انتخابات المختارين درس بليغ

من يتأمل النزاع السياسي العنيف في انتخابات المختارين في الجمهورية اللبنانية والحرارة العظيمة التي ظهرت في هذا النزاع، ويقابله بالجمود الذي لازم انهيار قوى الفوضى السورية العاملة بالعقلية العروبية في قضية فلسطين، والبرودة التي أسدلت ستائرها على نكبة فلسطين القومية ومأساة بني أمتنا في الجنوب الغربي، لا يتمالك من الارتياع لرد الفعل المعكوس والحالة المقلوبة اللذين يدلان على حالة غرق وفناء في تخبط لا نظير له في العالم!

تراكض الناس في لبنان، في أصغر القرى وأقلّها موارد وأكثرها فقراً، كما يتراكضون في أكبر المدن وأوسعها موارد وغنى، وحشدوا صفوفهم حشداً حربياً، وفي أماكن كثيرة كان الحشد الحربي مسلحاً، وفي بعض القرى وبعض أحياء المدن وقعت بعض اصطدامات كان بعضها اصطداماً دامياً. وفي بعض الأماكن لم يمنع الناس من اطلاق العنان لجماح الأحقاد والمطامع العائلية لا مبادىء ولا أيمان أقسموها. وقد بذل المال بذلاً سخياً وجاد بعض الناس بأود عيالهم، وقطعوا أواصر القربى في سبيل مطمع في سلطة مختار يقدر على التحكم في الأرزاق والمواريث، فينقل أملاك بعض الناس إلى حوزته أو إلى حوزة أقربائه أو إلى حوزة حلفائه أو إلى حوزة من يدفع له ثمناً جيداً من مناصريه، ويجعل من لهم أبناء مقطوعي النسل، ويصيِّر مقطوعي النسل ذوي ذريّة!

إنّ أروع مشهد سياسي من مشاهد عيش جيل بائد هو مشهد ثورة الأحقاد وأطماع بعض الشعب في البعض الآخر، ولا يضاهي هذه الثورة أو يفوقها إلا ثورة الحزبيات الدينية متى نفخ في نارها أهل الورع والتقوى! أما ذهاب الوطن وأما دخول الأعداء للاستيلاء عليه، وأما ذهاب مصالح الشعب الكبرى إلى الرأسمال الاستعماري فليس أمراً يستحق ثورة في سبيل حق الحياة والشرف القومي!

إنّ دخول الحزب القومي الاجتماعي معركة المختارين كان خطوة فاصلة لنقل النزاع السياسي من دائرة التناحر والتناهش والتضارب إلى نطاق نزاع المبادىء ـ نزاع بين المبادىء القومية الاجتماعية التي تقضي على التضارب والتناحر والتناهش، ومبادىء الانهيار القومي في تناهش الأحقاد العائلية والشخصية وتطاحن ضغائن الحزبيات الدينية.

انتخابات المختارين هي صورة مصغَّرة لانتخابات النواب. فالمبادىء عينها التي تتّبع هناك تتّبع هنا، فليس ما يألب جيل الغفلة القومية على المرشحين مبدأ يعلنونه أو عقيدة يتمسكون بها، بل يألّبهم طمعهم بعضهم في بعض وعداواتهم بعضهم لبعض وتزاحمهم على فتات موائد الاستعمار التي لا تكفي سداً لرمق قسم من الشعب، فهم يتذابحون عليها فيما بينهم ولا يفكِّرون في جمع أمرهم على منازعة الأطماع الاستعمارية عليها، بل هم في غفلة عن هذه الأطماع إلا دهاقنة سياسة العقلية العتيقة التقهقرية، فهؤلاء يعرفون الأطماع الأجنبية ويسارعون إلى تأجير أنفسهم لخدمتها وتسليم الشعب إلى عبوديتها!

هذه هي الحقيقة التي رآها الحزب القومي الاجتماعي في الفئات السياسية التي تتطاحن بكل قواها لتتسلم وظائف المختارين وكراسي النواب من بعدها، وتحوّلها إلى وسائل دنيئة لعيش ذليل حقير!

المختارية في أيدي أصحاب الأطماع الشخصية والعائلية هي وسيلة لهضم حقوق الغائبين، وللظلم والعدوان على الحاضرين وسلب الأرزاق. والنيابة في حوزة السياسيين الشخصيين والإقطاعيين هي وسيلة لبيع حقوق الشعب إلى الرأسمال الأجنبي، ولتمكينه من موارد الأمة وكنوز الوطن!

إلى الفناء في تخبط مهلك تقود العقلية العتيقة لبنان والأمة السورية كلها، وبقاء تلك العقلية وحدها في الميدان ينتهي، بلا شك، إلى هلاك الأمة غرقاً في طوفان الأطماع الفردية والمنازعات العشائرية.

لا إنقاذ للأمة من حالة الغرق والفناء إلا بانتصار المبادىء القومية الاجتماعية على مادىء النفعية الشخصية والخصوصيات العشائرية والحزبيات الدينية والنعرات الطائفية.

هذا هو درس معركة انتخابات المختارين الذي يجب أن يتعلمه شعب يهتم بنهش بعضه بعضاً في حين تقدم له الحركة القومية الاجتماعية ووسائل التعاون والنهوض والحياة العزيزة.

 الجيل الجديد، بيروت،

العدد 49، 7/6/1949

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى