ذكرى الدكتور خليل سعاده لعشرة أعوام على وفاته

في العاشر من شهر أبريل/نيسان سنة 1934 توفي الدكتور خليل سعاده مغترباً في سان باولو، البرازيل.

كان الدكتور خليل سعاده جباراً من جبابرة الفكر. علا بتفكيره عن عصر أمته علوًّا كبيراً، ولذلك تقطعت الأواصر النفسية بينه وبين أمته، أو بالحري بينه وبين الجيل الماضي والجيل الحاضر من أمته، حتى أنه لم يكد يمر عقد واحد من السنين على‏ وفاته حتى صار نسياً منسيًّا لا يجري ذكره إلا على ألسن أفراد قلائل رأوا عظمته ولم يفقهوا إلا لمحات منها!

تخرّج هذا الكاتب والمفكر السياسي والاجتماعي الكبير دكتوراً في الطب من “الكلية السورية الانجيلية” التي كانت أول معهد علمي عصري في سورية، والتي صارت بعد الحرب الماضية “الجامعة الأميركانية في بيروت”. ونبغ في هذا العلم حتى أنه كان يُختار لإلقاء محاضرات فيه على الطلبة وهو بعد طالب. وقبل ان يُكمل دروسه الطبية حدثت حوادث سياسية دلت على فطرته الممتازة، من أهمها حادث الانشقاق الذي جرى بين بعض أساتذة معهد الطب في الكلية المذكورة وبقية عمدة الكلية بسبب النزاع على اللغة التى يجب أن تكون الرسمية لتعليم الطب. فبعد أن سارت الكلية المذكورة على قاعدة تعليم الطب باللغة العربية والتي هي لغة السوريين في هذا الزمن ارتأى معظم رجال إدارتها الأميركان أن يجعلوا اللغة الإنكليزية لغة التعليم لهذا الفرع العلمي، فتصدى لهذا الرأي الأستاذ الأميركاني الكبير المقسرين الدكتور فنديك الذي أحب السوريين ولغتهم وبلادهم ووهب بقية حياته لسورية وأدبها وتألّب حوله فريق من طلبة الطب في طليعتهم الطالب خليل سعاده وأحدثوا ما عرف باسم “الثورة المدرسية” ضد قرار عمدة الكلية. وعُرف الطالب خليل سعاده ‏بقوة منطقه وفصاحة لسانه في المواقف الخطابية فصار خطيب الثورة التي استفحل‎ ‏أمرها وأوجدت الانشقاق الفعلي. فصار حزب اللغة العربية يدرس الطب على فنديك ‏منفصلاً عن بقية طلبة الكلية الذين ظلوا موالين لها. ولكن ضعف النفوس ووهن‎ ‏العزائم وفقد المطالب العامة الكبرى جعلت عدداً من طلاب فريق الثورة يرتد. وكان‎ ‏من الذين وافقوا قرار عمدة الكلية من الطلبة والمتخرجين الدكتور يعقوب صروف‎ ‏والدكتور فارس نمر صاحبا مجلة المقتطف. وشيئاً فشيئاً فقدت صفوف الثورة‎ ‏وحدتها وانحلّت.‎

‏تلا هذا الحادث أمر تسليم الدكتور بوست مجلة الطبيب، التي كان يصدرها في‎ ‏بيروت، إلى الشيخ ابراهيم اليازجي والدكتور خليل سعاده والدكتور بشارة زلزل.‎

‏في مجلة الطبيب ظهرت مواهب للدكتور خليل سعاده العلمية والأدبية. فأنشأ‎ ‏المقالات العلمية الجليلة واشترك اشتراكاً فعلياًّ بيّناً في تلك المناظرة القوية العنيفة بين‎ ‏مجلة الطبيب في بيروت ومجلة المقتطف في القاهرة التي لم تنتهِ إلا على أثر رسالة‎ ‏تهكمية لاذعة أنشاها الدكتور خليل سعاده في اسطمبول وهو يقدم امتحاناته الطبية‎

‏لدى المكتب ‏الطبي العثماني وطبعها هناك وفيها رد قوي على ما ورد فى مقالة في‎ ‏مجلة المقتطف من القدح ‏في صديقه إبرهيم اليازجي وفيه.‎

‏وفي هذه المجلة استحكمت الصداقة بينه وبين العالِم اللغوي الطيب الأثر الشيخ‎ إبراهيم اليازجي وتماشياً‏

‏في الأسلوب الذي طبع مزاياه على أدب اللغة الحديث.

بعد هذه الأمور وجّه الدكتور خليل سعاده عنايته إلى المشاريع النافعة لوطنه فسعى لإنشاء مصح للسل في لبنان. ومُثّلت في بيروت رواية لشكسبير أرصد ريعها لتحقيق مشروع المصح. فجرّت أمور الرواية إلى اصطدام داو مع قنصل فرنسة في بيروت. السبب هو رفض قنصل فرنسة دفع ثمن التذكرة التي عرضت عليه وقبلها قبل ‏موعد الحفلة. وبعد الحفلة أخذت اللجنة المالية تسعى لقبض ثمن التذاكر التي بقي تحصيل ثمنها لبعد الحفلة. فلما طولب قنصل فرنسة بثمن التذكرة قال إنه لا يدفع لأنه عدّ الأمر دعوة شرفية له. فعادت اللجنة إلى الدكتور خليل سعاده وأخبرته بجواب القنصل فأعاد الدكتور إلى القنصل برد صريح خلاصته أنه لم توجه إلى قنصل فرنسة أية دعوة رسمية ليحضر الحفلة بصورة شرفية، وأنه يجب عليه أن يدفع ثمن التذكرة المقيدة في جدول المبيع. فأصر القنصل الفرنسي على موقفه وأصر الدكتور خليل سعاده على موقفه واحتدم الجدل بين الفريقين. وأخيراً تشكلت لجنة سعت للتوفيق بينهما وبعد أن زاررت اللجنة القنصل المذكور عادت تعرض على الدكتور خليل سعاده التساهل تجاه تصلب القنصل الفرنسي منعاً لحصول “عواقب سيئة” فأثار هذا الطلب غضبة الكرامة في الدكتور خليل سعاده وقال لسعاة الصلح إنه لا جواب عنده غير ضرورة تأدية القنصل ما عليه.

رأى الدكتور خليل سعاده أنّ موقف قنصل فرنسة قد تعدى مسألة حساب مالي بسيط كان يجب أن يصفّى في المقابلة الأولى مع أحد أفراد اللجنة إلى مسألة نفوذ أجنبي وامتيازات أجنبية لا تريد أن تراعي كرامة الوطنيين وحقوقهم وشعورهم، فرأى أنّ صدم النفوذ الأجنبي ورفع شعور الكرامة الوطنية لازمان وضروريان. فأنشأ كتاباً ‎مفتوحاً وجهّه إلى قنصل فرنسة وسلّمه إلى المرحوم خليل سركيس صاحب جريدة لسان الحال التي كانت أهم جريدة في سورية في تلك الأيام. فلم يقبل السيد سركيس، على الفور، أن ينشره وقال للدكتور خليل سعاده متعجباً “أضد قنصل فرنسة، يا دكتور؟” وبعد أيام من التفكير والاستشارة قَبِل السيد خليل سركيس أن ينشر الكتاب المفتوح الذي أحدث ضجة عظيمة في بيروت وجميع أنحاء سورية.

كان ذلك الكتاب أول صدمة من سوري وطني لذي نفوذ أجنبي في صميم نفوذه. كان الأمر عظيماً جدًّا. فقد كانت فرنسة “حامية المسيحيين” في سورية. وكان شائعاً عند الموارنة الاعتقاد أنهم فرنسيو الأصل من بقايا الصليبيين، وأن فرنسة تحنّ إليهم كما يحنّون إليها. وكانت السياسة الفرنسية ترغب في تقوية هذا الشعور واستغلاله وكان على ممثليها في سورية أن يعملوا كل ما في وسعهم لإلقاء هيبتها في النفوس. وكانت تركية في حالة “الإنسان المريض”.

كان من يقف في وجه قنصل فرنسة في ذلك الزمن كمن يقف في وجه الآلهة. لم يطل الوقت حتى بلغت مسامع الدكتور خليل سعاده أنّ الإكليروس الماروني يتآمر بالاتفاق مع قنصل فرنسة على حياته فلم يعبأ بهذه الإشاعة إلى أن دعاه متصرف جبل لبنان (والأرجح أنه كان مظفر باشا) وأطلعه على خطورة المسألة التي أثارها كتابه المفتوح إلى قنصل فرنسة ورجاه أن يخرج من البلاد مدة لأن حالة الدولة العثمانية لا تسمح لها بمواجهة مشاكل سياسية جديدة!

حمل تصريح متصرف جبل لبنان الدكتور خليل سعاده على مغادرة سورية فسافر إلى مصر وأمَّ القاهرة وانضم إلى مجالس عليّة أدباء سورية ومصر الموجودين في القاهرة، فاجتمع هناك بأصدقائه الأدباء والعلماء كالشيخ إبراهيم اليازجي والدكتور شبلي شميل وغيرهما.

فى مدة قصيرة سطع نور أدب الدكتور خليل سعاده وعلمه في مصر كما كان سطع في سورية فذاع صيته وأقبل الناس على مقالاته في جريدة الاهرام وغيرها. وقد جعله نبوغه على اتصال بمعظم رجال السياسة المصريين فكان صديقاً لعرابي باشا الشهير ولسعد زغلول باشا وغيرهما.

في مصر كثر إنتاجه الأدبي والعلمي فألّف قاموس سعاده الانكليزي – العربي الذي شهدت جمع المؤسسات العلمية في سورية ومصر أنه أدق وأكمل ما جمع من مفردات اللغتين واصطلاحاتهما في جميع فروع العلوم والفنون. وألّف كتابه الطبي في السل الرئوي وعلاجه والوقاية منه وكان يريد أن يكمل عمله فى ترجمة مفردات اللغتين العربية والإنكليزية ومصطلحاتهما بوضع قاموس عربي – إنكليزي. ولكنه سافر إلى الأرجنتين في أوائل سنة 1914 ونشبت الحرب العالمية تلك السنة فبقي في الأرجنتين كل مدة تلك الحرب.

في الأرجنتين صرف عنايته إلى القضية الوطنية والمسائل السياسية والاجتماعية. فأنشأ في هذه البلاد المجلة وألّف أبحاثاً جليلة نشرها فيها وتناول في هذه الأبحاث قضايا ذات خطورة عظمى للتطور الاجتماعي والتقدم الفكري، وأبدى من الآراء السديدة والنظريات الصائبة ما يُعدّ مع ما أضافه إليه في البرازيل، أفضل ما كتب الدكتور خليل سعاده وخلّفه لأبناء أمته ليستفيقوا ويستنيروا.

من القضايا الاجتماعية القومية التي حللها تحليلاً لم يسبق له نظير قضية النزاع الديني والتعصب الديني المميت عند السوريين، ومن أهم القضايا الاجتماعية على الإطلاق، التي وضع في بحثها قواعد نظرية خطيرة الاستبداد أو الطغيان وطبائعه وعواقبه في المجتمع الانساني. وفي بحثه الجليل “فلسفة الجوع” أظهر مدى نتائج الاختلال الاقتصادي وتولّد القوة الساحقة من الضعف البالغ أقصى حدوده. وكتب في المجلة والجريدة التي أصدرها، فيما بعد، في البرازيل، مقالات عديدة ليوقظ الشعور الوطني في السوريين، وعالج مسائل سورية السياسية، ووصف تطوراتها الأخيرة منذ الحرب العالمية الماضية أبدع وصف، خصوصاً في سلسلة مقالاته “سورية وفرنسة أثناء مؤتمر الصلح”.

وقد ذاع صيت الدكتور خليل سعاده في انكلترة حيث طبع مؤلفه بالإنكليزية. ‏قيصر وكليوبطرا. وهو رواية تاريخية عرض فيها لأدق المسائل والنظريات السياسية والادارية والأخلاقية التي وضعها مقتل القائد الرومي، يوليوس قيصر، على بساط البحث. وقد تحدَّى في تلك الرواية رأي شكسبير المقدس عند الإنكليز وفضّل رأي غوته في مقتل يوليوس قيصر عليه وحلل، في سياق الرواية، سيرة يوليوس قيصر تحليلاً جلا فيه آراء ونظريات فى غاية الأهمية. واهتمت الصحافة الإنكليزية لذاك المؤلف اهتماماً عظيماً، وعقدت فى التعليق عليه المقالات الطويلة.

قتل وسط السورية المغتربين المادي روحية الدكتور خليل سعاده العظيمة وعلمه وأدبه، وطمس نبوغه ودثر أثره. وقد كان الدكتور خليل سعاده يتوقع هذه النتيجة فطالما تأوه من عمالة “الشرقيين” وشراستهم، وشبّه الشرق بالغول الذي يفترس بنيه، لأن السوريين كانوا ينهشون نوابغهم بأنياب أنانياتهم ومخالب الغايات الدنيئة التي عشقتها نفوس جيل فاسد.

مات الدكتور خليل سعاده، قبل أن تنفد قواه ويرزح جسده، مغترباً في البرازيل، نافخاً، حتى آخر نسمة من حياته، فى بوق اليقظة والطموح القومي، يائساً من الجيل الذي حوله، الذي له آذان ولا يسمع وله أعين ولا يبصر!

مات الدكتور خليل سعاده في العاشر من أبريل/نيسان سنة 1934 غير عالم أنّ رجاءه في أمته ووطنه كان أعظم أثراً من يأسه من جيله!

‏لم يتح للدكتور خليل سعاده أن يرى رجاءه يتحقق بنشوء النهضة السورية القومية الاجتماعية التي أنشأت لسورية جيلاً جديداً ووضعت قواعده حياة جديدة. ولكن روحية الدكتور خليل سعاده، ذاك الرجاء العظيم الذي خفق به قلبه، تلك المطامح النبيلة التي جرى بها قلمه، هاتيك الأخلاق الكريمة التي ملأت فضاء حياته، لم يعد ممكناً أن تضيع، وتهلك، لأن الأمة السورية قد استفاقت وأخذت تميّز بين من أراد لها الحياة الجيدة ووثق بجودة جوهرها ومن أراد لها الموت وأخذ يكرس باليأس منها!

الزوبعة، بوينُس آيرس،
العدد 75، 15/4/1944

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى