النظام الجديد

إنّ غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي هي: “بعث نهضة سورية قومية اجتماعية، تكفل تحقيق مبادئه إلى الأمة السورية حيويتها وقوّتها، وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة السورية، استقلالاً تاماً، وتثبيت سيادتها وإقامة نظام جديد يؤمن مصالحها ويرفع مستوى حياتها”.

إقامة نظام جديد لحياة جديدة، إذن، هو الهدف العملي الأساسي، هو الغاية التي تطلبها حياة إنسانية مرتقية، هو الغرض الذي تريد تحقيقه نهضة أمة قوية فتية قد ولدت ولادة جديدة بتعاليم الحياة الجديدة.

اخترت اسم النظام الجديد عنواناً لهذه المجلة لتحمل خطط التفكير الجديد ـ التفكير القومي الاجتماعي ـ ومخططات النظام الجديد الذي تسير الحركة القومية الاجتماعية بالأمة نحوه، كما ترسمها مدرسة الفكر القومية الاجتماعية.

في مؤلَّفي نشوء الأمم (الكتاب الأول، الطبعة الأولى ص 85) (أنظر ج 3 ص 66)، قلت: “إنّ الثورة الصناعية وضعت الاجتماع على أساس جديد” وعنيت بذلك أنّ “الثورة الصناعية”، التي حدثت باختراع الآلات، أوجبت القضاء على الاقتصاد الفردي العائلي وإعادة الاقتصاد الاجتماعي على أساس جديد.

منذ ظهور الآلة العصرية وحصول الثورة الصناعية أحدثت الاضطرابات والانقلابات الاجتماعية التي تلتها شعوراً بالحاجة إلى نظام اجتماعي ـ سياسي جديد فابتدأت العقول القوية تفكر في حلول للقضايا الاجتماعية التي نشأت وفي أنظمة جديدة للمجتمع.

وقد رأى الشعريون والخياليون في الالة، مصيبة أبعدت الإنسان عن الأرض وجمال الحياة الروائية. أما أنا فقد رأيت فيها: تحرير القوَّة العقلية من ضغط العمل الكسبي الفردي، وترقية التفاعل الاجتماعي. (نشوء الأمم أنظر ج 3 ص 65).

تولّد، بعامل التطور الاجتماعي على أساس الحرية الفردية، نظام جديد هو نظام الرأسماليين ومزاولي المهن الحرة والعمال، أو نظام الطبقات الرأسمالي الذي حلّ محل النظام القديم الذي كان يقسم المجتمع إلى طبقة نبلاء وطبقة أحرار وطبقة عبيد وهو نظام الطبقات الإقطاعي.

بيد أنّ نظام الطبقات الرأسمالي، الذي صنّف المجتمع إلى طبقة عليا هي الرأسمالية وطبقة وسطى هي المهنية الحرة وطبقة سفلى هي العاملة، لم يكن نظاماً صالحاً للبقاء لأن المشاكل الاقتصادية الاجتماعية التي نتجت عنه أحدثت، ولا تزال تحدث حيثما بقي هذا النظام فاعلاً، تشنجات واضطرابات شديدة تحفِّز العقول إلى ابتغاء نظام جديد للمجتمع الإنساني يزيل تلك التشنجات والاضطرابات، ويفسح المجال لتفاعل ينمي الحياة ويقوِّيها ويجعلها صالحة للإنسان ومصالحه النفسية والمادية.

إنّ الحركة القومية الاجتماعية تدخل في معالجة هذه المعضلة الاجتماعية، المادية ـ الروحية. إنها تُنشىء بمبادئها وتعاليمها نظاماً جديداً ومجتمعاً جديداً.

إنّ الآلة الحديثة، بطبيعتها وعملها، ليست مستعبدة للإنسان وقواه، بل محرِّرة للإنسان من قيود الإنتاج المحدود، ولكن النظام الذي اتّبعه الإنسان، بعد نشوء الآلة هو الذي استعبد الإنسان بدلاً من أن يزيد حريته ونشاطه وفاعليته.

إنّ نظام الطبقات الرأسمالي لم تكن له نتيجة اجتماعية غير الحفز على نظام حرب الطبقات، فإن الرأسمال الفردي الحر كوّن طبقة رأسمالية مرهقة، ساحقة وطبقتين مضغوطتين، مسحوقتين: طبقة مسحوقة نفسياً، هي الطبقة الوسطى وطبقة مسحوقة مادياً هي الطبقة السفلى، والحرب بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة ليست حلاً لمشكلة الاجتماع الإنساني الاقتصادية ولا تحقيقاً لمصالحه النفسية واتجاهاته الروحية ومقاصده المثلية.

وكما تكوّنت ضمن المجتمع الواحد الطبقات والنظام الطبقي بعامل الثورة الصناعية، كذلك تكوّنت، بذاك العامل عينه، الطبقات الأممية والنظام الطبقي الإنترناسيوني الذي يضع طبقة من الأمم الاستعمارية ذات الإمبراطوريات والمناطق الواسعة، وطبقة من الأمم المتوسطة وطبقة من الأمم المنحطَّة أو المضغوطة، المحرومة.

المحاولة الشيوعية، على أساس التعاليم المادية المحضة، لم تحلّ بنظامها المبدئي، مشكلة المجتمع الداخلية ولا مشكلة الحق الإنترناسيوني. فحرب الطبقات بين مادية العمال ومادية الرأسماليين، وإقامة سلطة البروليتارية ليست نظاماً صحيحاً لتقدم الإنسانية نحو مقاصدها الكبرى. وما يقدمه “اتحاد الجمهوريات السوفييتية” من الوجهة الإنترناسيونية ليس إزالة طبقات الأمم، بل تثبيت نظام طبقات الأمم الاقتصادية بترتيب جديد.

إنّ عمل الأحزاب الشيوعية في العالم لإنجاح الجمهورية الشيوعية الأولى ليس له معنى عملي غير خدمة مقاصد السياسة الروسية، الشيوعية النظام، فمن الوجهة العملية لا تقوم الحركات الشيوعية في أي صقع من اصقاع العالم إلا لخدمة أغراض سياسية معينة. وواضح أنّ الحركات الشيوعية صارت ذات أغراض سياسية تلاشت أمامها الأغراض الاقتصادية.

وإن “الروحية” التي نادت بها الفاشستية والاشتراكية القومية لم تحل مشكلة طبقات الأمم مع أنها حلت مشاكل هامّة في المجتمع، وسيرها بعامل روحي لترجمة التاريخ الإنساني لم يمكنها من تثبيت نظامها ومدّه في العالم.

إنّ المجتمع السوري لا يمكنه أن ينتظر وأن يقف جامداً تجاه مشاكل المجتمع والإنسانية. وعند هذا الحد من تقدمه الموضوع الذي سيعالجه الاتجاه السوري القومي الاجتماعي أترك لرسالتي المرسلة من الأرجنتين في 10 يناير/ كانون الثاني 1947 إعطاء الاتجاه المذكور وهو:

“في كل هذه المدة الطويلة، وبعد كل هذه المحن العظيمة لم يضعف إيماننا بل قوي ـ إيمانكم بي وإيماني بكم. آمنتم بي معلماً، وهادياً للأمة والناس، ومخططاً وبانياً للمجتمع الجديد، وقائداً للقوات الجديدة الناهضة الزاحفة بالتعاليم والمثل العليا إلى النصر. وآمنت بكم أمة مثالية معلمة وهادية للأمم، بناءة للمجتمع الإنساني الجديد، قائدة لقوات التجدُّد الإنساني بروح التعاليم الجديدة التي تحملون حرارتها المحيية وضياءها المنير إلى الأمم جميعها، داعية الأمم إلى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده وعقيدة تفسيره من الجهة الأخرى بالمبدأ المادي وحده والإقلاع عن اعتبار العالم، ضرورة، عالم حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية، وإلى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي ـ مادي (مدرحي) وأنّ الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس، وتشيد صرح مستقبلها عليه. ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته، ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها.

“إنّ العالم الذي أدرك الآن، بعد الحرب العالمية الأخيرة، مبلغ الهلاك الذي جلبه عليه قيام الفلسفات الجزئية الخصوصية ـ الفلسفات الأنانية التي تريد أن تحيا بالتخريب ـ فلسفة الرأسمالية الخانقة وفلسفة الماركسية الجامحة، التي انتهت في الأخير بالاتحاد مع صنوها المادية الرأسمالية بقصد نفس الروح من العالم، وفلسفة الروح الفاشستية وصنوها الاشتراكية القومية المحتكرة الروح، الرامية إلى السيطرة به سيطرة مطلقة على أمم العالم وشؤونها ـ هذا العالم يحتاج اليوم إلى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط هذه الفلسفات وضلالها. وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج إليها العالم ـ فلسفة التفاعل الموحَّد الجامع لقوى الإنسانية ـ هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم”.

النظام الجديد، 

بيروت، المجلد 1،

العدد 1، 1/3/1948

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى