رأي الجيل الجديد – موقف الجبهة المتفرنسة من اتفاقية النقد

في التصريح الخطير الذي أدلى به زعيم الحركة القومية الاجتماعية في سورية الطبيعية كلها، ونشرته هذه الجريدة في عددها الأول، قال حضرته، جواباً على سؤال هذه الجريدة رأيه في بعض الفئات التي رحبت باتفاقية النقد وهاجمت الذين يهاجمونها: “إنّ لبعض الفئات علاقات سياسية وثقافية واضحة بفرنسة. فهي ترى الأمور بمنظار السياسة والمصالح الفرنسية، لا بمنظار المصالح اللبنانية الصحيحة. فلو سئل الفرنسيون أنفسهم الدفاع عن الاتفاقية، لما قالوا في هذا الصدد شيئاً أحسن من الذي قاله المثقفون في النظرة والمصالح الفرنسية”. (ص 180 أعلاه).

ليس أبلغ من هذا التحليل الدقيق لتصوير الحالة السياسية الداخلية في صدد اتفاقية النقد. وفي الوقت عينه تقريباً الذي يعلن فيه الزعيم هذه الحقيقة يصدر في جريدة العمل “الفلنجية” بيان يحمل توقيع السيد بيار جميّل “رئيس الكتائب اللبنانية الأعلى” فلم نجد، بعد أن تصفحناه في عدد العمل الصادر الأحد في 4 أبريل/ نيسان الحاضر، في شيء مما صدر عن الجبهة المتفرنسة ما ينطبق عليه تحليل الزعيم انطباقاً كلياً كانطباقه عليه!

خلاصة “البيان” المشار إليه صراخ وولولة غير عاقلة فهو لا يختلف عن “بيانات وتصريحات” سابقة “لرئيس الكتائب الأعلى”.

بعد أن اعترف “البيان” المذكور “بأن الخلاف الضارب في البلاد خطير، بل أخطر مما يتراءى لنا، لكونه يدور حول الكيان اللبناني نفسه” يندفع نحو إعلان إيمان السيد بيار الجميّل به إيمانه بالله، من غير أية حاجة موجبة لمثل هذا الإعلان، الذي لا يختلف عن القول “إني أؤمن بصيدا وأؤمن بوادي الجماجم إيماني بالله” ـ بعدما تقدم يصور بيان السيد الجميّل الموقف السياسي فيقول إنّ اللبنانيين تقدموا “للمخلصين من العرب” بقولهم: “دعونا نطمئن إليكم وإلى نياتكم، ليكن احترامكم استقلال لبنان… إننا لا نرغب إلا في أن نعيش وإياكم بسلام ووئام، إنّ كل شيء يدعونا وإياكم إلى التفاهم والتآلف”.

إنّ مثل الكلام المتقدم هو قول هراء وأحرى به أن يقال في أوساط بعض المعارف الخصوصيين من أن يعلن على صفحات الصحف. فمن هم “اللبنانيون” الذين قالوا القول المتقدم، ومن هم “المخلصون من العرب” الذين خاطبهم اللبنانيون الخطاب الذي يذكره بيان السيد جميّل. وما هو نوع عبارة “أن نعيش وإياكم”، هل يعني العيش المشترك في وطن أم غير ذلك.

إنّ تسمية المسيحيين عامة والموارنة خاصة في لبنان باسم “اللبنانيين” وتسمية المحمديين عامة والسنيين خاصة في سورية الطبيعية باسم “العرب” من المهارة الفائقة في علم الاجتماع والسياسة بحيث إننا نرى الخوض في موضوعها، بأسلوب بيان السيد جميّل، تحقيراً للمدارك الإنسانية.

ويستشهد بيان السيد جميّل بمذكرة الوفد الإكليريكي الماروني إلى فرنسة سنة 1919 وبقرار مجلس إدارة لبنان في مايو/ أيار من السنة المذكورة، الذي يحمل في نصه شهادة التدخل الفرنسي إذ يقول القرار في بنده الثالث: “إنّ الحكومة اللبنانية والحكومة الفرنسية المساعدة تتفقان على تقرير العلائق الاقتصادية بين لبنان والحكومات المجاورة”. ولكنه لا يستشهد مطلقاً بمصير مجلس إدارة لبنان حين قرر عدم فصل لبنان عن الشام سنة 1920، الذي قبض على أعضائه الجنرال غورو في تلك السنة وحوكموا ونفوا إلى جزيرة كورسكة. وفي مكان آخر من هذا العدد يجد القارىء صورة منشور القائد المحتل الذي داس بقوة الجيش المحتل كرامة اللبنانيين واعتدى على أعضاء مجلس الإدارة واستاقهم كالمجرمين!

وبعد فماذا كان “مجلس إدارة لبنان” المغفور له؟

هل كان مجلساً تأسيسياً منتخباً من قبل جميع سكان الجمهورية اللبنانية لإعلان المصير الذي يريده اللبنانيون، أم كان مجرّد مجلس إداري، كما يدل عليه اسمه، ولم تكن له صلاحيات دستورية لإعلان المصير؟

وإذا كان “مجلس إدارة جبل لبنان” ذا صلاحيات دستورية تأسيسية فكيف لم يقبل تقريره عدم الانفصال عن الشام وكيف قبل اللبنانيون أن يقبض قائد جيش محتل على أعضائه ويحاكموا من قبل السلطة الأجنبية؟

ويستشهد بيان السيد جميّل بخطاب المرحوم البطريرك إلياس الحويك الذي قاله في أواخر سبتمبر/ أيلول 1922 للجنرال غورو في الديمان، الذي قال فيه البطريرك: “أنا يوم سافرت إلى باريس، حملت إليها الوكالات ممضاة من كل طوائف لبنان… أنا أنطق بلسان اللبنانيين على بكرة أبيهم”.

إنّ قيمة “الوكالات الممضاة من كل الطوائف” يجدها السيد جميّل وغيره في رد الزعيم على خطاب البطريرك [أنطون] عريضة المنشور في أعداد يناير/ كانون الثاني 1938 من جريدة النهضة (أنظر ج 2 ص 339). إنّ الوكالات المذكورة لا قيمة تمثيلية ديموقراطية لها.

ومع كل التبجح بالإيمان بلبنان كالإيمان بالله يختتم بيان السيد جميّل المدافع عن وجهة النظر الفرنسية والمتفرنسة بالقول إنه إذا كانت تسوية 1943 قد أصبحت متزعزعة فالفلنج تصبح في حلٍ منها “ويصبح من أقدس واجباتنا أن نطرح القضية اللبنانية بكاملها على بساط البحث مجدداً قبل فوات الأوان”.

إنّ القضية اللبنانية الحديثة التي يعترف بيان السيد جميّل بأنها نتيجة تسوية جرت سنة 1943 من غير استفتاء عام للشعب، هي مطروحة على بساط البحث بمجرى الحوادث وبالمشاكل التي يواجهها الكيان اللبناني بطبيعة وضعه.

ينسى بيان السيد جميّل، وهو يقول: “أين كنتم سنة 1943 في اليومين الأولين من الثورة اللبنانية، واين كنتم عندما كنا في الشارع نستقبل الرصاص بصدورنا، إلخ”. إنّ “الفلانج” تأسست للسعي لإنشاء الأمة اللبنانية على أساس الصداقة والتعاهد مع فرنسة!

وينسى أنّ العقوق بالأم الحنون ليس بطولة كبيرة!

وينسى أنّ العودة للدفاع عن مصالح فرنسة في بلادنا، ليس من شيم الذين يستقبلون الرصاص بصدورهم ليتخلصوا من أجنبي محتل!

وينسى أنّ الذين حاربوا الاحتلال الفرنسي في سبيل حرية إرادة الشعب في لبنان هم صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي!

وينسى أنّ الذين سقطوا بالرصاص في بشامون وغيرها في تلك الثورة التي قام بها القوميون الاجتماعيون في بشامون وعين عنوب، هم قوميون اجتماعيون لا فلنجيون يسيرون وراء النساء في شوارع بيروت!

ما أصدق ما قاله الزعيم، في تصريحه المذكور، عن الجبهة المتفرنسة، التي لا ترى الأمور إلا بمنظار المصلحة الفرنسية والحزبية الدينية!

 الجيل الجديد، بيروت،

العدد 5، 9/4/1948

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى