشترك معهم في هذه النظرة، فهي لا يهمّها مصير أمم العالم العربي، ولكن يهمّها استغلال ما في هذه الأمم من نعرة ونقمة ورغبات لخدمة أغراضها.

منذ مدة غير بعيدة، منذ نحو شهر، نشرت جريدة «لا ناسيون» في هذه العاصمة رسالة لمراسل «نيويورك تايمز» في برنه (سويسرة) يقول فيها إنّ فن هنتنغ، ناموس شؤون الشرق الأدنى في وزارة خارجية ألمانية ألقى محاضرة في «جمعية دراسة الاقتصاد العالمي» المتمركزة في ليبزغ، وإنّ الجريدة المحلية هناك «نويستر ناخرختن» نشرت المحاضرة، ولكن الجريدة صودرت ومنع توزيعها نظراً لبعض عبارات وردت في محاضرة فن هنتغ قد تؤثر على العلاقات بين ألمانية وإيطالية، وإنّ نسخة من الجريدة المذكورة وصلت إلى سويسرة.

في هذه المحاضرة يقول فن هنتغ «إنّ العالم العربي الذي حدثت له اختبارات مُرّة مع بريطانية يضع آماله في ألمانية. وإنّ السوريين يميلون إلى ألمانية. وإنّ العرب لا فكرة عالية لهم في صدد الفرنسيين والطليان». وهذه العبارة الأخير هي التي يقول المراسل المشار إليه إنها سببت مصادرة المحاضرة لأنها تخالف الاتفاق الذي يقول المراسل إنه يوجب على ألمانية إطلاق يد إيطالية في سورية.

وفي بقية المحاضرة يجري تصوير للشؤون السورية والعربية من الناحية التي تحب الإرادة الألمانية أن تراها. وفي هذا التصوير هذه العبارة: «إنّ السوريين هم متحيزون للريخ، وإنْ ساء ذلك الفرنسيين. وإنّ أوساطهم تتحدث عن «محمد هتلر»، الخ». وهذا الكلام يؤيد ما ذهبنا إليه في أغراض الدعاوات الأجنبية.
وقد استفاقت السياسة البريطانية مؤخراً إلى أهمية العالم العربي، وخصوصاً إلى أهمية سورية كأعظم أمة فاعلة في العالم العربي، فوردت برقيات تفيد أنّ بريطانية تفكّر في إرضاء مطالب سوريــي الجنوب بإلغاء مفاد وعد بلفور المخالف لحقوق السوريين في وطنهم. وآخر ما ورد عن بريطانية في هذا الصدد هو خطاب وزير خارجيتها إيدن الذي ألقاه في غداء لبلدية لندن في 29 مايو/أيار المنصرم. فقد جاء فيه، فيما يختص بالعالم العربي وسورية: «إنّ لهذه البلاد (بريطانية) تقاليد صداقة قديمة مع العرب. وهي صداقة ظهرت في الأفعال وليس فقط بالأقوال. ومنذ بضعة أيام أعلنتُ في مجلس العموم أنّ حكومة صاحب الجلالة تشعر بتحبيذ شديد للمطامح السورية الاستقلالية». ويلي هذا التصريح تصريح آخر يشابه التصريحات الألمانية فيما يختص بتغرير الأقطار العربية بخيال الوحدة اللغوية ــــ الدينية.

ووسط هذا التزاحم الشديد بين ألمانية وبريطانية على جذب الأقطار العربية إلى إحداهما، يرتفع صوت إيطالية وصوت إسبانيا بالتهالك على محبة العرب. وأغرب من كل ذلك أنّ فرنسة الساقطة تزداد تشبثاً بالمبدأ الاستعماري وتهتم باستعمار سورية وغيرها قبل الاهتمام بالتحرر من ألمانية. ففي خطاب المارشال بتان في 15 مايو/أيار الماضي حول المفاوضات مع ألمانية تصريح بأنه إذا نجحت المفاوضات فإن فرنسة «تتغلب على الاندحار وتحتفظ لنفسها بدرجة دولة أولية أوروبية واستعمارية».

وبعد اتفاق ألمانية وفرنسة الأخير، هل يجب أن نفهم أنّ هذا الاتفاق منح فرنسة حق البقاء في شمال سورية أو في الساحل الجبلي الغربي منها؟ وكيف تنشأ الوحدة العربية الإسلامية؟
الحقيقة التي نستخلصها من كل ذلك هي أن لا نقع في هذه الحرب في الأغلاط التي وقعنا فيها في الحرب الماضية. وهذه الأغلاط هي الاستناد إلى الإرادات الأجنبية والاعتماد على تصريحاتها السياسية في حالة الحرب والتغرير بالشعب السوري ليتقبل التصريحات السياسية ويعمل وفاقاً لها.

إنّ الشعب السوري يجب أن يعتصم بقضيته القومية ويوحّد جهوده ضمن الحركة السورية القومية، التي هي وحدها، ولا حركة غيرها، تكفل أن تكون نتائج الجهاد السوري للسوريين وليس للأجانب أو لبعض النفعيين الذين يخدمون مصالح الأجانب من وراء ستار خدمة «العروبة والإسلام».

 الزوبعة، بوينس آيرس،
العدد 21، 1/6/1941

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى