الوحدة بين بغداد ودمشق: كابوسُ المشروعِ اليهوديّ

أحمد أصفهاني

في 21 تشرين الأوّل سنة 1978 وصل الرّئيس السّوريّ حافظ الأسد إلى بغداد في زيارة رسميّة تاريخيّة بدعوة من نظيره العراقيّ أحمد حسن البكر. وفاجأ الرّئيسان العالم بالإعلان عن توقيع “ميثاق العمل الوطنيّ المشترك السّوريّ العراقيّ”. وبموجب بنود هذا الميثاق، أعلن الطّرفان في 15 كانون الثّاني سنة 1979 الاتّفاق رسميًّا على قيام “دولة الاتّحاد السّوريّ العراقيّ”. وعلى الرّغم من بعض الأصوات المعترضة، إضافة إلى ظهور عدد من العقبات الشّكليّة خلال المفاوضات، إلّا أنَّ دمشق وبغداد كانتا جادّتين في تجاوز كلّ الصّعوبات، وتمهيد الطّريق لدولةِ الوحدة برئاسة أحمد حسن البكر أوّلاً. غير أنّ صدّام حسين نائب الرّئيس العراقيّ كان له ترتيب آخر، ففي 16 تموز سنة 1979 تمّ الإعلان عن “إستقالة” البكر وتولّي صدّام منصب الرّئاسة. وبعد عشرة أيّام  تقريباً كشف صدّام عن “مؤامرة” داخليّة دبّرتها دمشق… ونتيجة لذلك أقدم على إعدام العشرات من المسؤولين الحكومييّن ونخبة من الحزبييّن البعثييّن.

وبغض النظر عن الاتّهامات المتبادلة بين النّظامين البعثييّن آنذاك، فإنّ خطوة صدّام حسين المُفاجئة أعادت إلى الأذهان فشل كلّ محاولات التّقارب أو التّنسيق أو الاتّحاد بين دمشق وبغداد منذ مرحلة “الاستقلال” في أربعينات القرن الماضي. إذ دائماً ما كانت مساعي التّقارب تواجه تدخّلات خارجيّة إقليميّة ودوليّة لعرقلة أيّ جهد يهدف إلى جمع دمشق وبغداد. وتسبّبت إجراءات الرّئيس العراقيّ بتداعيات خطيرة للغاية نظراً إلى حراجة الوضع القوميّ حينها بسبب: أوّلاً، سياسة الرّئيس المصريّ أنور السّادات التّصالحيّة تجاه الدّولة الصّهيونيّة. وثانياً، إنتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران ثمّ اندلاع الحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة الّتي أنهكت الطّرفين بين 1980 و1988.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ مجرّد الإعلان عن ميثاق مشترك للعمل الوطنيّ السّوريّ ـ العراقيّ بهدف توحيد الدّولتين، أثار قلق الدّولة الصّهيونيّة ومن خلفها الغرب الأميركيّ ـ الأوروبيّ الدّاعم لها، وكذلك بعض الدّول العربيّة الّتي تخشى قيام دولة مركزيّة قويّة في الهلال السّوريّ الخصيب. ولا بدّ من الإقرار بأنّ سياسات صدّام حسين تجاه إيران والشّام والكويت ولبنان أعطت الأطراف المتربّصة بالعراق ذريعة لاتّخاذ خطوات منسّقة دمّرت العراق وأنهكت شعبنا في العراق. وبلغت الكارثة ذروتها بفرض الحصار الخانق على البلاد، حيث أدّت العقوبات الاقتصاديّة وبرنامج النّفط للغذاء الغارق بالمفاسد إلى موت مئات الألوف من العراقييّن غالبيّتهم من الأطفال.

هذا كان حال العراق في وقت كانت أسس المعسكر الاشتراكيّ تهتزّ مع تداعي الاتّحاد السّوفياتيّ. هُدم جدار برلين، ثم سقطت الأنظمة الشّيوعيّة والاشتراكيّة… وأخيراً تفتّت الاتّحاد السّوفياتيّ إلى جمهوريّات اختارت أن تنأى بنفسها عن روسيا. هكذا تحقّق الانتصار الحاسم للمعسكر الرّأسماليّ في “الحرب الباردة” الّتي استمرّت منذ الحرب العالميّة الثّانية. لقد تعاملت واشنطن مع هذا النصر الكاسح بوصفه إنجازاً لها هي تحديداً كونها “قائدة العالم الحر” (العالم الرّأسماليّ). فالولايات المتّحدة الأميركيّة نجحت على مدى سنوات في خلق منظومة دوليّة خاضعة لإرادتها على مستويات سياسيّة ودفاعيّة واقتصاديّة. ونحن نطلق على تلك المنظومة اسم “الغرب الأميركيّ ـ الأوروبيّ”، وإن كانت تشمل دولاً آسيويّة مثل اليابان وكوريا الجنوبيّة وتايوان والفيليبّين وغيرها. ويتربّع على قمّة القيادة الاستراتيجيّة مجموعة WASP الّتي تعني اختصاراً: الأبيض الأنكلو ساكسونيّ البروتستانتيّ، وتتألّف من الولايات المتّحدة الأميركيّة وكندا وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا.

حتى قبل سقوط النّموذج الاشتراكيّ ـ الشّيوعيّ في العالم، وبالتّالي تفتّت الاتّحاد السّوفياتيّ، كان المفكّرون الأميركيّون (والغربيّون عموماً) يعلنون وفاة العالم المتعدّد الأقطاب لصالح عالم القطب الواحد: الولايات المتّحدة الأميركيّة، ومعها وكلاؤها في مناطق متعددة ذات أهميّة استراتيجيّة. وفي غياب عنصر التّوازن الدّولي بعد نهاية الاتّحاد السّوفياتيّ، ولم تكن الصّين قد حقّقت بعد قفزاتها المذهلة في النّموّ الاقتصاديّ والتّطوّر التّكنولوجيّ، أصبح بمقدور واشنطن أن تعيد صياغة العالم وفق مصالحها الذّاتيّة، وبما ينسجم مع تحالفات تعقدها مع وكلاء أو شركاء أو أجراء. وعلى هذا الأساس ما عادت منظمّة الأمم المتّحدة فاعلة في معالجة الأزمات الدّوليّة، بل أصبحت شاهد زور يمنح الإدارات الأميركيّة المتعاقبة التّغطية الّتي قد تحتاجها.

العراق كان في مرمى الاستهداف الأميركيّ لسنوات عدّة بعد الحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة، وما تلاها من دخول الجيش العراقيّ إلى الكويت، ثم خوض القوّات الأميركيّة “حرب تحرير الكويت”، وفرض الحصار المجرم على العراقييّن. فالعراق يمثّل من منظور الغرب الأميركيّ ـ الأوروبيّ جانبين استراتيجيين مهمّين: الأوّل جغرافيّته الاستراتيجيّة بوصفه الجناح الشّرقيّ من الهلال السّوريّ الخصيب، حيث من الممكن أن يمتدّ مداه الحيويّ من الخليج العربيّ وصولاً إلى الشّمال الغربيّ نحو شواطئ المتوسّط وخطوط التّماس مع العدوّ الصّهيونيّ. الثّاني، ثروته النّفطيّة الهائلة وسهولة تصديرها باتّجاه الخليج وباتّجاه الغرب عبر أراضي الجمهوريّة السّوريّة… هذا في حال قامت بين بغداد ودمشق ترتيبات وحدويّة كما كان مؤملاً من ميثاق العمل الوطنيّ المشترك الّذي أشرنا إليه في مطلع المقال.

ولم تكن الإدارة الأميركيّة بحاجة إلى ذريعة قويّة مثل الضّربات الإرهابيّة في نيويورك وواشنطن بتاريخ 11 أيلول سنة 2001 لكي تحرّك سيناريوات إحتلال العراق، كما وضعتها وزارة الدّفاع الأميركيّة منذ سنوات. بدأ القرن الحادي والعشرون (القرن الأميركيّ حسب كتابات المحافظين الجدد) بغزو أفغانستان والقضاء على “إمارة طالبان الإسلاميّة”. يومها تبجّح الرّئيس الأميركيّ جورج بوش الإبن بأنّ “المهمّة” قد أنجزت، وكشف عن وجود لائحة بالدّول الّتي تستهدفها المخطّطات الأميركيّة بعد أفغانستان… وكان العراق من بينها. ولا داعي الآن للحديث عن أساليب الخداع والتّلفيق الّتي اعتمدتها واشنطن ولندن لتهيئة الرّأي العام العالميّ لعمليّة غزو العراق. فهذه الأمور باتت مفضوحة على نطاق واسع. المهمّ أنّ الولايات المتّحدة وبريطانيا تجاهلتا إرادة المجتمع الدّوليّ والقانون الدّوليّ… ونفّذتا عمليّة الغزو!

العراق الآن بلد تحت الاحتلال، تكبّله اتّفاقات وتفاهمات فرضها المحتلّون الأميركيّون بعدما دمّروا مؤسّسات الدّولة وحلّوا الجيش، وأوقدوا نيران الخلافات الطّائفيّة والعرقيّة بين العراقييّن. وفوق ذلك كلّه، وضعوا دستوراً هجيناً يقوم على نظام المحاصصة الطّائفيّة. كما أنّ بعض القيادات السّياسيّة المحليّة تورّطت في ترتيبات أمنيّة وسياسيّة واقتصاديّة تمسّ سيادة العراق. واستفادت قوّات الاحتلال من مقولة “الحرب على الإرهاب” لتنشر قواعدها العسكريّة في مواقع حسّاسة، وتحديداً عند مناطق “الحدود” مع سورية.

لقد تبنّى البرلمان العراقيّ قبل مدّة توصية تطالب بانسحاب كامل للقوّات الأميركيّة وحلفائها. غير أنّ التّوازنات الطّائفيّة والعرقيّة الدّاخليّة، والّتي يتحكّم الأميركيّون بها إلى حدّ بعيد، تعرقل تنفيذ هذا المطلب الّذي يلقى قبولاً شعبيًّا واسعاً. ولأنّ واشنطن تنظر بقلق إلى دعوات عراقيّة تشجّع على قيام تنسيق شامل عابر للحدود  بين دول الهلال السّوريّ الخصيب، فقد لجأت إلى تحرّكات استباقيّة شملت احتلال مناطق حيويّة في شرقيّ وشمال شرقيّ الجمهوريّة السّوريّة وبالقرب من الحدود مع العراق. وهناك تخوّف من أن يُقدم الأميركيّون على إجراءات خطيرة في حال فُرض عليهم الانسحاب: أوّلاً، توسيع وتعزيز وجودهم العسكريّ المخالف للقوانين الدّوليّة على الأراضي السّوريّة. ثانياً، تسهيل عودة التّنظيمات الإرهابيّة إلى السّاحتين العراقيّة والسّوريّة، أو على الأقلّ غضّ النّظر عن نشاطاتها الدّمويّة. ثالثاً، تحريك النّعرات الطّائفيّة والعرقيّة الّتي تحمل في طيّاتها مخاطر الحرب الأهليّة وربّما التّقسيم.

ومن المسائل الّتي تستدعي مراقبة حذرة لتطوّرات الوضع في العراق، الحراك الدّيبلوماسيّ لعدد من المسؤولين العراقييّن نحو الأردن ومصر وبعض دول الخليج. والأرجح أنّ هناك من يدفع باتّجاه محور سياسيّ اقتصاديّ، ترضى عنه واشنطن، ويكون بديلاً عن محور آخر كان قد تبلور في ميدان المواجهة مع الجماعات الإرهابيّة. ونحن نعتقد بأنّ المواجهة المقبلة ستدور حول هذين المحورين، وكلّ منهما مدعوم إقليميًّا ودوليًّا. وليس من مصلحة العراق، ولا من مصلحة الكيانات الأخرى في الهلال السّوريّ الخصيب، أن تطول تلك المواجهة. فالظّروف تستدعي الحسم، وأيّ محور يكسب العراق إلى صفّه يكون قد قطع شوطاً أساسيًّا في خلق حالة من الاستقرار. وهذا ما سينعكس إيجاباً على الأمن والازدهار والتّفاعل الاجتماعيّ في كلّ كيانات الأمّة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى