بين الجمود والارتقاء ــ تخليط مخلّط

قلنا في ختام الحلقة السابقة (الصفحة 145 أعلاه) إن تعاليم المسيح المناقبية القائلة بالتساهل في الحقوق الفردية لا تعني مطلقاً ما يفهمه المصابون بالعجز الفكري، كرشيد الخوري الواغل بسفسطته على العلم والفلسفة، والخمول والاستكانة وقبول الذل والتسليم للظلم، بل على العكس إنها تعني سلامة المجتمع وفلاحه. وهو نفي الخمول والذل والظلم بوضع قاعدة البطولة الاجتماعية المتلائمة مع حالة التمدن السوري الذي صار أساس التمدن العالمي الحديث في مكان البطولة الفردية أو القبلية التي هي من خصائص الشعوب الأولية والمتبدية، والتي لا تصلح أساساً لإنشاء مجتمع، متحد، راقٍ. هذه البطولة الاجتماعية هي بطولة التضحية الفردية في سبيل خير المجتمع وهي البطولة التي يكتشفها الدارس الخبير في صميم النفسية السورية منذ بدء التاريخ. وإن جذور مبدأ التضحية الفردية في سبيل الخير العام موجودة في تضحيات الكنعانيين (ومنهم الفينيقيون) لمولوخ وداغون التي استفظعها بعض الدارسين، لقساوتها المتفقة مع درجة التمدن الأولية ولكنها، في الحقيقة، تمثل مبدأ فدية المجموع بتقديم الفرد ذبيحة تضحية من أجل استرضاء الإله واستعطافه ليسبغ النعمة على الوطن والأمة. إن هذا المبدأ أساسي لكل مجتمع جدير بالبقاء والارتقاء، الذي ظهر بمظهر وحشي في عهد مولوخ هو هو عينه الذي عاد فظهر في تعاليم المسيح بمظهره الإنساني الراقي الخالص من أوهام العصور القديمة التي كانت في فجر التاريخ.


وقد لازم مبدأ التضحية الفردية الحضارة السورية في جميع أدوارها فكان من أفعل العوامل في ازدهارها وامتداد نفوذها وبسط سلطان الدول السورية الهكسوسية ثم الفينيقية على شاطى إفريقية الشرقي والشمالي، وعلى جزر البحر الأبيض المتوسط وعلى إسبانية وشاطى فرنسة نحو المتوسط. ومن الروايات المدونة عن هذه البطولة الاجتماعية في تاريخ الدول الفينيقية أن ربان أحد المراكب التي تكوّن الأسطول الفينيقي التجاري عندما رأى المراكب الإغريقية لاحقة به تصوّر وخامة العاقبة على التجارة الفينيقية من جلب مزاحمين إغريق إلى بعض الأسواق أو مصادر المعادن، ففضّل التضحية بنفسه فخرق مركبه وأغرقه فارتدت المراكب الإغريقية خاسرة.


فمبدأ التضحية الفردية في سبيل خير المجتمع هو أهم مبدأ مناقبي قام عليه فلاح أي مجتمع متمدن أو متوحش، ولولا هذا المبدأ السامي لما سقط جندي واحد شهيداً في ساحة الحرب دفاعاً عن شرف أمته، أو طموحاً إلى مجد قومي أو إلى موارد جديدة للحضارة. ولولا هذا المبدأ لما عرّض نفسه طبيب خبير لخطر الموت في تجربة بعض السموم أو الجراثيم في جسده، ولما جازف طيار بحياته بامتحان طيارة ولا غواص بامتحان غواصة، ولولا هذه التضحيات الفردية لما حدث هذا التقدم الباهر في الحضارة.


والتضحية ليس لها شكل واحد لأنها ليست حالة شكلية، بل مبدأً عاماً. فالذي لا تكون التضحية قاعدة عامة عنده لا يعرف البطولة الاجتماعية ولا يُقدِم عليها ففائدته للمجتمع قليلة أو سلبية. ومن أشكال التضحية تضحية الشهوات الحادة وتضحية الأنانية العمياء التي يسميها سفسطائي الخلود رشيد الخوري «تقييداً للفطرة بالسلاسل الثقيلة». وهذه التضحية صعبة جداً على الذين لم يروضوا أنفسهم على الفضائل واندفعوا وراء المثل السفلى. ولذلك يصف رشيد الخوري المسيحية بأنها «عدوة نفسها»، لأنها في تسميته لها «ديانة التضحية» ومن أجل ذلك يراها عديمة الفائدة.

وهو يفضّل الإسلام عليها، لأن الإسلام في عرفه، كما جاء في حارضته «دين الفطرة» فيقول فيه: «فهو في اعتقادي موجود قبل وجوده أي قبل ظهور الدعوة وما محمد بن عبد الله إلا منبه له ودالّ عليه فهو مكتشفه لا مخترعه». وهو يريد بذلك أن الإسلام دين إبقاء الإنسان على فطرته الأولى بكل ما فيها من شهوات وأنانيات ومحبة للكسب بلا حدود، وهو يعني أيضاً أن الإسلام ليس دين الحكمة الإلهية، بل «دين اكتشاف الفطرة» وهو بعد بلوغه هذا الأوج من السفسطة السفلية يعود فيقول إن «شريعة محمد وإن سايرت الطبيعة فهي كاسرة من حدتها مقلّمة أظفارها»، فلا تدري تماماً ما يريد أن يقول هذا الجاهل المخلط، ولا تعرف للإسلام صفة ثابتة، فهو مرة «دين الفطرة الموجودة فيها قبل وجوده»، ومرة أخرى هو دين «مسايرة للفطرة ولكنه كاسر من حدتها، مقلّم أظفارها»، وبعد كل هذا وذاك لا تعرف مما يقوله نتيجة فكرية ثابتة، سوى أنه يهرف عن الإسلام بما لا يعرف ويقول كلاماً لا محصّل له كمن يتكلم عن أمور مغيّبة، وإنك لو قتلت نفسك جهداً لما استنتجت من كل هذا التخليط أية فكرة ثابتة عن الحالة الاجتماعية المثلى أو المستوى الاجتماعي ــــ النفسي التي يرمي الإسلام إلى إيجادها.


إن الخوري يفضّل الإسلام على المسيحية لأن هذه تطلب مقداراً أكبر من الرياضة النفسية والجسدية لتحويل معظم قوة الإنسان نحو الأرقى والأنفع للمجتمع كمجد البطولة والتضحية والمناقب العالية التي تبلغ ذروة الشهامة والعفو وبذل المقدرة في سبيل خير المجتمع، ولأن الإسلام، في عرفه، يكتفي بالكسر من حدة الفطرة غير المروض وتقليم أظفارها. فماذا يعني ذلك غير الاكتفاء بحد من الارتقاء تجمد الإنسانية عنده جموداً يشبه جمود الحيوانات، التي يمكن للمرء أن يكسر من حدة فطرتها ويقلّم أظفارها، كما يفعل مروّضو الوحوش، دون أن يكون من وراء ذلك أي ارتقاء اجتماعي ــــ نفساني عند تلك الحيوانات، ذلك لأن كسر الحدة وتقليم الأظفار لا يغيران النظرة إلى الحياة تغييراً نفسياً جوهرياً بمعنى الارتقاء.


إذا كانت هذه هي النظرة الإنسانية المثلى في ما يجب أن يكون غرض الفلسفات الدينية، فأكثر قبائل إفريقية وأسترالية وأميركة المتوحشة قد بلغت «قمة الجودي التي يستقر عليها فلك الإنسانية الغارقة في طوفان العقائد والنظريات والفلسفات المتباينة»، لأن لجميع هذه القبائل أدياناً فطرية تكسر من حدة الفطرة وتقلّم أظفارها!


كل قبيلة من قبائل الشعوب الأولية أو الفطرية لها عادات من خرافات أو دين تكسر من حدة الفطرة وتقلّم أظفارها، وفي الجاهلية كان للعرب أيضاً عادات من خرافات أو سحر أو دين تكسر من حدة الفطرة وتقلّم أظفارها، فكان لهم شهر حرام يترك فيه حمل السلاح ويرفع الثأر والانتقام، وعادات في الزواج والمعيشة والاجتماع وشورى في القبائل. فإذا كانت هذه هي قمة الجودي فلماذا جاء الإسلام إذا لم يكن درجة فوق تلك الدرجة الأولية لقبائل العربة واتجاهاً نحو درجة أعلى في الإنسانية عامة يشترك فيها مع درجة المسيحية؟

ليست هذه الحلقة مدار الكلام في هذا الموضوع فسنعود إليه في حلقة تالية، فلنعد الآن إلى إشباع ما بدأناه في الحلقة الأخيرة (الصفحة 135 أعلاه).


رأينا في الحلقة المذكورة أن المقصود من تعاليم المسيح هو شي غير «تقييد الفطرة بالسلال الثقيلة»، وأن هذا الشي الذي لا تقدر العقول الناقصة أو العاجزة عن إدراكه هو سيطرة الوعي النفسي على الأفعال الحيوانية وما هو بمعنى الغريزة، وتحويل مقدار غير يسير من حيوية الإنسان التي كانت تنفق في المتع الجسدية إلى الأعمال المفيدة، من ميكانيكية وصناعية وزراعية وعلمية وأدبية وفنية واجتماعية واقتصادية. وقد ذهب المسيح إلى هذه النظرة المناقبية رأساً، لأن البيئة السورية كانت قد ارتقت عن درجات كسر حدة الفطرة وتقليم أظفارها وأصبحت تتطلب مستوى أعلى من الارتقاء النفسي.


ببلوغ هذه الذروة المناقبية ابتدأ نجاح الأمم المسيحية وليس بالتخلي عنها، كما يدّعي هذا الواغل على المواضيع الاجتماعية الملقب «بالقروي». أما أسباب تأخر الشعوب الإسلامية وجمود المسلمين فبعضه لا دخل للدين فيه حيث البيئة الطبيعية قاسية لا زرع فيها ولا معادن وضرعها قليل. ولكن حيث أسباب العمران متوفرة فأهم أسباب الجمود هي ترك العمل بالتعاليم الإسلامية العالية المشتركة مع روحية التعاليم المسيحية، واكتفاء بعض الشعوب الإسلامية من الدين «بكسر حدة الفطرة وتقليم أظفارها» وترك ذروة المثل العليا النفسية. فبعدت عقولهم عن طلب التفوق العلمي والتكنيكي والفني. فقد قيل: «من طلب العلى سهر الليالي»، ولكن الذي يقضي لياليه مرتمياً مع فتاة فوق أغصان الربى ليذوق شهدها غصباً عنها ويزدري شعورها ويحتقر كرامتها، كيف السبيل لخروجه من جمود السفولية ومثالب المثل الدنيا؟


بين الأمم التي أكثر عددها من المسلمين تجد سورية أرقاها وأشدها نشاطاً وأسبقها في العلم والفنون والصناعات، وما ذلك إلا لمؤهلات جنسها وعملها بموجب النظرة المناقبية السورية المتجلية في تعاليم المسيح وأرقى تعاليم محمد. فأكثر السوريين المسلمين لا يميلون إلى تعدد الزوجات والانغماس في الشهوات المكسورة الحدة، ويفضلون توجيه قواهم إلى الأفيد للمجتمع. وقد جمد العلم عندهم في القرون الأخيرة بتوالي الفتوحات البربرية. ولكنك لا ترى هذه النظرة أو الحالة عينها عند مسلمي إفريقية حيث مزيج الشعوب وطبيعة الأرض تجعل المجتمع أكثر ميلاً إلى اللهو والأفعال الغريزية.


وقد أثرت تأثيراً كبيراً في حالة جمود الشعوب الإسلامية تعاليم الجهاد الديني الحزبي السياسي التي هي من الخصائص العربية في الدين، وليست من المبادىء الإنسانية العامة. أي أنها تعاليم لا توافق البيئات المتمدنة. فلو كان المسلمون السوريون، ولا نتكلم عن غيرهم، «يرفعون راية المسيح البيضاء» وراية محمد البيضاء فيتساهلون في حقوقهم الفردية ويحسنون إلى الذين يسيئون إليهم ويعفون عمّن ظلمهم ويصلون من قطعهم، لكانوا أزالوا أعظم عقبة من عقبات الاتحاد القومي بفضل النظرة المناقبية التي يشترك فيها محمد والمسيح. ومتى حصل التساهل من الجانبين المسيحي والإسلامي في الحقوق الفردية أو الحزبية، الدينية، الداخلية، بفضل هذا الفهم العميق لغاية دينيهما، وتمّ من وراء ذلك الاتحاد القومي المسالم كل المسالمة في الداخل، أمكن، حينئذٍ، أن تنهض الأمة السورية كرجل واحد وتسير إلى فلاحها فلا تكون في وحدتها هذه إسلامية ولا مسيحية، بل قومية ينظر أفرادها إلى الحياة نظرة واحدة ويفهم كل منهم دينه بهذه النظرة.


بهذا التعليم السوري القومي تنهض الأمة السورية وكل أمة عربية تتخبط في محاولة عقيمة للتوفيق بين حزبية الدين والواقع الاجتماعي وليس «بسيف الرسول»، كما ينادي رشيد الخوري المأجور ليقول هذا القول.
إن سيف الرسول لا يفيد في النهضات القومية. ففائدته الوحيدة كانت لنصرة الدين في بيئة يتعذر فيها الانتصار بالفكر والفهم، في العُربة. وما نسبة السيف إلى محمد في القضايا القومية إلا من باب التزلف إلى متهوسي المسلمين: فالسيف انتضته الدول والأمم في حروبها وفتوحاتها قبل الإسلام وقبل المسيحية، ولقد شق سيف هاني بعل إيطالية من شمالها إلى جنوبها في فتح لم يشهد التاريخ له مثيلاً قبل محمد بنحو ثمانية قرون. وكان السيف يُشهَر في العُربة قبل محمد، ومزّية محمد الوحيدة في استعمال السيف هي أنه أدخله في المسائل الدينية أيضاً، أما في المسائل القومية فلم يكن لمحمد أي فضل فيه.


وهذه الحقيقة التي لا غبار عليها تمكننا من إدراك مبلغ سخافة البيت الذي نظمه رشيد الخوري تزلفاً وتمهيداً لوغوله على العلم، وصفق له السيد حسن كامل الصيرفي الكاتب في بعض المجلات المصرية وهو:
إذا حاولت رفع الضيم فاضرب بسيف محمد واهجر يسوعا
فنسبة رفع الضيم إلى سيف محمد الديني ليس سوى إقحام يخالف جميع الحقائق التاريخية، فالأمم من قبل محمد بعشرات القرون تعمد إلى السيف أو الرمح أو النبلة لرفع الضيم. أما تهكمه بعد هذا البيت على تعاليم المسيح بقوله:
«أحبوا بعضكم بعضاً» وعظنا بها ذئباً فما نجت قطيعا
فمن أغرب ما عرف في باب التخليط والخبل: «فأحبوا بعضكم بعضاً»1 هي لوعظ الرعاة وجمع الخراف وليست «لوعظ الذئاب». ولذلك أوصى المسيح تلاميذه حين أرسلهم ليكرزوا قائلاً: «ها أنا مرسلكم مثل خراف بين ذئاب فكونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام»2 . وهذا يعني أن لا يبقوا مع الذئاب كالخرفان، بل أن يصيروا كالحيّات في دهائها وإدراكها مع محافظتهم على الوداعة وسلامة النية، لأن مهمتهم تعليمية وليست حربية.


أما هذر الخوري القائل: «ليس الإنجيل في نظر النصارى إلا ملحقاً أو ذيلاً لتوراة اليهود يكمل ما ابتدأ من شرها الفظيع ويتمم نبوءاتها القاضية بتجديد عهد العداء والتعدي على أهل فلسطين» فمن أحط النفاق والزندقة والتدجيل.

وكذلك قوله: «فماذا استفاد المسيحيون من إنجيلهم وقد علّقوه في قفا التوراة للفرجة»، فإذا كان رشيد الخوري يتظاهر بالنقمة على المسيحية لمجرد أن المسيحيين جمعوا الكتابين التوراة والإنجيل في مجلد واحد أحياناً، فما قوله بوجود قسم كبير من سيرة اليهود وفرائض دينهم في القرآن كما بيّنا آنفاً؟


المسيح هو الذي حرر الإنسانية من الشرائع التي جعلها اليهود أحكاماً أبديةً. أما أن المسيحيين أرادوا جمع التوراة إلى كتابهم ليؤيدوا ألوهية المسيح وصحة مجيئه موعوداً به في النبوءات فلا يفيد ذلك ما يفيده وجود شرائع موسوية كثيرة وقصص يهودية في صلب القرآن.


إن الأمم المسيحية المتفوقة لم تبلغ ما بلغته من التقدم بتجريدها «سيف الرسول» بل بتجريدها سيف الوطنية أو القومية أو الفتح المعروف من قبل زمن محمد. هذا من الناحية الخارجية، أما من الناحية الداخلية فكان تقدمها بترك السيف واتباع تعاليم العدل والرحمة التي لا قيام لأي مجتمع بدونها ولذلك نزلت الآية القرآنية بجعل الرحمة قاعدة الترابط بين المسلمين واعتماد السيف في المسائل الخارجية فقط. ولمّا كان الدين الإسلامي قد تحول من مجرد تعليم روحي إلى دولة قائمة على قاعدة الدين غرضها جمع مصالح المنضمين تحت لوائها وبسط نفوذها على الدنيا بأسرها عملاً عملاً بما جاء في القرآن: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم}1 وقوله: {إن الأرض يرثها عبادي الصالحون}2، كان لا بد له من الأخذ بأسباب قيام الدول من تجنيد الرجال ومباشرة الحرب، ولكن هذه الغاية ليست غايتها القصوى، بل هي وسيلة إلى الغاية القصوى التي هي: الرحمة في المجتمع والعدل في الحكم. وهذه هي زبدة التعاليم المسيحية. فإذا افترضنا أن الله جعل الأرض كلها ميراث المسلمين وورثوها فعلاً فماذا بعد ذلك، أليس القصد من هذا الوعد تعميم الصلاح من الرحمة والعدل؟ ألا يقول القرآن: {محمد… والذين معه… رحماء بينهم}3؟ وقال أيضاً: {من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}4 {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}5..


أما المسيحية فلم تنشأ نشأة دولة ولم تسر على خطة دولة، بل كانت تعليماً فلسفياً مناقبياً منزهاً عن خطط الدولة، غرضه خير المجتمع الداخلي. وما نريد بالمجتمع هنا هو ما أوضحه زعيم الحركة السورية القومية في كتابه (نشوء الأمم) وسماه «الواقع الاجتماعي». وهو يعني كل مجتمع أوكيان اجتماعي. فالتعليم المسيحي ليس غرضه إنشاء دولة تجمع أتباعه وتحارب الدول الأخرى، وليس قصده جمع أشتات شعب وتنظيمهم في دولة كما جرى لليهود والعرب، لأن البيئة السورية عرفت الدول من زمان فقامت فيها دول فتحت الفتوحات وجندت الجنود وأنشأت الأساطيل البحرية وسنّت القوانين، وإنما كان غرضه إيجاد القواعد المناقبية التي تثبت المجتمع وتزيد فاعليته الروحية تجاه زعازع السياسة والحروب. والأمم تتعرض في تاريخها للانكسار كما تتعرض للانتصار، فإذا انكسرت فلا إقالة لعثارها إلا بمبادىءمناقبية متينة، أما إذا فقدت هذه المبادىء واعتمدت السيف فقط فإن السيف يأخذها ولا يعود يقوم لها قائمة.
في الحرب الحاضرة تسقط أمام أعيننا دول ضخمة حاربت حروباً كثيرةً وفتحت الفتوحات العديدة، ولم تَحِدْ ولا مرة عن نهج السيف السويّ. فما هو السر في سقوطها؟. السر في فقدها القوة الروحية والمبادىء المناقبية. إن سبب سقوط فرنسة مثلاً، هو في ترك الثقافة المناقبية وتقطيع «السلاسل الثقيلة التي قيدت الفطرة» (على تعبير رشيد الخوري)، وإطلاق أبنائها العنان لشهواتهم المقلمة الأظفار الناعمة الملمس، وإن سبب انتصارات ألمانيا الأخيرة هو في كبح جماح الشهوات وسلك سبيل «الشدة المتناهية» في ترويض النفوس والأبدان.


وإن من أسباب جمود المجاميع الإسلامية غير ما ذكرنا، بعض أحكام الشرع التي لا تتفق مع عوامل التقدم المدني كمعاملة المرأة وتحجيبها. فتصور أن مدينة لندن أو برلين أو نيويورك، بملايينها وصناعاتها ومكاتبها ودوائرها، آهلة بمجموع إسلامي محافظ على قاعدة تحجّب النساء حتى لا تسفر المرأة إلا لزوجها وأخيها وابنها وأقرب الأقربين إليها فهل يمكن هذا المجموع أن يقوم بمتطلبات حاجات عمران مدينة من هذه المدن على مستواها التمدني الحاضر، الذي لم يبلغ هذه الدرجة إلا باشتراك المرأة كزوجة وأم وأخت ومدبرة بيت ومربية أولاد ومعلمة مدرسة وممرضة وكاتبة على الآلة الكاتبة، ومشتركة في المعاهد الثقافية والدور العلمية وفي كل شأن من شؤون الحركة الاجتماعية وفي الأدب والفنون وفي جميع أشكال الحياة الاجتماعية والقومية؟


ألم تجد تركية أن تمسكها بفهم الإسلام القديم لا بد أن يقضي عليها فقامت بحركة تجديدية من فوق إلى تحت وصارت من الأمم العصرية التي لها منزلة خطيرة في مجمع الأمم الحية فكان الفضل في نهضتها للوعي القومي الذي قاد كمال أتاتورك الأمة التركية إليه، على الرغم من صياح شيوخ الدين الغيورين على نص الشرع ومن صخب الغوغاء الذي عمد الشيوخ إلى تهييجه؟


ألم يكن الفضل في نهضة الأمم المسيحية من قبل أنها نهضت في وجه تحويل المسيحية إلى دولة دينية رئيسها البابا خليفة المسيح؟


نقول كل ذلك لنبيّن أن الموضوع القومي هو غير الموضوع الديني وأن أسباب تقدم الأمم وتأخرها ليس ما ذكره رشيد الخوري في حارضته، وأثبتناه في الحلقة السابقة (الصفحة 145 أعلاه)، ولنوضح أن المبادىء الدينية الوحيدة التي تفيد الأمم في نهضتها القومية هي المبادىء المناقبية التي يقول الخوري برفضها ويعيّر المسيحية بها ويمدح الإسلام لاعتقاده أنه مخالف لها.


ولكن هل لرشيد الخوري اعتقاد؟، وهل قال رشيد الخوري ما يعتقد حين أبدى هذه الغيرة المضحكة على «حرمة الكعبة والبئر وعرفات وأوراق المصحف وقبر النبي؟».


ألم نرَ أنه في (الأعاصير) الذي جمع فيه أخلاطاً من النظم سماه «شعره الوطني» يقول أيضاً:
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
فقد مزقت هذي المذاهب شملنا وقد حطمتنا بين ناب ومنسم
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم 1


ويقول أيضاً:
ما أضاحي عرفات ومنى بل ضحايا الشام بالمجد غنية2
فمن أين جاءته الآن هذه الحمية الجاهلية على عرفات ومنى والبئر؟
أثبتنا في الحلقات السابقة أن ليس لرشيد الخوري تفكير خاص وأن معظم ما في نظمه ونثره مستعار إما من بعض أقوال كبار المفكرين والكتّاب أو من عاميين نيّري الذهن، وأكثر ما اقتبسه الخوري من غير ذكر أو شكر هو سطحي يوافق مقدار عقله. وقد قلنا في الحلقة السابقة (الصفحة 138 أعلاه) إنه لولا الانحطاط العلمي والثقافي العام عند عامة السوريين والسواد الأعظم من خاصتهم لما وجدنا حاجة بنا للنظر في قوله الهراء الرامي إلى إيقاد نار الفتنة الدينية العمياء. ونزيد الآن أن من الدوافع التي دفعتنا إلى مناقشة كلام هذا الجاهل الأحمق كون بعضه مقتبساً من كلام بعض مشاهير كتّاب العصر الماضي الرجعيين الذين انتشرت كتاباتهم في أوساط إسلامية واسعة، وعدّها سوادهم النور الذي يجب أن يسترشد به، أمثال الكاتب المشهور جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، فإن كلام الخوري الذي أثبتناه في الحلقات السابقة الأخيرة وفنّدناه وأظهرنا بطلانه وفساد تأويله يكاد في بعضه يكون منقولاً بالحرف عمّا جاء في مقالتين وردتا في (العروة الوثقى) التي أصدرها الكاتبان المذكوران في باريس سنة (1884م). وهاتان المقالتان هما «النصرانية والإسلام وأهلهما»3، والثانية «انحطاط المسلمين وسكونهم»4، وفي بعض مقالات أخرى كمقالة «القضاء والقدر»5. فمن المقالة الأولى أخذ الخوري هذا القول كله، بتحريف قليل:
«إن الديانة المسيحية بُنيت على المسالمة والمياسرة في كل شي وجاءت برفع القصاص واطّراح الملك والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها وترك أموال السلاطين للسلاطين والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية، بل والدينية. ومن وصايا الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر» ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهي لله وحده»1 .


ويتلو ذلك وصف لتقدم الأمم المسيحية بما يخالف تعاليم دينها ووصف لتأخر المسلمين خلافاًع لتعاليم دينهم. ولما كنا قد بلغنا إلى هذا المصدر الأساسي للأقوال والأفكار التي وردت في حارضة الخوري، فإننا سنتمم معالجتنا لموضوع الدينين المسيحي والإسلامي وأغلاط فهمهما وما ينتج عن ذلك من نظرات شاذة عن العلم والمنطق في الاجتماع والسياسة بناءً عليه، تاركين ما تبقى من حارضة الخوري، وهو معظمها، لعدم وجود أية وحدة فكرية فيها. فهي فسيفساء خطابية جمعت موادها «من كل وادٍ عصا». ونعود بعد الفراغ من النظر في هذا الموضوع إلى تناول تعريضه بالنهضة السورية القومية ومسألة «العروبة».


والذي يقابل كلام (العروة الوثقى) الملقى على عواهنه على ما أثبتناه في هذا الصدد في الحلقات الأخيرة من هذا البحث يجد أن أقل ما يقال فيه إنه اجتهاد مشوّه مشوش لا تدبّر فيه للإنجيل والقرآن. فالقول إن المسيحية جاءت برفع القصاص باطل وإنها جاءت باطّراح الملك والسلطة باطل، وإنها قالت بنبذ الدنيا وبهرجها باطل، إلا في وجوه مخالفة للفضائل الاجتماعية أيّدها فيها القرآن، وقد بيّناه.


المسيح قال: «لا تحكموا بحسب الظاهر ولكن احكموا حكماً عادلاً»2 وهذا لا يرفع القصاص، ولا يوجد في الإنجيل قول باطّراح الملك والسلطة. وأما أن المسيحية «وعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها وترك أموال السلاطين للسلاطين» فقد حوّره الخوري وجعله هكذا: «لا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة تسام الخسف والهوان، إلخ». وقد بيّنا فساده في الحلقات السابقة وأثبتنا أنه تأويل سطحي مغرض. على أن في هذا الكلام اجتهاداً في فهم قول المسيح للذين كانوا يبحثون عن جريرة يأخذونه بها ليهلكوه «أوفوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»3. ولكن ما أبعد هذا الاتجاه عن حقيقة ما عناه المسيح. فإن هذه الآية ليست مطلقة ومستقلة، بل هي متعلقة بحادث وعبارات سابقة. وذلك أن رؤساء الدين اليهود لمّا عجزوا عن أخذ المسيح بجرم من تعاليمه يهيجون الشعب به عليه صاروا يطلبون أن يجدوا فيه مخالف لسلطان الدولة الأجنبية الحاكمة ليسلموه إليها. وعلى هذه القاعد جرى الرجعيون في سورية ليسلّموا زعيم النهضة السورية القومية إلى سلطان الدولة الأجنبية الحاكمة بعد أن عجزوا عن أن يجدوا نقصاً في تعاليمه يثير الشعب عليه. والواقع الذي اقتضى قول المسيح هو كما يلي: «فهمّ رؤساء الكهنة والكتبة أن يلقوا عليه الأيدي في تلك الساعة ولكنهم خافوا من الشعب لأنهم علموا أنه قال هذا المثل عليهم. فرصدوه وأرسلوا إليه جواسيس يراؤون أنهم صدّيقون لكي يأخذوه بكلمة فيسلموه إلى رئاسة الوالي وسلطانه. فسألوه قائلين: يا معلم قد علمنا أنك بالصواب تتكلم وتعلّم ولا تأخذ بالوجوه، بل تعلم طريق الله بالحق. أيجوز لنا أن نعطي الخراج لقيصر أم لا. ففطن لمكرهم فقال لهم لماذا تجربونني؟ أروني ديناراً. لمن الصورة والكتابة؟ فأجابوا وقالوا لقيصر. فقال لهم أوفوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»1.


كل متدبر لهذه الآيات يجد أنها أبعد ما يكون عن الاجتهاد القائل بأن المسيحية تقول بوجوب «الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها». ولو كان هذا قصد تعليم المسيح لكان قاله في مواعظه ولكان أجاب السائلين على الفور «يجوز أن تعطوا الخراج» ولكنه لم يقل ذلك. بل قاله إنه يجوز رد دنانير قيصر المطبوعة صورته وكتابته عليها إليه. ولذلك لم يقدر اليهود أن يأخذوه بجرم ضد الدولة ولم يقدروا أن يدّعوا أو يقولوا إنه يعلّم الخضوع لسلطان أجنبي ويهيجوا ويهيجوا الشعب عليه. وهم إنما سألوه ليوقعوه في إحدى الجريمتين السياسية أو المناقبية فتغلب على مكرهم برفض الموافقة على دفع الجزية، ولكن من غير الوقوع في مكيدة أعدت له ليسلموه إلى المحكمة الأجنبية. والقرآن يقول: {والله خير الماكرين}2.


أما الإشارة إلى «المنازعات الشخصية والجنسية، بل والدينية» ففيها تشويه كبير. وقد رأينا أن المسيح ألقى نزاع العقائد بين الناس ولكنه علّم بالابتعاد عن المنازعات الشخصية حرصاً على وحدة المجتمع وسلامته. ولم يقل بترك الدفاع عن حقوق المجتمع تجاه المجتمعات الأخرى، وهو ما يرمي الاجتهاد المذكور إلى إيهامنا أنه قاله أو علم به وهو باطل كما رأيت.


ومن استعارات رشيد الخوري قوله في الدين الإسلامي إنه «مدرحي» أي «مادي روحي معاً»، فقد يظن القارى غير المطلّع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية للخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتاب (نشوء الأمم) لسعاده ومن شرح لمبادىءالحزب السوري القومي، فهو فكرة فلسفية اجتماعية للزعيم أبداها في مناسبات عديدة، وآخر ما أعلنه من أمر نظرته الفلسفية كان في خطابه في أول مارس/آذار سنة (1940م)، الذي نشر في (سورية الجديدة) في العدد (63) الصادر في (27) إبريل/نيسان من السنة المذكورة. قال سعاده:
«إن الحركة السورية القومية لم تأتِ سورية فقط بالمبادىء المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة. إن الحركة السورية القومية ترفض الإقرار باتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساساً للحياة الإنسانية، ولا تقف الحركة السورية القومية عند هذا الحد، بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي ــــ الروحي للحياة الإنسانية ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيــي ويعمر ويرفع الثقافة ويسيّر الحياة نحو أرفع مستوى».


إن المبدأ الذي جاء به سعاده هو نظرية فلسفية شاملة تتناول العالم وشؤونه الاجتماعية والاقتصادية، وشرحها يقتضي كتاباً على حدة يبحث في المبادىء الماركسية المادية لتنظيم المجتمع والمبادىء الفاشستية المازينية الروحية لتنظيم المجتمع، والصراع بين هاتين الفئتين من المبادىء ثم في مبدأ سعاده الذي يخرج من القاعدتين المتصادمتين بقاعدة واحدة عامة يمكن أن تُجمع عليها الإنسانية، وهو بحث واسع بل فلسفة كاملة في الاجتماع والتاريخ.


أخذ رشيد الخوري هذه الفكرة الفلسفية العظيمة التي لا يطيق عقله إدراك عمقها وأهمية القضايا الاجتماعية التي تشمل عليها، فمسخها وجعلها مجرد كلام سطحي بسيط يقصد به إيجاد مقابلة استبدادية بين الأديان الثلاثة، المسيحي والإسلامي واليهودي، فقال: «فالدين المسيحي دين تصوري لا ينفع الدنيا لانفصاله عنها ولا الآخرة لعدم حاجتها إليه، وهو نقيض الدين اليهودي الذي هو مادي صرف، أما الدين الإسلامي «فمدرحي» إذا صحّ النحت والتركيب، أي مادي وروحي معاً».


وليس غير الجهّال الذين أعطيت لهم حكمة خفيت عن الحكماء يفهمون ما هو محصّل هذا الكلام الاعتباطي، فإذا كان الدين الإسلامي مادياً وروحياً معاً فالدين اليهودي أيضاً كذلك وكذلك الدين المسيحي. فكل دين من هذه الأديان، بل كل دين على الإطلاق، يزعم أنه جمع شؤون الروح والجسد، وهذا لا يعني شيئاً جديداً في الدين والاجتماع إلا أن رشيد الخوري خصّ الإسلام به من دون المسيحية والموسوية ليوهم الغوغاء وناقصي العلم أنه عالم بهذه «الأديان» وأن له نظرة فيها لها طابع فلسفي. وهذا التقليد أقبح من تقليد السعدان للنجار الذي أدخل إسفيناً في خشبة، فشقّها وترك الإسفين فيها، فجاء القرد يقلده، فركب على الخشبة فتدلى، ذنبه في شق الخشبة، فرفع الإسفين ليقلد النجار فأطبقت الخشبة على ذنبه!
هاني بعل
للبحث استئناف

(الزوبعة)، بوينُس آيرس

العدد (27)،1/9/1941

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى