ذكرى سوريَّيْن عظيميْن – الدكتور خليل سعاده – جبران خليل جبران

في العاشر من أبريل/نيسان اجتمعت ذكرى وفاة عظيمين من عظماء الفكر السوري مبشرين بمجيء النهضة السورية القومية سباقين لها هما: العلاّمة الوطني ــــ السياسي الدكتور خليل سعاده والأديب الروحي جبران خليل جبران.
في المقالة الافتتاحة لِــ«سورية الجديدة» الصادرة في عددها الأول، ذُكر هذان النابغتان وذُكر معهما العلاّمة المؤرخ الدكتور فيليب حتي، وحُسب الثلاثة طلائع للنهضة السورية القومية. واليوم نضيف إليهم نابغة رابعاً أظهر التنقيب الجديد أنه يستحق أن يحسب من طلائع النهضة القومية هو المفكر الاجتماعي فرح أنطون. فهؤلاء النوابغ الأربعة عملوا مستقلين، ونشروا أبحاثاً تستحق الدرس والعناية نظراً للقيمة الفكرية العالية التي تضمنتها.

نقتصر اليوم على كلمة مختصرة في النابغتين اللذين نتناولهما الآن معاً بمناسبة ذكرى وفاتهما في يوم واحد. فجبران خليل جبران توفي في العاشر من أبريل/نيسان سنة 1931 والدكتور خليل سعاده توفي في العاشر من أبريل/نيسان سنة 1934، أي بعد جبران بثلاث سنوات تماماً.

امتاز جبران خليل جبران بكتاباته الروحية الرامية إلى عتق النفوس من عبودية التقاليد الاجتماعية ــــ الدينية المتحجرة. واتّخذ نفس الفرد مدار اهتمامه فأنشأ قصصه القصيرة اللطيفة كــ«خليل الكافر» وغيرها. وأظهر في هذه القصص ظلم التقاليد وعماوتها وانحطاط المؤسسات الدينية. وجعل أسلوبه موسيقى تدعو النفوس إلى اليقظة والانعتاق.

كتب جبران خليل جبران قصصه بلغته القومية. فوصلت كتاباته إلى قسم من الناشئة التي تلقتها بنفوس محتاجة إلى اليقظة فأيقظتها، وأرتها الظلمة التي هي فيها وحبّبت إليها الخروج منها. ومع أنّ جبران وقف عند هذا الحد فإن أهمية تعيين العتمة هي أهمية عظيمة الشأن. ومن هذه الناحية أمكن تعيين جبران خليل جبران كسبّاق أمام النهضة السورية القومية.

كان لجبران خليل جبران تأثير عظيم على قسم من شبان بلاده، سورية، فنبّه الشعور الروحي فيهم وجعلهم يتوقون إلى عهد جديد. ولكنه أخيراً تخلى عن هذه الرسالة وطلب المجد الشخصي. فترك الكتابة بلغة السوريين وانصرف إلى الكتابة بلغة الأميركةن الذين هم أسرع من السوريين إلى التقدير وأقدر منهم على شراء الكتب. فأظهر من هذه الناحية ضعفاً روحياً عظيماً، وهو الرجل الروحي الذي أراد الانتصار بأدبه على المادة. ومع كل الأعذار التي اجتهد مريدو أدبه في جمعها وتقديمها للسوريين لتبرير تخلي جبران عنهم، فلا بدّ من الاعتراف بأن ترك جبران الكتابة باللغة العربية كان نقيصة كبيرة لأديب عظيم مثله لا يعوّض عنها ما أحرزه أدبه عند الأميركةن من المكانة وما حصل له في حياته من تعزيز في مقاماتهم.

ولكن هذه الحقيقة المؤسفة لا تمحو القيمة الكبيرة لأدب جبران خليل جبران السوري وأثره في تنبيه النفس السورية إلى القيم الروحية السامية.
أما الدكتور خليل سعاده فقد امتاز كوطني صادق وسياسي بعيد النظر وعالم. وأعظم تأثير له كان في الناحية الوطنية ــــ السياسية، مع أنه هو أيضاً سلك طريق الأدب فترة وأحب أن يعرف العالم خطورة شأنه فألّف بالإنكليزية روايته الشهيرة «قيصر وكليوبطرا» التي طبعت في لندن سنة 1898 ونالت تقديراً كبيراً في الدوائر الأدبية الإنكليزية، ثم ألّف «أنطونيوس وكليوبطرا» التي لم يرسلها للنشر.

خصص الدكتور خليل سعاده القسم الأعظم من إنتاجه للناحية الوطنية ــــ السياسية، فكتب في مصر والأرجنتين والبرازيل مقالات كثيرة وألقى محاضرات وخطباً. ومجموعة كتاباته كانت النور الأول للوطنية الخالصة وللأبحاث السياسية بالمعنى الصحيح. فبينما التدجيل والرياء في الوطنية يفعمان الجو، انتصب الدكتور خليل سعاده مثالاً للشعور الوطني الحي. وفيما المتعيشون بالصحافة والكتابة يغْشون أدمغة القرَّاء بضباب كتاباتهم السقيمة، وضع الدكتور خليل سعاده أبحاثه القيّمة في شؤون سورية السياسية ووضعيتها وفي حوادث التاريخ السياسي. فأسس بكتاباته طريقة التفكير السياسي الصحيح وأيقظ محبة الوطن الحقيقية.

كثير من الناس الذين كانوا سئموا الوطنية لكثرة ما سمعوا فيها من تدجيل الدجالين، حتى صاروا يعدّونها «خلطة من الخلطات» وجدوا في الدكتور خليل سعاده منقذاً من اليأس ومحيياً للأمل.
ونقطة أخرى هامة لا تقل عن خطورة النقطتين المتقدمتين هي نقطة الأخلاق. فقد كان الدكتور خليل سعاده في وطنيته وكتاباته السياسية مثالاً للأخلاق.

كلمة أخيرة: قد يحتج بعض المتلبننين على نعتنا جبران خليل جبران بالسوري كالدكتور خليل سعاده، ذلك لأن سورية جبران لم تكن واضحة كسورية الدكتور سعاده، ولكن لا شك في سورية جبران، كما أنه لا شك في سورية الدكتور خليل سعاده فمقالة جبران «لكم لبنانكم ولي لبناني» دليل قاطع على عدم رضاه عن لبنان السياسي.
وهنالك دليل آخر صريح بخط جبران ننقله لقرّاء «الزوبعة» عن عدد أول مارس/آذار 1934 من مجلة «الهلال» وهو مما كتبه جبران إلى السيد إميل زيدان مدير المجلة المذكورة وأحد أصحابها سنة 1919 و1922. وإليكه:
«أنا من القائلين بوحدة سورية الجغرافية وباستقلال البلاد تحت تحت حكم نيابي وطني عندما يصبح السوريون أهلاً لذلك، أي عندما تبلغ الناشئة الجديدة أشدها، وقد يتم الأمر بعد مرور خمس عشرة سنة»..
ثم يقول:

«فهناك أمور رئيسية يجب علينا المطالبة بها بإلحاح واستمرار وهي: وحدة سورية الجغرافية، والحكم الأهلي النيابي، والتعليم الإجباري، وجعل اللغة العربية الأولية والرسمية في كل آنٍ… إذا كنا لا نريد أن نُمضغ ونُبلع ونُهضم فعلينا أن نحافظ على صبغتنا السورية، حتى وإن وُضعت سورية تحت رعاية الملائكة… أنا أعتقد أنّ السوريين يستطيعون أن يفعلوا شيئاً مشكوراً بعد خروجهم من عهد التلمذة إلى عهد التوليد. ولولا اعتقادي هذا لفضلت الانضمام الكلي إلى أية دولة قوية. بإمكان الغربيين مساعدتنا علمياً واقتصادياً وزراعياً ولكن ليس بإمكانهم أن يعطونا الاستقلال المعنوي، وبدون هذا لن نصير أمة حية. والاستقلال صفة وضعية في الإنسان وهي موجودة في السوري ولكنها لم تزل هاجعة فعلينا إيقاظها».

الزوبعة، بوينس آيرس،
العدد 19، 30/4/1941

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى