بيان الثامن من تموز

بيان الثامن من تموز:
الثامنُ من تمّوزَ، ليس مجرَّدَ ذِكرى، بل مَوعدًا خالِدًا مع الحقيقَةِ الّتي حاوَلوا اغتِيالَها باغتِيالِ باعثِها. إنَّ استشهادَ أَنْطونَ سعاده، قبلَ ستّةٍ وسبعينَ عامًا، لم يَكُنْ نِهايةَ رَجُلٍ فقط، بل كانَ استِهدافًا لمشروعٍ حيٍّ مُتَجدِّدٍ سيَظَلُّ شاهِدًا على مَنْ جَلَبَ هذا الوَيْلَ إلى أُمَّتِنا ولِماذا.
لَقَدْ أَجابَ سعاده، بِفِكرِهِ الّذي سَبَقَ زَمانَهُ، على أَسْئِلَةٍ وُجوديَّةٍ كُبرى بَقِيَتْ تتَراكَمُ حتّى يَوْمِنا هذا: مَنْ حاكَ المُؤامَراتِ؟ مَنْ أَدْخَلَ سُمَّ الطائِفيَّةِ والمصالح الخصوصية؟ مَنْ قَسَّمَ الأَرْضَ وسَرَقَ الهُوِيَّةَ وأَرادَ أنْ يُطْفِئَ جَذْوَةَ إرادة الحياة في شَعْبِنا؟ ومَنْ خَطَّطَ لِمَسْخِ شَرْقِنا وتَحويلِهِ إلى كِياناتٍ هَزيلَةٍ لا تَعْرِفُ إلّا التَّبَعِيَّةَ؟
أيُّها القَومِيُّونَ الاجتماعيُّونَ،
في غَزَّةَ، أَكَّدَتْ دِماءُ الأَطْفالِ والنِّساءِ أنّ العَدُوَّ لا يَرْتَدِعُ إلّا حينَ يُواجِهُ شَعْبًا يُقاتِلُ ويُؤْمِنُ. في لُبنانَ، يَتَّحِدُ الحِصارُ والفَراغُ السِّياسِيُّ مع التَّهديداتِ اليَوميَّةِ لِيَدْفَعوا شَعْبَنا إلى الاسْتِسلامِ. في الشّامِ، يَشْتَدُّ الحِصارُ الاقْتِصاديُّ ويُحاوِلونَ خَنْقَ قَلْبِ أُمَّتِنا لِتَرْكِيعِها.
وكُلُّ ذلكَ ليسَ سِوى وَجْهٍ آخَرَ لِلرَّصاصاتِ الّتي أُطْلِقَتْ فَجْرَ الثّامِنِ مِنْ تَمّوزَ على جَسَدِ الزَّعيمِ، ظَنًّا مِنهُم أنّ قَتْلَ الجَسَدِ يَكْفي لِقَتْلِ الفِكْرَةِ. لكِنَّ دَمَ سعاده تَحَوَّلَ إلى فِكْرٍ حيٍّ يَسْكُنُ الوِجدانَ الحُرَّ للمجتمع، يَرى أنّ أُمَّتَنا لا تُقْهَرُ ما دامَتْ فيها إرادَةٌ واعِيَةٌ وقَلْبٌ نابِضٌ بالإيمانِ.
لَقَدْ كَشَفَ سعاده أَدَواتِ السَّيْطَرَةِ: الطّائِفيَّةَ، الفَسادَ، التَّفْريقَ، التَّبَعِيَّةَ الخارجية. ولِذلِكَ اغْتالوهُ، لكِنَّهُ انتَصَرَ في حَياتِهِ وسَيَظَلُّ يَنتَصِرُ، لِأَنَّ الفِكْرَةَ لا تَموتُ.
يا أَبْناءَ النَّهْضَةِ،
إنَّ مَسؤوليَّتَكُمْ اليَوْمَ أنْ تَجْعَلُوا مِنْ هذِهِ الذِّكرى مَنْصَّةَ تَعْبِئَةٍ لا مَحَطَّةَ بُكاءٍ، إنَّ ثَباتَكُمْ في ساحاتِ المُواجَهَةِ الفِكْرِيَّةِ والسِّياسِيَّةِ والمَيْدانِيَّةِ هُوَ الّذي يَصْنَعُ الفارِقَ. مَنْ يَحْمِلُ البُنْدُقِيَّةَ يَقِفُ إلى جانِبِ مَنْ يَحْمِلُ الكِتابَ، مَنْ يَزْرَعُ في الأَرْضِ يَقِفُ إلى جانِبِ مَنْ يَزْرَعُ في العَقْلِ، مَنْ يَبْنِي مُجْتَمَعًا سَليمًا يَقِفُ إلى جانِبِ مَنْ يُواجِهُ آلَةَ التَّضْليلِ والتَّفْريقِ.
لَقَدْ عَلَّمَنا سعاده أنّ المَعْرَكَةَ مَعْرَكَةُ مُجْتَمَعٍ كُلِّهِ، وأنَّ الصِّراعَ لَيْسَ صِراعَ حُدودٍ فَحَسْبُ، بَلْ صِراعُ وُجودٍ وقِيَمٍ وهُوِيَّةٍ وإرادَةٍ، وأنَّ خَلاصَنا لَنْ يَكُونَ بِقَرارٍ مِنْ خارِجِ حُدودِنا، بَلْ بِقَرارٍ نابِعٍ مِنْ عَقْلٍ واعٍ ومُنَظَّمٍ وإيمانٍ ثابِتٍ بِقُدْرَةِ أُمَّتِنا على النُّهوضِ مَهْما اشْتَدَّتِ المُؤامَراتُ.
يا رُفَقاءَ سعاده،
كونُوا حَيْثُ يَجِبُ أنْ تَكونُوا: في ساحاتِ الفِكْرِ، في وَسائِلِ الإعْلامِ، في مَواقِعِ العَمَلِ والإِنْتاجِ، في صُفوفِ المُقاوَمَةِ، وفي كُلِّ مَكانٍ تُحاكُ فيهِ خُيوطُ التَّقْسيمِ والتَّجْهيلِ والانْقِسامِ.في الثّامِنِ مِنْ تَمّوزَ نُجَدِّدُ القَسَمَ:
لَنْ نَتْرُكَ ساحَ الجِهادِ، لَنْ نَخْذُلَ دِماءَ الشُّهَداءِ، لَنْ نَسْقُطَ في مُسْتَنْقَعِ الطّائِفيَّةِ والفَسادِ، سَنَزْرَعُ مِنْ جَديدٍ، لِنَحْصُدَ مِنْ جَديدٍ، ولَوْ بَعْدَ مِئَةِ عامٍ، سَنَصْنَعُ مشرقنا الجَديدَ الّذي يُشْبِهُنا، لا الشَّرْقَ الأوْسَطَ الّذي يَرْسُمُهُ المُحْتَلُّونَ.
أيُّها السُّوريُّونَ القَومِيُّونَ الاجتِماعِيُّونَ،
إنَّ الثّامِنَ مِنْ تَمّوزَ لَيْسَ ذِكْرى اغتيال بَلْ لَحْظَةٌ فَلْسَفِيَّةٌ وُجوديَّةٌ تَضَعُنا أَمامَ سُؤالِ الكَرامَةِ والحُرِّيَّةِ. سعاده لَمْ يُغتل لِأَنَّهُ خانَ بَلْ لِأَنَّهُ آمَنَ بِأَنَّ القَوْمِيَّةَ تَحَرُّرٌ مِنْ أَحْقادٍ وكَراهِيَّةٍ، وَأَنَّ الحَياةَ لا تُقاسُ بِالعُمْرِ بَلْ بِالفِعْلِ.
فَلْنُحَوِّلِ الذِّكْرَى مِنْ حُزْنٍ إلى فِعْلٍ، وَمِنْ إِرادَةٍ إلى حُرِّيَّةٍ، لِنَرْفَعْ تَحِيَّةَ الوَفاءِ إلى سعاده، وَنُجَدِّدَ قَسَمَ الدَّمِ وَالفِكْرِ وَالعَمَلِ:
أَنْ نَبْقَى أُمَناءَ على نَهْضَتِنا، صامِدينَ في وَجْهِ الاحْتِلالِ، مُخْلِصينَ لِلْفِكْرِ القَومِيِّ الاجْتِماعِيِّ الّذي بِهِ وَحْدَهُ نَضْمَنُ لِلْأُمَّةِ خَلاصًا حَقيقِيًّا وَنَهْضَةً لا تَزولُ.
المركزُ في 8/7/2025
عُمْدَةُ الإذاعَةِ