دروس قومية اجتماعية حقوق الجماعات ضمن النهضة

باشرنا في العدد الثاني والخمسين من الزوبعة، العناية بناحية جديدة من الدروس القومية الاجتماعية وفاقاً للأسلوب المباشر (ص 220 أعلاه).
ولكننا اضطررنا لقطع الكتابة في هذا الموضوع التوجيهي الهامّ لنفسح المجال لمواضيع أخرى وللنظر في بعض الأعمال الجديدة العارضة.
وإننا نعود الآن إلى النقاط الموضوعة تحت المعالجة.

قلنا في مقال العدد المذكور إنّ بعض الاقتراحات والانتقادات التي وردت إدارة الزوبعة من بعض القوميين الاجتماعيين المهتمين بشؤون الحركة القومية الاجتماعية كانت اقتراحات وانتقادات اعتباطية.
ولإيضاح هذا الوصف العام بدقة نقول إنّ الذين أوردوا تلك الاقتراحات والانتقادات لم يبنوها على درس عام لنفسية المجموع وحاجاته.
وهذا ما عنيناه بقولنا إنّ المنتقدين ليسوا من أهل الاختصاص. فالذين اقترحوا أو أشاروا بعدم ذكر أسماء أشخاص حين درس حالة مجموعنا وصعوبات الحركة القومية الاجتماعية والسموم الفكرية التي يبثها أهل الفساد والرجعة والنفاق يريدون، على ما يظهر، أحد أمرين:
إما أن «تترفع» الزوبعة عن تناول أشخاص لا قيمة ثابتة لعلمهم أو أدبهم، ولا مكانة مكينة لهم عند الوجهاء أو عند فئة قليلة من الخاصة، وإما أن تقتصر الزوبعة على ما تحتاجه الخاصة فقط وترك حاجة العامة الكبرى بدون عناية. فنتناول هذين الوجهين كليهما.

«الترفع» في مثل المواضيع والحالات التي عرضت لها الزوبعة قد يكون معناه أن نعصب عيوننا ونلتفت ذات اليمين وذات اليسار ونقول:
«لا يوجد إيليا أبي ماضي ولا يوجد عبد المسيح حداد ولا يوجد رشيد الخوري، الخ». والحقيقة أنّ هؤلاء الأشخاص ومئات من أمثالهم موجودون.
والذي ساعدهم على أن يوجدوا ويكونوا أحجار عثرة في سبيل الحركة القومية الاجتماعية ومفسدين لأذهان قسم كبير من عامة السوريين المغتربين وعدد غير قليل من شبه الخاصة، هو تركهم وشأنهم وعدم الدلالة على أغلاطهم في حينها فاكتسبوا مع الأيام صيتاً ما كان يكون لهم لولا الإهمال والفوضى اللذان استغلوهما إلى أقصى حد.
فأبو ماضي، مثلاً صاحب جريدة يومية يقرأها مئات من الناس، على الأقل. فهل يريد صاحب اقتراح إغفال الأسماء أن نترك هؤلاء المئات في ظلمة أبي ماضي من أجل مبدأ «الترفع» العقيم؟ وإذا كان كثير من الناس الذين اتصل بهم «القروي» في سان باولو وعاشرهم قد خبروه وعرفوا عجزه وضعفه فماذا يفعل بمئات الناس خارج سان باولو الذين صورت لهم صحافة التدجيل «القروي» بصورة «شاعر الوطنية؟» هل نقول:
هؤلاء الناس ليسوا من الأمة، أو ليسوا شيئاً وعليهم أن يتبعوا فئة سان باولو «على العمياني»؟
إنّ الأشخاص الذين ذكرتهم الزوبعة كانوا موجودين وجوداً يؤثّر على تطور الاعتقاد في أوساط هي جزء من مجموع الأمة.
وإذا كان وجودهم، بهذا المعنى، قد أصبح قليل الشأن في المدة الأخيرة، فالفضل عائد إلى أنّ الزوبعة لم «تترفع» عن ذكر أسمائهم وشأنهم.
ومئات الناس المنخدعين «بوطنية» أولئك الأشخاص و«دأبهم» كانوا موجودين أيضاً.
وإذا كان قد قلَّ عددهم مؤخراً فالفضل عائد إلى أنّ الزوبعة لم تهمل حاجتهم إلى إيضاح المسائل وعلاقة الأشخاص بها، ولم تقل «من هم هؤلاء المنخدعون حتى نلتفت إليهم؟ هم لا شيء».

أما أن تقتصر الزوبعة على المواضيع والأبحاث التي تهمّ الخاصة فقط من أهل العلم والفكر والرأي، فيمكن الإدارة القومية الاجتماعية أن تنظر فيه بشرط أن يكون هذا الاقتراح مصحوباً باقتراح إنشاء جريدة أخرى للمسائل الشعبية التي تحتاج العامة لإيضاحها من غير ألغاز مبهمة.
فإذا أمكن، مادياً، إنشاء جريدة أخرى أسبوعية أو يومية أو مرتين في الشهر وقام عليها كتّاب يعنون بالمسائل والحوادث التي تشغل عقول العامة وتقرب كثيراً من إدركها حينئذٍ يصير إسقاط بعض المواضيع من الزوبعة ممكناً من غير ضرر أو إجحاف بحقوق العامة على مؤسسات النهضة القومية الاجتماعية الإذاعية.
وبدون هذا الشرط لا يمكن قبول اقتراح مقترح ترك الأسماء إلا بالتنازل عن بعض أهداف الإذاعة القومية الاجتماعية الهامّة.

هذا التحليل يشرح مع عنيناه سابقاً بقولنا إنّ الزوبعة هي لجميع الطبقات والعقول الموجودة ضمن شعبنا وفي جماعتنا المغتربة.
والقوميون الاجتماعيون الفاهمون والأذكياء يجب أن تكون لهم روح الرفق بأبناء أمتهم الذين ليس لهم مثل ذكائهم، وفهمهم، وأن يشعروا بوجوب انتظارهم قليلاً في معارفهم وإدراكهم لكي لا يحدث انقطاع تام بين أهل العلم والرأي، وعامة الشعب الذين هم جسم الأمة.

وردنا مؤخراً اقتراح من الأمين الدكتور فخري معلوف بتحويل الزوبعة إلى مجلة للأبحاث الرئيسية الهامّة. وقد كانت الإدارة القومية الاجتماعية العليا فكرت بإنشاء مجلة حين كانت سورية الجديدة لا تزال في الوجود ولم يكن صدر قرار حكومة البرازيل بمنع الصحف الأجنبية اللسان، ولم يكن حدث مشكل إدارة إنشاء سورية الجديدة.
ولو كانت تلك الصحيفة بقيت لكان الأرجح أن تكون الزوبعة نشأت بشكل مجلة للأبحاث العلمية الهامّة.
الحركة القومية الاجتماعية تحتاج للأبحاث الفكرية التوجيهية ولكنها تحتاج أيضاً لمحاربة الدعاوات الفاسدة وأصحابها في المعارك السياسية الجارية.

إنّ مشروع إيجاد مطبعة كاملة العدة ورأسمال كافٍ لتسيير المطبعة كان يضمن إيجاد مجلة وجريدة والفصل بين الأبحاث التقنية والفكرية الراقية، والشؤون الشعبية العملية.
ولو أنّ أصحاب الاقتراحات والانتقادات المشار إليها آنفاً صرفوا كل همّهم لتأمين مشروع المطبعة لكان تحقيق هذا المشروع أغنى عن اقتراحاتهم غير المدروسة على ضوء الحقيقة.
ولكنهم، بدلاً من أن ينصرفوا بكليتهم إلى درس تحقيق هذا المشروع الحيوي، الذي كان عرض عليهم، والسعي لما فيه تقدُّم الحركة ورسوخ العقيدة في بيئتهم وحدود صلاحياتهم، أخذوا يتبادلون الآراء في صواب عرض الزوبعة لأسماء بعض الأشخاص أو عدم صوابه، ثم في الكتابة إلى إدارة الزوبعة وإلى زعامة الحزب في هذه الانتقادات غير الدراسية وغير الاختصاصية.
وهذه الكتابة تعني صرف وقت طويل وجهود كثيرة لا طائل تحتها غير إقناع هؤلاء الرفقاء بأن ما تنشره الزوبعة يكون دائماً مبنياً على أسباب موجبة، لا لزوم لحمل الإدارة دائماً على شرحها لهم ولكل رفيق غيرهم يظن أنه يقدر أن يجادل الإدارة في مثل هذا الأمور المبنية عندها على دروس نفسية وسياسية، وعلى معلومات ليس من اللازم توقيف العمل لشرحها لمن يجب أن تكون لهم الثقة بمقدرة الإدارة على تطبيق ما يلزم منها.
وهم يجرون في ذلك على قاعدة ضارة روحياً وعملياً، وهي هذه:
إنّ جهل الأشخاص أسباب بعض المسائل هو سبب كافٍ للظن أنّ الإدارة أخطأت أو أنها لم تصب الأفضل. وأضرار هذه القاعدة الروحية كائنة في عدم الثقة بمقدرة الإدارة.
وأضرارها العملية هي في صرف جهود في مكاتبات تكلف الأشخاص والإدارة وقتاً وتعباً لإيضاح ما ليس واجباً إيضاحه لو كان كل فرد يتمم واجباته هو بروح الثقة ويترك للإدارة مسؤولياتها والوقت الكافي لتظهر نتائج خطتها.

في بعض هذه الظروف كتب الزعيم إلى أحد المسؤولين عن بعض الفروع يلفت نظره إلى أفضلية الانصراف بالكلية إلى المشاريع العملية التي هي ضمن دائرة صلاحياته والتي أرسل إليه تكليفاً بها.
وكانت عبارة الزعيم هكذا ــــ «هذه الأمور تحتاج إلى عناية واهتمام وسعي ومثابرة وقدح زناد الفكر واستنباط الحيل، وهذه تتطلب الانصراف بالكلية إلى هذه النواحي» أما جواب المكلف المشار إليه فكان هكذا:
«لكن، يا زعيمي، أين الشخص الذي بإمكانه القيام بمثل هذا العمل؟».

الظاهر من جواب المكلف أنه أساء فهم توجيهات الزعيم. فقد يكون أوّل «الانصراف بالكلية» بترك كل عمل آخر لتحصيل المعاش.
وهذا غلط كبير في الاستنتاج.
فالتوجيهات هي، كما يستدل بالقرينة وحدود الموضوع، الانصراف الفكري بالكلية، بعد الفراغ من الأعمال المعاشية البحتة، إلى المسائل العملية التي هي ضمن صلاحيات المسؤول، بدلاً من تجزئة القوى الفكرية والوقت الباقي من عمل الكسب في التدخل في مسؤوليات دوائر عليا وتكليف هذه الدوائر شرح تفاصيل كل خطة تقررها.

أما العناية والاهتمام والسعي والمثابرة وقدح زناد الفكر واستنباط الحيل فيجب أن تكون في مقدور كل مكلف ومسئول على نسبة أهمية وظيفته ومؤهلاته. وأما مقدار ما يبذله كل مكلف منها ومبلغ نتائج هذا البذل فينظر فيهما ويمكن أن تجري عليهما محاسبة.
لأن من يترك واجباته ليهتم بواجبات غيره ليس مقصراً في العناية والاهتمام والسعي والمثابرة وقدح زناد الفكر واستنباط الحيل، بل مسيئاً استعمال هذه الخصال والحركات وواضعاً إياها في غير مواضعها. وتوجيه الزعيم هو لحصرها دائماً ضمن الصلاحيات والمسؤوليات المعينة والمقيدة بالنظام.

إنّ إبداء الرأي بحريّة هو من حقوق كل عضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولكن إبداء الرأي يجب أن لا يكون معناه التدخل من الأدنى في صلاحيات الأعلى ومسؤولياته حتى ليكاد يشعر الأعلى أنه مسؤول تجاه الأدنى، والعكس ما يجب أن يكون.
وهذه نقطة أساسية جوهرية في طبيعة النظام مهما كان شكله.
فيا ليت المسؤولين ينصرفون بالكلية إلى إتمام شؤون مسؤولايتهم قبل النظر في شؤون مسؤوليات غيرهم، فتكون حركاتهم وأعمالهم أفْيَد للقضية، حتى ولو كانت انتقاداتهم للزوبعة في محلها، فمن الثابت أنه لا يمكن منع الغلط بالكلية لا في الفرد ولا في المجموع.
وإنما تقلُّ الأغلاط إلى أدنى حد ممكن بانصراف كل ذي شأن إلى العناية بشأنه والسهر عليه وإعطاء النتائج المطلوبة أو المنتظرة منه.

ويجب أن لا ينسى بعض المهتمين أنهم أحياناً يقترحون اقتراحات هي من باب استباق الأمور أو تعجيلها.
فبعض المسائل تكون مقررة في الدوائر العليا ويكون مقرراً ترتيب تنفيذها، فتأتي بعض الاقتراحات مطالبة بها من غير خطة ولا قاعدة وهو التشويش الإداري والنظامي عينه.

لا يدخل في هذا النطاق باب المعلومات. فالمعلومات عن الحوادث الجارية وردّ الفعل لبعض الخطط الموضوعة في مجرى التنفيذ هو أمر لازم واجب يُسأل عنه المكلفون على نسبة صلاحياتهم ودائرة أعمالهم.

إنّ الزوبعة هي الجريدة القومية الاجتماعية لجميع الأوساط ولكافة الطبقات الفكرية. ولا يمكن الإدارة أن تجعل طبقة من هذه الطبقات تستأثر بهذه الجريدة قبل أن توجد صحيفة أخرى تسد حاجة غير طبقة الخاصة.
والذين يرغبون في هذا الارتقاء التقني عليهم الانصراف إلى تحقيق نصيبهم من المجهود العملي المنتج، بدلاً من إمطار الإدارة بالاقتراحات الاعتباطية التي لا نتيجة لها غير إرهاق الإدارة وتشويش أعمالها.

أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،

العدد 58، 15/12/1942

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى