حالتنا الداخلية تجاه بعض قضايا الخارجية

بينما المجموع السوري اللاقومي الواسع في القطر الأرجنتيني غارق في خضم الأغراض الفردية الحقيرة ومنشغل بالعداوات والنكايات الشخصية. وبينما أغنياء هذا الجيل القليل منصرفون إلى مادياتهم ومنهمكون بالإكثار من البهرجة الخارجية الباطلة. وبينما الحركة السورية القومية الاجتماعية تصارع، صراع المستميت، مفاسد هذا الجيل وتحارب بكل قواها المطامع الأجنبية في وطننا من غير أن تلاقي التقدير والتأييد الضروريين لإنجاح قضية أمتنا ووطننا بينما كل ذلك يجري في أوساطنا المنتشرة خارج سورية وفي وطننا عينه حيث تباع حقوق الأمة ومصالحها بوظائف الاستعباد يستولي عليها الذين يدوسون شرف قوميتهم بأقدامهم لينحنوا أمام الحكام الأجانب انحناء العبيد، تجري في العالم أمور لها خطورة عظيمة في تقرير مسائل حيوية لكياننا القومي ومرامي نهضتنا وحياتنا القومية الاجتماعية.

من أهم المشاكل الخطرة جدًّا التي سنواجهها بعد هذه الحرب المشكل الصهيوني الذي صار خطراً عظيماً مداهماً يهدد بالقضاء على معظم آمالنا.

إنّ مئات الفروع اليهودية المنتشرة في جميع أنحاء العالم المندمجة في المنظمة الصهيونية، تعمل عملاً واحداً منظماً، وترمي إلى غاية واحدة واضحة هي: الاستيلاء على سورية كلها وتحويلها إلى وطن قومي خاص باليهود وينشئون عيه دولة يهودية ذات سيادة واستقلال.

وقد تمكنت المنظمة المذكورة، في أثناء الحرب الماضية، وبينما السوريون منقسمون إلى عثمانيين وحلفائيين، من اكتساب مركز تجاه بعض الدول الكبرى ومن الدخول، جبهة واحدة منظمة، في مسائل الحرب الماضية دخولاً جعل لها منزلة، وصيّر اليهود والوطن القومي الذي رموا إلى انتزاعه من القضايا التي استحقت أن ينظر فيها مؤتمر الصلح سنة 1918 ويؤيد مطالب اليهود تأييداً صريحاً في المعاهدة التي أقرها ذاك المؤتمر. وفتحت أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، التي هي أول قسم من سورية يريد اليهود ابتلاعه وتنظيم شؤونهم واستعداداتهم طيه تمهيداً لابتلاع الأقسام الباقية، وأوصدت في وجوه أبناء البلاد المهاجرين أبواب العودة إلى وطنهم ‎وأهلهم. صار اليهودي الغريب ذا حق في فلسطين يطالب به وخسر السوري المولود في فلسطين حقه في وطنه.

وفي هذه الحرب العالمية الثانية أشعّت المناورات اليهودية وتدخلات اليهود الإنترناسيونية لتحقيق الغاية الصهيونية الرامية إلى انتزاع وطننا منا وتصييره ملكاً شرعيًّا لهم.

وقد مكّنتهم وحدتهم وخضوعهم لنظام واحد من اغتنام الفرص السانحة، ‏ والاستفادة من إمكانيات واسعة. فاشتد تدخلهم فى سياسة قضيتهم وفي سياسة أميركانية، ودافعوا عن قضيتهم وبذلوا في سبيل تأييدها بسخاء كبير، وتمكنوا من اكتساب الأنصار في مجالس بريطانية وأميركانية، واستغلوا اضطهاد الألمان وحلفائهم لهم في أوروبة، ليطلبوا فسح المجال لدخول جماعاتهم الشاردة إلى فلسطين، وتمكنوا باهتمامهم المتواصل من إحراز قسم غير يسير من مطاليبهم فدخل فلسطين عشرات ألوف اليهود وسنرى نحن السوريين، أنّ اليهود الذين دخلوا بلادنا وتوغلوا فيها في أثناء الحرب يزيدون على بضعة عشر ألفاً. وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا إنّ اليهود في فلسطين سيكونون عند نهاية هذه الحرب أكثر عدداً من السوريين في فلسطين وفي حالة تمكّنهم من المطالبة بالاعتراف بالدولة اليهودية في جنوب سورية.

‎ ‏ إهتمّ اليهود، في هذه الحرب بإحراز أشياء أخرى غير إكثار عدد اليهود الداخلين إلى جنوب سورية. ومن الأمور الجوهرية التي اعتنوا بها عناية كبيرة تأليف جيش يهودي يحارب مع جيوش الأمم المتحدة ويمارس أساليب الحرب الحديثة. وقد ألحّوا بإيجاد جيش يهودي مستقل بقيادته وأركان حربه لا يأمر عليه إلا قادة منه، ومع أنهم لم ينالوا هذه البغية التي تعادل الاعتراف بهم دولة قائمة، فقد فازوا بتأليف الجيش اليهودي وتخويل الفرق اليهودية رفع العلم اليهودي في المواقع التي تحتلها في شرق المتوسط. وفي السنة الماضية وقع نظرنا على صورة مرسلة من جزيرة قبرص نشرتها جريدة في هذه البلاد تمثّل جنديًّا يهوديًّا قائماً على المراسلة في هذه الجزيرة السورية وفوقه يخفق علم النجمة اليهودية!

والآن يجتهد زعماء المنظمة الصهيونية لبلوغ غاية لا تقلّ خطورة عما تقدم ألا وهي أن يكون لليهود تمثيل رسمي في مؤتمر الصلح المقبل يعرض فيه قضية اليهود ومطاليبهم، ويطالب بتحقيق غايتهم وبنصيبهم من الاشتراك في هذه الحرب.

وفي هذا الصدد وقفنا مؤخراً على برقية لشركة “رويتر” صادرة عن نيويورك في 14 يوليو/تموز الماضي وفيها أنّ الرئيس المنتخب حديثاً للمؤسسة الشاملة ليهود بولونية صرّح لأحد مراسلي الشركة الإخبارية المذكورة قائلاً: “سيعطى اليهود مركز بين ممثلي الأمم المتحدة حول طاولة مؤتمر الصلح”.

لم نجد لهذا التصريح الخطير تأييداً من مصدر مسؤول في أمة من الأمم المتحدة. ولكنه يدل على مبلغ اهتمام اليهود بهذا الأمر الخطير وشدة سعيهم لتحقيقه. وإذا فازوا به كان ذلك من أشد الأخطار تهديداً لسورية ووحدتها ومستقبلها.

في أول خطاب ألقاه الزعيم قى الوطن بعد عودته من المغترب وكان ذلك في اوائل سنة 1933 وفي حفلة افتتاح نادي الطلبة الفلسطينيين في الجامعة الأميركانية (أنظر ج 1 ص 398) قال إنّ سورية تواجه خطرين مداهمين الواحد في الجنوب والآخر في الشمال. الأول هو الخطر اليهودي والثاني هو الخطر التركي . وكان الزعيم أول سياسي سوري شرح وضعية سورية هذا الشرح، والأيام ترينا صدق نظرته وصواب رأيه وحسن خطته.

الخطر اليهودى على سورية يستفحل وبعد هذه الحرب سيكون شديد الوطأة وصعب الرد. والخطر التركي أيضاً يقوى ويستفحل، فإن المطامع التركية تتجه إلى سورية أولاً، لأن سورية مجزأة ومفككة الأوصال، ويسهل التلاعب بمآرب فئاتها اللاقومية العاجزة.

إنّ حالة سورية بعد هذه الحرب ستكون صعبة جداً. والذين يتغنون الآن “باستقلال” لبنان والشام هم على ضلال.

لا إنقاذ لسورية، ولا شق طريق لحياتها وارتقائها إلا بالحركة السورية القومية الاجتماعية ومبادئها ونظامها. فهل يستيقظ وجدان الغافلين ويقلع أصحاب الغوايات عن النكايات والمماحكات الشخصية، ويحوّلون قواهم للقيام بمجهود قومي واحد تذوب فيه العنعنات والعنجهيات ولا يبقِ إلا الإرادة الاجتماعية، أن نحيا وندافع عن وطننا وحقنا؟

ألا يريد أغنياؤنا أن يفهموا أنّ ميدان الحركة السورية القومية الاجتماعية هو الميدان الذي يليق أن يتباروا فيه بالسخاء والغيرة فيكسبون شرفاً لا يمكن أن يكسبوه بتلك التبرعات المرئية التي يبذلونها للحكومات والبلدان العديدة من أجل الشهرة الشخصية أو من أجل زيادة منافعهم المادية؟

إنه لا يزال في إمكاننا أن نعدّل مجرى الأمور لمصلحة أمتنا وحياتها ومستقبلها. والخطة لذلك مرسومة ولكن ينقصنا شيء جوهري هو: أن نلبي الواجب دائماً ونخضع للنظام دائماً، هو أن نسحق محبة ذواتنا ونحيي محبة جنسنا وطننا.

 الزوبعة، بوينُس آيرس،
العدد 79، 12/1944

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى