تحية الأندلس

«تحية الأندلس» هي القصيدة التي يعدها رشيد سليم الخوري من عيون قصائده الوطنية أو الحماسية، ولذلك حلّى بها جيد ديوانه (الأعاصير)، وقد استوحى الناظم موضوع هذه القصيدة من الحفلة التكريمية التي أحييت للشاعر الإسباني فرنسيسكو بليا اسبسه في مدينة سان باولو ــــ البرازيل، بمناسبة إلقائه محاضرات في تلك المدينة نوّه في بعضها بمآثر العرب في إسبانية وزعم أنه هو يتحدر من أصل عربي.


رأى رشيد سليم الخوري بعين شاعريته أن يتمثل الأندلس في شخص المحتفى به، حتى إنه نسي هذا الشخص بالمرة، ورأى كذلك أن يمثل هو سورية حتى نسي أنه هو المتكلم لا سورية، وإذن فالقصيدة، كما تصورها الناظم، أو كما أرادها تمثل وقفة سورية أمام الأندلس على مرأى ومسمع من العالم.


يفتتح الخوري قصيدته باسم السوريين فيقول، مخاطباً الأندلس1:
خبرينا كيف نقريك السلاما
طيب النشر كأنفاس الخزامى
والشذا المحيــي بسورية العظاما
غادر الشام وبيروت وهاما
في بلاد حرة لم تحنِ هاما
وأنوف لم يقبلن الرغاما
خبرينا كيف نقريك السلاما؟


هذا هو المقطع الأول من هذه القصيدة النادرة، وندورها ليس في جمالها، بل في قبحها، ولا في عزها، بل في ذلها. فقلما وقف إنسان يمثل أمته تجاه أمة غريبة وفاه بمثل هذا القول المخزي.


إن الناظم يقول لإسبانية: إننا نحن السوريين نخجل من أن نقف موقف المسلم عليك أنت الأمة الحرة التي «لم تحنِ هاماً ولم تقبّل أنوف بنيك الرغام» لا يوم افتتح أرضك جدودنا الكنعانيون الفينيقون ولا يوم افتتحها العرب، ولا يوم اجتاحها الوندال ولا يوم أخضعها الرومان، ولا يوم اكتسحها نابليون ولا يوم قهرها الإنكليز. ونحن، نحن الذين ملكنا البحار دهراً وسيطرنا على إسبانية في جملة الأرض الواسعة التي ملكناها، نحن الذين علّمنا أمم الأرض معنى الوطنية، نحن نحار كيف نتجرأ على الاقتراب منك والسلام عليك!!.


نحن لسنا إلا عبيداً، فللّه درّ رشيد سليم الخوري، الذي يمثلنا عبيداً إذ يقول1:
أمن «الميماس» حيث العلج رافع
راية حمراء تحميها المدافع؟
أم من الشام وطرف الشام دامع؟
أم من الأرز وليث الأرز خاضع؟
أم من الأردن والأردن ضارع
خاشع الرأس ذليلاً يترامى
أمن العبدان ترضين سلاما!!
أيتها الأمة السورية العظيمة!، أيتها الأمة السورية العظيمة التي ذقت لذة المجد ومرارة المحن التي تنزل بالأمم العظيمة! ما أسوأ طالعك بفئة زرية من أبنائك!
إن العبد الذليل لا يمكنه أن يمثل أمة حرة، فإنه يذلها.
كم من حر عظيم وقف وقفة أنصف بها أمة منكودة الحظ عاثرة الجد، وكم من عبد ذليل وقف وقفة ظلم بها أمة عظيمة وأذلها.


أجل، أيتها الأمة العظيمة، إن من سوء حظك ونكد الدنيا عليك أن تبني مجداً بلغ الجوزاء وتورثي أجيالك فخراً لم يكن قبله ولا حدث بعده فخر يضاهيه، فيقوم نفر من أبنائك ليسوا أهلاً بحمل اسمك ولا جديرين بالميراث الخالد الذي أورثته فيرتدون عليك في سقطة لك لم تنج منا أمة من الأمم العظيمة، ولكنها أعظم من جميع السقطات التي عرفت في التاريخ، ويطعنونك في أحشائك ويزيدون جراحك ويلطمونك على وجهك النبيل بأيديهم الأثيمة ثم يقفون أمام العالم منحازين عنك متنصلين من كل مسؤولية تقع عليهم، ناعين عليك سقطتك، غاسلين أيديهم من دماء جراحك وقائلين للناس: نحن رجال هذه الأمة وممثلوها ونحن نعلن للملأ أنها أمة عبيد!!.


ما أعظم آلامك أيتها الأمة العظيمة التي يقف ذليل منتسب إليك فيرميك بالعبودية ويضرع إلى الله ، هو الميت الوجدان، قائلاً1:
ألا ذوقتهم ألمي فثاروا فيا رباه لست أنا البلادا(!!)
رجل من رجال البطولة القزمية الميّتي الوجدان، العديمي الشعور بآلامك، يقف فوق جراحك النازفة ويقول: أنا هو المتألم أما هذه الأمة فليست في محنة بل هي أمة عبيد لا تستحق أن تصافح أمة حرة!!.


أيها القارى! إذا كنت حتى الآن لم ترَ عظمة نفس ذليلة في أوج ذلها وتسكعها، فانتبه لئلا يمر بك جلال هذه العظمة الذليلة التي يمثلها «الشاعر الذي ربح الخلود» في المقطع التالي من «تحية الأندلس» دون أن تراه2:
إن بالحمراء أرواحاً مطيفه
لم تزل تحمي ذرى القصر المنيفه
أرسلت من بينها عين الخليفه
نظرات هنّ لعنات مخيفه
لا يحيّيني سوى نفس شريفه!
أبعدوا لبنان عني والشآما
من ربوع الذل لا أرضى سلاما!


أرأيت، أيها القارى السيى الطالع ذلاً أعظم من هذا الذل؟، هل رأيت وتحققت الآن أن للذل عظمة وجلالاً، بعد أن كنت تتوهم أن العظمة والجلال هما للعزة والكرامة والبطولة والإباء؟


يقول هذا الناظم، الذي كان من سوء طالع سورية أن تسمح له عقلية سخيفة بتمثيلها في موقف مثل هذا الموقف، إن بالحمراء أرواحاً مطيفة لم تزل تحمي قصراً زال عز تلك الأرواح منه وأصبح من الآثار الباقية الدالة على عزّ الأمة التي طردت تلك الأرواح.


ويقول أيضاً إن عين «الخليفة» ترسل من بين تلك الأرواح نظرات هن «لعنات مخيفة» تقول: أبعدوا سورية عني فإني لا أرضى سلاماً من هذه البلاد أو الأمة الذليلة!


أما لماذا يجب أن يقول «الخليفة» هذا القول فمن الإبداع الذي يدل على عظمة الذل وذل العظمة، لأنه متى نهض قزم وأخذ يتبختر ويتخيل أنه جبار، فالعز يصير ذلاً والذل يصير عزاً!


إن «الخليفة» الذي يريد الناظم أن يرعبنا «بنظراته» يجب أن يغضي حياءً وخجلاً ويطأطى خشوعاً وانكساراً. فإن عظمة الحمراء لم تبلغ يوماً عظمة سلطان الفيحاء، فإذا كانت الحمراء سيطرت مدة على الأندلس فدمشق سيطرت على جميع الأقطار التي دخلها جيش إسلامي أو عربي، وعلى جميع الجيوش أنّى توجهت.


كيف يحق «للخليفة» الأندلسي أن ينعت سورية «بربوع الذل» وهو يرى ذل الحمراء بعد عزها، أليس الأجدر به أن يوجه «نظراته المخيفة» إلى قومه الذين فشلوا وخسروا ملكاً وبلاداً لم يكونوا جديرين بالاحتفاظ بهما.


ألا يعلم ذلك «الخليفة» أنه سوري أموي وأن الفضل في تبوئه عرش إمارته ومقام خلافته عائد إلى سورية التي كانت أساس الإمبراطورية الإسلامية والقوة الوحيدة التي تمكنت من أن تضم أطراف تلك الإمبراطورية المترامية الأطراف تحت كنفها، حتى إذا زال الأمر منها وقامت الدولة العباسية في بغداد رأينا تلك الإمبراطورية التي كانت شيئاً حقيقياً تتفكك وتتفسخ ويقبض على مركزها العجم والديلم والترك، بينما اللقاء لاهون بلبس عباءة النبي وبالشعراء والندماء والجواري والقيان؟


[وإذا لم يكن سورياً]1 أفلا2 يعلم ذاك «الخليفة» أن الأرض التي بنيت عليها الحمراء رأت عز الإمبراطورية السورية الغربية (قرطاضة) قبل أن رأت عز العرب وأنه فيها قام قواد سوريون لم يقهرهم قائد أو ملك إسباني قط؟
وأي خليفة هو هذا «الخليفة» الذي يبلغ به التهور حداً تسوّل له نفسه عنده إرسال تلك «النظرات المخيفة»؟ ألعله ذاك الذي قالت له أمه عند وداع غرناطة «ابكِ، أيها الأمير، كما يليق بالنساء، مُلكاً لم تقدر أن تحافظ عليه كما يليق بالرجال!».


إن الناظم الذي لا يعرف للخيال علاقة بالحقيقة يخاطب الأندلس كما لو كانت لا تزال في قبضة العرب، وينسى أنه يحيــي الآن أندلس الأمة التي طردت العرب.


وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يتابع خياله ويخاطب سورية كما لو كانت لا تزال قاعد الإمبراطورية الإسلامية، من عاصمتها تصدر الأوامر إلى قادة الجيوش والحكّام، وإليها تجبى الضرائب ومنها تسير الجيوش الظافرة التي تخضع حتى مكة نفسها؟
أخشفاً وسوء كيلة؟


أإلى هذا الدرك الذليل يريد أن ينزلنا «الشاعر الذي ربح الخلود» باختلال شعوره واضطراب خياله أم يظن أن بليا أسبسه عالم بالأمراض النفسية والعصبية وكذلك جميع القرّاء فيستخرجون الحقائق من فوضى خياله وشعوره؟
بعد بلوغ الأوج في المقطع المتقدم يأخذ الناظم يسير الهويناء في المقطع الآتي:

يا ابنة الزهراء يا أندلسيه
لم تزل فيك من المجد بقيه
لمعت فيها السيوف المشرفيه
ضاربات بزنود عربيه
فعلى مثلك لا تلقى التحيه
بأكف لم يجردن حساما
خبرينا كيف نقريك السلاما؟


ولعل الناظم يريد، بهذا المقطع، أن يقول إنه لما كان بعض الإسبان فيه عرق عربي بما حدث من الامتزاج في أثناء قيام الدولة العربية في الأندلس، وبما أن هذا البعض الذي له صلة بدم عربي هو اليوم جزء من أمة حرة، فهم يمثلون بقية المجد العربي الذي زال. وفي هذا الاستنتاج تأويل غريب ضرب بكل منطق عرض الحائط. فإسبانية الحرة اليوم ليست مدينة بحريتها لبقية المجد الذي يشير إليها الناظم، بل للزنود الإسبانية التي انتصرت على الزنود العربية. وبقية هذه الزنود في إسبانية لا تمثل مجداً، بل تمثل ما أصاب ذلك المجد، لأن مجد إسبانية الحاضرة قام على خذلان مجد الزنود العربية، إلا أن يكون سقوط غرناطة نتيجة خلاف بسيط بين أبناء أعمام وخالات وعمات، وليذهب التاريخ إلى جهنم!


وهذه البقية من المجد الزائل العائشة في كنف المجد الإسباني الحديث لا يجوز لنا أن نلقي عليها السلام، لأننا لا نعيش في إسبانية مساهمين في مجد الزنود الإسبانية!


ولكي تقبل إسبانية، التي يتخيلها الناظم، في اضطراب فكره، لا تزال معلوة بالسيوف العربية، أن نلقي عليها السلام يجب أن نرجع إلى الوراء، لا أن نتقدم إلى الأمام1:
فإذا بغداد عادت كالقديم
موطن الشعر وديوان العلوم
وإذا رنّ بها عود النديم
مرجفاً بالحب أعصاب النجوم
ومثيراً لوع الليل البهيم
ومديراً أدمع الفجر مداما
عند هذا سوف نهديك السلاما


لا يرى الناظم أن تنهض سورية وتبني مجداً جديداً كما كان لها مجد قديم، بالعكس يرى أنه يجب أن ترجع إلى عهد قديم. ومع ما في هذه الفكرة من العجز والخمول فلنفرض أنها فكرة جميلة، ولكن ماذا تمثل هذه الفكرة لنا نحن السوريين، الذين كان من نكد الدنيا علينا أن يقف هذا الناظم للتكلم باسمنا في مثل هذا الموقف؟. بل ماذا تمثل للعالم العربي إجمالاً؟


إن الرجوع إلى بغداد هو رجوع إلى عهد انحطاط الدول الإسلامية، فبينما كان الخلفاء في بغداد لاهين عن إدارة المُلك بقصائد الشعراء وأعواد الندماء، كانت عوامل التفكك تتناول أجزاء الإمبراطورية بالهدم. هذا من الوجهة العربية العامة، أما من الوجهة السورية فماذا تمثل بغداد لسورية؟، أتمثل شيئاً غير زوال سلطة دمشق وتأخر البلاد السورية عمرانياً وأفول نجم عزها؟


فكيف يعتز السوريون بقيام الدولة القديمة التي تمثل مجداً غير مجدهم، وقيام أمراء عليهم من الذين خاطبهم الحجاج في خطبته المشهورة التي أولها: يا أهل العراق!، ولو أن الناظم قال: فإذا الفيحاء عادت كالقديم، لكان هنالك وجه، ولكنه لا يرى الفيحاء تستحق هذه العودة. ولعل الزلفى لفيصل أو لغازي أو لبعض أهل الأمر في العراق هي التي دفعته إلى هذا التفضيل لبغداد على دمشق. فانظر إلى المنزلة التي يضع دمشق فيها1:
وإذا بيروت، أم النور، ولّى
عن سماها أثقل الرايات ظلا
وإذا السيف من الصحراء سلا
نافضاً عن أربع الفيحاء ذلا
وإذا لبنان بالأمر استقلا
فلبسنا العز أو متنا كراما
عند هذا سوف نهديك السلاما!


لا ندخل هنا في بحث سبب جعل ظل الراية الفرنسية أثقل من ظل الراية الإنكليزية وظل الراية التركية، ولكننا نتناول ما يتعلق بنفض الذل عن أربع الفيحاء، فالناظم بعد أن يجعل لبغداد حظ العودة إلى سالف عزها دون حاجة إلى سيوف الصحراء يجعل دمشق في مقام العجز عن النهوض بنفسها، فهي لا رجاء لها بنفض الذل إلا أن تفد عليها جنود الوهابية. وبهذا يكون الناظم قد بلغ ما قصد من الزلفى إلى أهل العراق وإلى ابن السعود، ولكن ألا تبقى الفيحاء ذليلة بعد أن يقع عليها ظل الراية العربية السعودية بدلاً من ظل الراية الفرنسية؟، أولاً تبقى سورية أمة ليس لها في نفسها زنود جديرة بالمجد؟، وكيف يجوز حينئذٍ أن يستأهل السوريون شرف إلقاء السلام على إسبانية وهم لا يزالون كما يقول فيهم الناظم، ظلماً وعدواناً، «أكفاً [بأكف] لم يجرّدن حساما»؟


وأما قوله «وإذا لبنان بالأمر استقلا» فظاهر فيه استرضاء اللبنانيين بإقراره فصل لبنان عن سورية، وهكذا يكون قد أرضى المسلمين العروبيين والمسيحيين المتلبننين و«ربح الخلود»!


إن هذه القصيدة الحقيرة «تحية الأندلس» كان يجب أن يكون عنوانها «نفس ذليلة تتسكع أمام الأندلس». ولقد رأى ما في هذه القصيدة من العيب والعار إلياس فرحات، الذي أخذ درساً في الماضي في وجوب المحافظة على الكرامة القومية، فنظم قصيدة بعنوان «تحية الأندلس» عارض فيها قصيدة الخوري، وعلت روحيته على حساب سقوط روحية الخوري، وقد جاءت قصيدة فرحات حسنة الروحية ولكنها لم تخرج في فكرتها عن استمرار بعض التقاليد المكتسبة.
هاني بعل
للبحث استئناف

،سورية الجديدة، سان باولو

العدد (105)، 22/3/1941

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى