انتصار القومية السورية يحقق الجبهة العربية القوية!

قد تبيّن من مقاليّ السابقين: “العروبة أفلست” و “… والانعزالية اللبنانية أفلست” أنّ إفلاس التعرب والتلبنن عائد إلى الأوهام “القومية” التي تتعلق بها الرجعيتان الجديدتان اللتان تُلبسان الحزبية الدينية لباس القومية، ظانتين أنّ هذا الإلباس يقوم مقام الحقيقة ويغني عن القومية الصحيحة. وقد لخصت القضيتين المتناقضتين اللتين تنادي بهما الرجعيتان الجديدتان في أنّ الرجعية العروبية تريد جمع ما كوّنته الطبيعة متفرقاً وأنّ الرجعية اللبنانية تريد تفريق ما كوّنته الطبيعة وفرضه الواقع مجموعاً واحداً ـ مجتمعاً واحداً، أمة واحدة. فالرجعية الأولى تريد أن تجعل من البيئات التي كوّنتها الطبيعة بيئة واحدة متماسكة بيئات، ومن الشعب الواحد والأمة الواحدة شعوباً وأمماً. وقد قلت في المقال السابق إني لا أتوقع أن يتَّعظ الرجعيون المتجددون المستعربون ومستغلو العروبة بالحقائق التي جلوتها وبالنكبات التي حلّت بالأمة السورية، من جرّاء أوهامهم ورجعيتهم. اقول في هذا المقال، إني لا أتوقع أن يتعظ الرجعيون المتجددون المتلبننون ومستغلو التلبنن بما جرّته أوهامهم على الأمة السورية عامة، وعلى اللبنانيين خاصة، من تقهقر وانخذال.

إنّ للرجعية لغتها الخاصة ومفاهيمها ومقاييسها الخاصة. فالغضبة على المضللين الرجعيين وعلى قضايا التضليل هي، في قاموسهم، “شماتة”! وهم يجهلون تماماً القول “قد أُعذر من أنذر” والفتن الدينية التي تجر الأمة إلى حروب أهلية ومذابح يذبح فيها ابن الأمة أخاه هي “قومية تقدمية” عندهم. وقد يخطر لبعضهم أن يصير عالماً رجعياً في الاجتماع والسياسة فيقول: “الأمة أصل والشعب فرع” فيأتي بآيات تقدّم رجعي باهر ويحتاج العالم التقدمي إلى التقدم مئات من السنين إلى الوراء ليتمكن من فهم هذه اللغة. ويجب أن أعترف أني، بعد أن عانيت ما عانيت في بناء الحقيقة القومية التي لا تمنع أن تقول الأمة بمعنى الشعب والشعب في مقام الأمة والتي تقول إنّ كل أمة شعب ولا يعكس، لم يعد في إمكاني أن أتقدم إلى الوراء كل الشوط الدراسي الذي تقتضيه معرفة سفسطة النهضة الرجعية وأن أتعلم “أنّ الأمة ليست الشعب وأنّ الشعب جزء من الأمة وأنّ هذه أصل وذاك فرع”.

والرجعية الجديدة أشد مكابرة، في الحق، من الرجعية القديمة، لأنّ هذه بسيطة تعرف بساطتها ولها قضية واحدة بسيطة، أما الرجعية الجديدة فقد أنشأت لنفسها سفسطة ملتفة ومتلوية واقامت علماً رجعياً يقف دونه العلم التقدمي مطأطئاً، صاغراً. وهي، في سفسطتها ومكابرتها لا تسلّم، أبداً، بأنها أفلست. فما دام في الأمة السورية رمق حياة وبقية قوة فهي لا تقدم طابق إفلاسها! إنها لا تقدّم طابقها إلا بعد أن تكون قد قضت على كل قوة وكل إمكانية في سورية!

ولكن، إذا كانت النايورجعية، بنوعيها العربي واللبناني ، قد أفلست إفلاساً عظيماً، باهراً، وجلبت على الأمة السورية نكبات هائلة شهد روعتها العالم كله فهل تعجز الأمة السورية عن النهوض والتغلب على الرجعية والنايورجعية؟

قد برهنت الأمة السورية بنهضتها القومية الاجتماعية على استعادتها حقيقتها وعلى تجلي هذه الحقيقة في نظرة إلى الحياة والكون والفن متفوقة منتصرة وعلى مقدرتها على مواجهة القضايا والمسائل القومية والإنترناسيونية، بقضية قومية اجتماعية كلية واحدة ومبادىء حية تقضي على شعوذة النايو رجعية.

إنّ القومية هي وعي الأمة وجودها. والأمة ليست لغة ولا ديناً ما، بل هي واقع اجتماعي ـ هي مجتمع إنساني وأرضي. فلو أطلقت لغة واحدة في العالم كله لما جمعت العالم أمة واحدة. ولو أطلقت فيه مذهباً واحداً لما صار أمة واحدة. فلا اللغة ولا الدين ولا الاثنان معاً يجعلان الناس أمة واحدة، أي مجتمعاً ذا شخصية سياسية. هذه أمم العالم الإسباني فإنها تتكلم لغة واحدة، وتدين بالمذهب الكاثوليكي الواحد وجميعها إلى ذلك، من أصل واحد إسباني وهي مع ذلك، أمم لا أمة، لأنها مجتمعات لا مجتمع واحد. وعلى هذا القياس تقيس العالم اللاتيني والعالم الأنكلوسكسوني والعالم الجرماني والعالم الصقلبي والعالم العربي، مع العلم أنّ روابط العالم الإسباني اللغوية والدينية والدموية أيضاً هي أقوى كثيراً في ذاتها ومن الوجهة التاريخية والوجهة النفسية من روابط العالم العربي والعوالم الأخرى باستثناء الأنكلوسكسوني.

إنّ الفتح الحربي وتغيير لغة قوم ودينهم بواسطة الفتح لا يلغيان وجود الأمة المغلوبة. فقد افتتح النرمان إنكلترة وسيطروا عليها وغيّروا لغتها الجرمانية وصيَّروها لاتينية وبقيت الأمة الإنكليزية. وغيّر الفتح العربي اللغة السريانية في البلاد والدين في غالبية السوريين ولكن الثقافة السورية هي التي سيطرت على اللغة العربية وبقي المجتمع السوري هو هو. وبُسط الدين المحمدي على الفرس والترك وغيرهم وسيطر العرب عليهم حيناً وفرضوا عليهم اللغة العربية ديناً ولكن القومية تغلبت على الرابطة الدينية في الفرس والترك كما تغلبت على الرابطة الدينية واللغوية في سورية. وسبق الفرس والترك سورية في مضمار الوعي القومي بسبب استعادتهما سيادتهما القومية باكراً. لتّن الفتح الروماني العالم اللاتيني لغة وديناً ولكنه لم يستطع تلتينه قومياً وجعله أمة واحدة، لأنه لم يستطع توحيد البيئة والمجتمع. فبقيت إسبانية في طبيعتها وواقعها الاجتماعي وبقيت كذلك فرنسة وإيطالية ورومانية، وتجزأت إيطالية إلى دويلات مخالفة للواقع الاجتماعي الجغرافي، وقامت فيها مملكة نابولي ومملكة سردينية وجمهورية البندقية وغيرها وتسلحت كل منها باعتبارات كالتي تتذرع بها فكرة “القومية اللبنانية” ولكن وحدة البيئة، ووحدة حياة الجماعة، كانت أقوى من كل سفسطات التجزئة القومية.

بينما “القوميات” الرجعية تسير في سورية من خسارة إلى خسارة ومن إفلاس إلى إفلاس، تسير فيها القومية الصحيحة ـ قومية الحياة والواقع الاجتماعي ـ قومية الأمة السورية من ربح إلى ربح ومن انتصار إلى انتصار. فقد انتصرت هذه القومية الصحيحة بانتصار النهضة السورية القومية الاجتماعية على تحالف الاحتلال الأجنبي والرجعيات الوطنية ضدها ـ على ملاحقات القوات المسلحة واضطهادات الرجعيين وحقد النايو رجعيين وشماتتهم. وقد أظهرت هذه النهضة القومية الاجتماعية، التقدمية، فساد القضايا والأهداف والخطط الرجعية وفساد التفكير الرجعي الجديد وأساليبه في جميع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحربية الحيوية للأمة السورية، وأنبأت بالكوارث التي يقود الأمة السورية إليها التفكير النايو رجعي وأنذرت اصحاب هذا التفكير بالعواقب الوخيمة ثم ساعدت. ما أمكن المساعدة، وعملت على تدارك ما أمكن تداركه. ولكن النفسية النايو رجعية صممت على إلقاء الأمة في التهلكة لعلها تقدر أن تنقذ طابقها وتتّقي الفضيحة!

 كل شيء، بيروت،

العدد 97، 4/2/1949

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى