الوطنية والأريحية في المغترب

قامت في المغترب، كما قامت في الوطن، صحافة متعيشة تروّج كل رأي وكل فكرة وكل نعرة وكل رجعة ترى فيها باباً من أبواب التعيش.
ولا نعترض على انجراف الصحافة لكسب العيش، ولكننا نقف في وجه الصحافة المتعيشة متى أخذ تغش الشعب وتورطه في ما فيه فساد أخلاقه وانحطاط مناقبه وفناء شخصيته، ولأجل ذلك أثَرْا على صحافيــي الخلط والتدجيل حرباً عواناً، حامية أوردت العدد الأكبر منهم الموارد التي أرادوها للشعب ودفعتهم إلى الحفرة التي أعدوها له.

نُعنى اليوم بحالة من حالات المرض النفسي الذي جلبه على النزالات السورية في الأميركتين سُمّ الصحافة المتعيشة التي سهلت للجماعات السورية استبدال شعور الضيافة بشعور الوطنية، ومعرفة جميل المضيف بالوفاء للوطن والجنس، حتى في الأقطار التي يعامل فيها السوريون معاملة دون المساواة مع غيرهم من الأجناس في حقوق المهاجرة وفي حقوق التجنس!

مسخت الصحافة المذكورة فكرة الوطن الروحية وأبرزتها بشكل «أكل وشرب وجمع مال». وقالت للمغتربين إنّ البلاد التي يعيشون فيها عاملين لعمرانها وتقدمها الاقتصادي الاجتماعي يجب أن تحل من نفوسهم محل الوطن الذي اشترك في تكوين شخصية أمتهم وأبرز مزاياها النفسية، الوطن الذي يمثّل شعورهم وعواطفهم وروابطهم الدموية والنفسية، خصوصاً الروابط النفسية التي تميّز الجماعات الإنسانية المتمدنة عن القبائل المتوحشة وجماعات الحيوانات التي لا تدرك من الوطن غير الرزق وأسباب العيش.

لو أنّ الصحافة المشار إليها رأت من المغتربين نكران الجميل وعدم الأمانة لشروط الضيافة السياسية وأحبت إصلاحه لكان ذلك عملاً تُمدح عليه، مهما كانت الدوافع التي دفعتها إليه.
ولكن مناداتها «بالوطن الثاني» ووجوب تجرد المغتربين من نصيبهم في مسؤولية مصير الأمة التي هم بعض أبنائها، ومآل الوطن الذي كان عاملاً أساسياً، أولياً في هيئتهم الفيزيائية وشكلهم الخارجي، كما كان ذلك في كيانهم النفسي الذي هو نتيجة تاريخ أمتهم وتقاليدها في وطنها، هي مناداة توجب اتهامهم بالخيانة العظمى والحكم عليهم بتجريدهم من حقوق العضوية في الأمة التي كان من نكد طالعها أن يكون أولئك المتعيشون العقوقون، المارقون، من أبنائها.

سممّت الصحافة السورية المتعيشة بمؤازرة أدباء الذل، نفسية القسم الأعظم من المغتربين، فسرى فيها مرض التغنّي بالتخلي عن الوطن والافتخار بترك الأهل، الباقين، لمصيرهم، وبالهرب من المسؤولية في ذاك المصير.
فتجلببت خيانة الروابط القومية، المقدسة بآلام الأمة، المقدسة بآمال الشعب وأشواقه، المقدسة بضحايا الشرف والبطولة في ساحة الدفاع عن حياة الأمة وحقوقها وميراثها، والذب عن شخصيتها التي يشترك فيها جميع أبنائها بجلباب «الوطنية الثانية» ــــ وطنية الدنانير وبناء المساكن والقصور وارتياد الملاهي وأندية القمار والنوم في نعومة بال وخلو من كل همّ!

وافقت خطة الصحافة المنافقة هوى فئة غير قليلة من طلاب العظمة الشخصية عن طريق المال، الذين لم يتح لهم أن يروا روعة العظمة الروحية الفائقة، القائمة على المناقب النفسية السامية فأفراد هذه الفئة الذين لم يتربوا في قومية أو وطنية صحيحة ولم يتعلموا قط شيئاً من فلسفة الجدارة والاستحقاق، ولم يعرفو أمراً من أمور نظام المجتمعات ومراتب القيم، ولا أدركوا شعوراً بمسؤولية أو حساباً عن واجب.
رأوا أنّ المجد شيء هيّن ورخيص، فبضع بدرات من المال تكفي لتسبغ عليهم في صحف التعيش والنفاق أسمى الألقاب وأعز القيم وأجلّ النعوت!

لم يخطر لأحد منهم أنّ المجد الهين، الرخيص، المشترى بالمال، مجد حقير، زائف، لا قيمة حقيقية له، فتمادوا في هذا الغرور وصاروا ينظرون شزراً إلى كل نفس كريمة أبية لا تجيز المجد الزائف، كما يستشيط غضباً صاحب العملة المزيفة، لأن العارفين لا يقبلون عملته فيتهمهم بالخروج على الأصول وعلى القوانين ويرميهم بسوء الخلق وقبح الغاية أو بقلّة الأدب، على الأقل!

لا نريد بما تقدم أن نقول إننا نقبّح الثروة ونحتقر الأغنياء ونعدّهم لا شيء، بل نريد أن نقول إنّ الغنى يجلب العار كما يجلب الشرف، حسب التصرف به.
وإذا وجد نوع من «الأدباء» قبّحوا الغنى وهجوا الأغنياء واحتقروا الثروة لجهلهم الضرورات المادية للنهضات العمرانية والثقافية، فنحن نعلن خطأ أولئك الهاجين. نحن لا نريد ظلم الأغنياء وتحقيرهم بل نريد إنصافهم.
وبقدر ما نحبّذ نشاطهم ونمدح نجاحهم الاقتصادي وفلاحهم نحرص على أن لا يتهوروا في مهاوي التملق الذي يبديه لهم صحافيو التعيش والنفاق بمدح أغلاطهم وآرائهم الصائبة سواء بسواء، فيظنون أنهم أرباب كل فكر وكل مكرمة وكل شرعة، وأنّ الموافقة على أهوائهم هي من حقوق الثروة على الناس ورجال العلم والفن والسياسة!

إننا نحب أن نرى أغنياءنا أصحاب مناقب وأخلاق وتأدّب ومعرفة الحدود والأصول، كما نُسرّ برؤيتهم مقتدرين في الأعمال التجارية الواسعة ومتفوقين في التزاحم على المقومات الاقتصادية.
إنّ تدهور الكثيرين في مهاوي التملق المذكورة آنفاً صار أمراً واقعاً مشهوراً.
ومن هذا التدهور أنهم قبلوا التملق وشجعوه بالمال. ثم اندفعوا في أعمال ليست صائبة، عند التحقيق ونادوا بالويل لكل من لا يقول إنّ أغلاطهم هي الصواب عينه والحق الذي لا مرية فيه.
نعرف معرفة اليقين أنّ من هؤلاء المغرورين من تبرّع لبعض المشاريع المفيدة لسورية بكمية لا تبلغ المئة ليرة سورية، بينما تبرّع لبعض الجمعيات الخيرية ببضع مئات.
ولكنه حين تبرّع لحكومة شعب غني غنى فاحشاً تبرّع بعشرات ألوف الدولارات أو الليرات الإسترلينية!

أية جريدة متعيشة في المهجر ــــ وكلها متعيشة إلا صحفاً نادرة أنشئت لخدمة مبادىء معينة ــــ تجسر أن تقول لذلك المثري: إنك غلطان وليس من الشهامة ولا من العدل أن تردّ على مشاريع أمتك التي منها خرجت إلى الحياة وحبتك مواهبك ومزاياك حفنة ليرات، وأن تهب حكومة بلاد هِجْرتك الغنية أكياس الليراث، فوق ما وهبْت بلادها من إنتاجك ومن ذرّيتك وما يبقى لها بانتقال إرثك إلى أولادك الذين ربّوا لتلك البلاد.
وقد كنا نتساهل معك لو أنك وهبت النصف لمشاريع الوطن ــــ الوطن الذي فيه رأيت النور كما رآه فيه أباؤك وأجدادك ــــ ووهبت النصف الآخر لبلاد ضيافتك؟ أي صحافي متعيش يجرأ أن يقول لغني غلطان في بذله ماله هذا القول؟
إنّ الصحافة المنافقة لم تكتفِ بالسكوت على مثل هذا الغلط ولا بمدح الأغلاط التي هي أقبح من هذا الغلط، بل هي التي توجه الأغنياء نحو هذه الأغلاط وتسهل لهم إتيانها وتؤكد لهم أنها ليست أغلاطاً، على الإطلاق، بل مكارم تفتخر بها القوميات وتباهي بها الأجناس!

أن يتبرع أغنياؤنا لنهضة قومية نشأت في سورية وقام رجالها يغذونها بدماء قلوبهم وبإذابة أدمغتهم وصوونها بأرواحهم وأجسادهم هي سخافة، إذا قيست بمقياس هذه النفسية التي أرسختها الصحافة المنافقة في نفوس المغتربين. وحجتهم الأبدية المريضة هي هذه: لا يقوم في بلادنا شيء صحيح، ماذا سيفعل هؤلاء الفتيان؟ من يدري ما يكون؟ ولكن التبرع لدول ضخمة شعوبها غنية جداً فهو عين الحكمة والأريحية والوطنية!

وهكذا واجهنا هذه الحقيقة المؤلمة، المخجلة:
إنّ النهضة السورية القومية الاجتماعية التي هي من أروع النهضات في العالم كله كانت تذيب قواها وقد تخلى عنها الذين تعمل لشرف قوميتهم وفخر جنسهم وإعلاء شأنهم، ليتفاخروا بتملق الحكومات في الدول الضخمة التي يفيض عنها المال حتى أنها تتمكن من مساعدة أمم عديدة!

إنّ المبالغ المالية الضخمة التي دفعها أغنياؤنا ومتوسطو الحال منا في الحملة الصحافية لمساعدة قضايا الأمم القادرة على صيانة حقوقها بنفسها لو دفع نصفها، بل ربعها للنهضة السورية القومية الاجتماعية لكان السوريون في الوطن وفي المغترب وجدوا أنّ مكانتهم القومية في العالم قد اكتسبت قوة كبيرة.

إذا نظرنا، فقط، في المبالغ المالية التي سارعت فئات سورية لتقديمها لمجهود الحرب في أقطار أميركا الشمالية والجنوبية تبيّن لنا كم تستطيع القوى السورية أن تفعل إذا شاءت. وآخر ما ورد في أخبار أميركانية، وهو ما نشرته بعض الصحف السورية الصادرة هناك، بتاريخ 23 أبريل/نيسان الماضي، أنّ لجنة سورية قدّمت مؤخراً أربع مئة ألف دولار لشراء طربيلات لبحرية أميركنية وأنّ التبرعات لا تزال سائرة. وهذا المبلغ هو آخر ما جمع وليس أوله ولا الأخير.
ومجموع التبرعات السورية في الأميركتين يسجل رقماً ضخماً. وهذا يدل على أنّ السوريين ليسوا ضعفاء ولا معدومي الأمل، وعلى أنهم إذا حوّلوا مجهودهم لتعزيز قضية قوميتهم وجنسيتهم ارتفعت مرتبتهم في العالم كله!

لا نقول إنه لم تحدث مساعدات مالية لبعض المشاريع الوطنية أو لبعض الحركات الثوروية في سورية، ولا نقول إنّ المغتربين لم تخب آمالهم مرات.
ولكننا نقول إنّ خيبة الأمل الماضية يجب أن لا تحملهم على قتل الأمل، والانتحار القومي!
نقول إنه يجب ترك الصحافة المتعيشة، المنافقة، المتملقة والنظر إلى حقائق الأمور وجوهر القضايا.
إنّ القضية السورية القومية الاجتماعية قضية حق وهي لذلك حق.

إنّ الحركة السورية القومية الاجتماعية قد أنشأت في مدة عقد من السنين تاريخاً جديداً حافلاً بحوادث الإخلاص والبطولة والتضحية.
إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي قد سار وسط الحديد والنار إلى غرضه القومي الاجتماعي. وفي كل آلامه ومحنه لم يتوجه إلى الشعب بنداء واحد في طلب تبرعات، لأنه أراد أن يعتمد على قواه وحده قبل كل شيء، ولأنه أراد إلقاء هذا الدرس البليغ:
إنّ البطولة لا تستجدي!

ولكن الحزب السوري القومي الاجتماعي كان ولا يزال يأمل أن يتناول الوعي القومي فئات الشعب السوري القادرة مادياً ومعنوياً، فيستيقظ وجدانها ويبادر كل فرد إلى واجبه!

ليس هذا الوقت وقت السؤال:
إذا مشيت أنا من يمشي معي؟
ليكن لنا قدوة في الزعيم الذي مشى في الحق، ودعا إلى الحق، وشق الطريق للذين تبعوه إلى الحق!
كل من مشى في الحق قبل أن يمشي الكل صار قدوة ومعلماً.
لا يوجد شعب في العالم ينهض كله دفعة واحدة، بل تنهض الشعوب بقدوة الرجال الذين يعبّدون طريق الإيمان والثقة وصدق العزيمة بإقدامهم وبذلهم كل ما يستطيعون، مادياً ومعنوياً.

أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،

العدد 62، 1/7/1943

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى