رأي النهضة الرأي العام


الرأي العام ركن أساسي في كيان كل دولة. ومهما تضاربت الأقوال في هذه الظاهرة الروحية العظيمة الأثر في السياسة والاجتماع تبقى الحقيقة الراهنة كما هي، وهذه الحقيقة هي أنّ الرأي العام قوة اجتماعية سياسية خطيرة الشأن.
ولكن هذه القوة معرضة أبداً للعوامل الروحية والثقافية فهي تتأثر بهذه العوامل تأثراً شديداً يحملها على إعطاء رد فعل سريع لكل حادث له علاقة بأحد هذه العوامل، ومن هذه الحقيقة نشأ الاعتقاد الغالط بأنه ليس هنالك شيء اسمه رأي عام.
الحقيقة أنّ الرأي العام موجود دائماً في كل مجتمع متمدن. ولكن قوّته لا تكون راسخة إلا في المسائل المستمرة التي تعمل عوامل مستمرة على إكسابها صفة الثبات بواسطة الأساليب الثقافية والتقاليد المرعية. وفيما سوى ذلك فالرأي العام أشبه شيء بريشة في مهب الرياح، إذا هبّت الريح جنوباً مالت شمالاً وإذا هبّت صباً مالت غرباً.
فالإشاعات للرأي العام كالريح للريشة.
متى تضاربت الاتجاهات الأساسية في أمة من الأمم، واختلفت العقائد والعوامل الثقافية، ولّد هذا التضارب وهذا الاختلاف راياً عاماً مبلبلاً متفسخاً لا يتمكن من الإجماع على قضية عامة أو مصلحة عامة، وزعزعا الوجدان القومي الصحيح ومنعا تولّد ما يسمى في العلوم السياسية “الإرادة العامة”.
وهذا حال الرأي العام في هذا الوطن السيِّء الطالع. فهو متفسخ متبلبل تتضارب فيه مصالح المذاهب الدينية المتعددة. وينشأ من هذا التضارب تضارب العوامل الثقافية المكونة الرأي العام وتكون النتيجة التفسخ القومي المانع من إدراك المصلحة القومية العامة وإيجاد الإرادة القومية العامة.
في كل أمة تختلف بعض الفئات المؤسِّسة على مصالح فرعية معينة في الاتجاهات الفرعية ولكنها في اختلافها تشترك جميعها في اتجاه واحد أساسي هو اتجاه الأمة ومصالحها العامة.
أما نحن فالرأي العام مقسّم عندنا على اختلافات أساسية. ففي الأوساط المارونية مثلاً، نجد أنّ الإكليروس لا يزال يحرّض الأوساط الشعبية المارونية على التمسك بوجهة نظر طائفية بحتة تبنى على أساس وجهة نظر مسيحية. فيقول بأن المسيحيين والمسلمين جنسان لا يجتمعان إلا واحد سائد والآخر مسود، ولذلك يجب أن يبقى لبنان منفصلاً عن بقية البلاد السورية، لكي يتسنى للمسيحيين أن يسودوا، وصحفهم ومؤسساتهم لا تفتأ تغذي هذه الروح.
وفي الأوساط السنّية أو الإسلامية عامة نجد المؤسسات تغذي الرأي العام في اتجاه معاكس تماماً، ولكن على نفس الأساس، فهذه المؤسسات تعتقد تماماً باختلاف المسلمين والمسيحيين وبوجوب سيادة المسلمين، وتجعل من ذلك قضية إسلامية عامة تتجه نحو جمع الأقطار العربية تحت هذه الوجهة الدينية وتولّد تياراً فكرياً مصادماً للتيار الأول، وهكذا دواليك.
فلما جاءت النهضة القومية تقول بأن النظرة الصحيحة هي النظرة المبصرة مصالح الجميع في الوطن الواحد، لم يشأ أي فريق التنازل عن نظرته الخصوصية لتحل محلها النظرة القومية الشاملة التي تتمكن من إيجاد الأساس العام المشترك فيتحول التصادم والتفسخ المتولدان من تضارب الاتجاهات إلى تعاون واتحاد متولد من الاتجاه القومي. وبين مصالح الملّة المسيحية ومصالح الملّة الإسلامية ومصالح الملّة الدرزية، إلخ. تضيع المصلحة القومية ويقف الرأي العام حائراً مشلولاً.
من الدروس الفيزيائية الأولية، أنّ كل قوتين متدافعتين أو متجاذبتين وتتوفر الأسباب لإيجاد توازن بينهما تبطل فاعليتهما.
وإبقاء كل مجتمع مقسّم على الاتجاهات المتنافرة في حالة شلل يمنعه ذلك من التقدم أو الارتقاء. وهذا فن في السياسة المتغلبة.
وكل مجتمع يريد أن يتحرر من الشلل ليتقدم ويرتقي وينال نصيبه وحقه في الحياة، يجب أن يقاوم فن السياسة المتغلبة بفن سياسة متغلبة، وهذا الفن يوجب إزالة التصادم المؤدي إلى الشلل.
هذه هي رسالة النهضة القومية إلى الراي العام، وهي تختلف عن رسالة الصحف والمؤسسات الدينية والإكليريكية في أنها رسالة الاتجاه القومي الجامع الذي يحل ممصلحة الأمة محل مصالح الفئات الخصوصية ويجعل للرأي العام قيمته.
أما الجرائد والمؤسسات الثقافية الإكليريكية والمذهبية فرسالتها إبقاء الشقاق في الشعب، لأنها بالشقاق تعيش هي بينما الأمة تموت.

النهضة، بيروت
العدد 27، 13/11/1937

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى