رسالة الأرجنتين – الشهرة على حساب الحزب السوري القومي


رسالة الأرجنتين – الشهرة على حساب الحزب السوري القومي (1)

بوينس آيرس في 16 يوليو/تموز 1940 ــــ لمراسل «سورية الجديدة».
أرسل إليَّ صديق ورفيق في بوينس آيرس بعض ما نشر عن الحزب السوري القومي في تلك المدينة، فوجدت بين المواد قطعتين نشرهما السيد زكي قنصل الذي ألقى، في أول مارس/آذار الماضي، قصيدة قومية جيدة الروحية حملت الكثيرين على الاعتقاد أنّ السيد قنصل قد صار قومياً بالفعل، فرأيت أن أكتب شيئاً في هذا الموضوع:
منذ أعلن أمر الحزب السوري القومي في حادث اعتقال الزعيم وأركان إدارته وظهرت خطورته للناس من خلال التحقيق والمحاكمة، حدث تشنج عنيف في نفسية الشعب السوري وفي نطاق واسع من النفسيات الفردية، واتقدت في صدور عدد كبير من الأفراد «المتنورين» نار الغيرة أو نار الحسد، كما جاء في كتاب إلياس فرحات إلى الزعيم، في الوقت عينه الذي اجتاحت فيه عواطف الإعجاب والإكبار نفوس مئات الألوف من الشعب.

كل من أمسك مرة قلماً، وكتب مقالة تحمل أفكاره أو أفكار غيره، أو نظم قصيدة لا فرق بين أن تكون روحيتها وأفكارها من عنده أو من عند غيره، وذيّلها بإمضائه وأصبح «أديباً كبيراً» أو «شاعراً من فحول الشعراء»، ولم تكن له مناقب وأخلاق متينة تقيه الغرور صار يحسد سعاده «على خرقه النظم الطبيعية وبزوغ شمسه في منتصف ليل انحطاط أمتنا». فسارع عدد منهم في الوطن إلى اقتباس الأنظمة الشكلية للحزب السوري القومي، والادعاء أنهم هم فكروا في إبداع حركة مثل حركة الحزب السوري القومي، مستندين إلى بعض أفكار أو أماني جزئية لاحت لهم في ظرف من الظروف. وقام آخرون يتصدون لمعارضة مبادىء الحزب السوري القومي ليقال إنهم أهل رأي ونظر، وليسوا بحاجة لأن يقودهم أنطون سعاده، مفضلين المكابرة والعناد والمراوغة على التسليم بالحقيقة.

جميع هؤلاء الذين ذكرتهم أخذوا يأتون المحاولة إثر المحاولة، ويهيمون في كل واد لإيهام الناس أنّ أنوار النهضة السورية القومية التي أنشأها سعاده لا تكسف «أنوارهم». وليس هنا المجال لتعداد محاولاتهم ووصف هيامهم وإعجابهم بأنفسهم. ولكن لا بدّ لي من ذكر بعض السوابق لبعض الحوادث الأخيرة التي حدثت في الأرجنتين.
كان لظهور الحزب السوري القومي وقع عظيم في أوساط الجالية السورية في هذه البلاد، كما كان له وقع عظيم في كل وسط سوري آخر. وكان من نتائج هذا الوقع في الأرجنتين أن اندفع نفر من الشباب، في مقدمتهم إلياس قنصل وزكي قنصل، لإنشاء ما أطلقوا عليه «عصبة الشباب السوري»، جرياً مع التيار الجديد ولو على غير هدى. ولكن «عصبة الشباب السوري» لم تعمر طويلاً، فانفرط عقدها وتحول بعض أفرادها إلى هدف سياسي آخر.

في الخطاب الذي ألقاه الزعيم في حفلة أول مارس/آذار الماضي أبان كيفية وصوله إلى الأرجنتين، وقد نشر ملخص ذلك الخطاب في العدد الثالث والستين من «سورية الجديدة» (ص 20 أعلاه). وكانت قد سبقت الزعيم إلى الأرجنتين الإشاعات المغرضة عن توقيفه في البرازيل، وظهرت بعض حركات عدائية من أشخاص هنا يعملون لأغراض فخري البارودي. فكان من وراء ذلك أنّ بعض المتنورين أو «الأدباء الكبار» وقفوا بعيداً يراقبون ما يجري، وفي عداد الذين وقفوا هذا الموقف السيد زكي قنصل الذي مال إلى ممارسة النظم منذ مدة، ونظم عدداً مما يعرف في الاصطلاح بالقصيدة. فهو تهفو نفسه حيناً إلى النهضة السورية القومية، وحيناً يعود فيتشبث بسلوكية المجتمع اللاقومي المبلبل الذي نشأ فيه «أدبه». إنه أحد هؤلاء الذين يرغبون في السير إلى الأمام، ولكنهم يخافون ألا يسير الجمهور معهم. وبعد فزكي قنصل «أديب وشاعر» فقد كتب مقالات ونظم قصائد، فهو لا يستطيع «المجازفة بمركزه» بهذه السهولة.

لما وجد السيد زكي قنصل أنّ المبادىء السورية القومية تلاقي إقبالاً في أوساط الجالية في الأرجنتين، أراد أن يتثبّت من أنّ هذا الإقبال حقيقي، فكتب إلى الكاتب القومي الرفيق جبران مسوح يسأله: «أصحيح أنّ المتحد السوري في توكومان قد فهم رسالة سعاده؟».

ولما اقترب أول مارس/آذار وشعر بتحرك أوساط الجالية في بوينس آيرس للاحتفاء بمولد مؤسس «سورية الجديدة» وواضع قواعد نهضتها، نظم قصيدته التي نشرت في العدد 56 من «سورية الجديدة» وألقاها في المأدبة التي أقيمت على شرف الزعيم. وقد كانت قصيدة زكي قنصل خروجاً على التردد والغموض إلى الصراحة واليقين، فهو فيها سوري قومي يقول بنهضة سورية وبزعامة سعاده. وفيها هذه الأبيات التي لا تبقي مجالاً للشك:

نهضت سورية يقود إلى المجــ ــد خطاها زعيمها الجبار
يا زعيماً ترنو القلوب إليه بخشوع وتنتهي الأنظار
عقدت سورية عليك رجاها واستظلّت برأيك الأحرار
إيه آذار ما ذكرناك إلا صفّق المجد واشرأبّ الفخار
أنت تاريخ أمة أيقظتها من كهوف الونى خطوبٌ كبار
أنت فجر تلا من الجهل ليلا عشيت في ظلامه الأبصار1
هذه الأبيات الصريحة حملت بعض القوميين على الاعتقاد أنّ زكي قنصل قد ترك عنعنات البيئة اللاقومية المريضة، وانضم بالفعل إلى صفوف الذين صاروا أمة واعية «يقود إلى المجد خطاها زعيمها الجبار». والظاهر أنّ بعض هؤلاء القوميين اعتقدوا أنّ زكي قنصل مخلص ويعني ما يقول، فإذا بالسيد زكي قنصل يعود أدراجه وينشر في جريدة «السلام» بتاريخ 4 مايو/أيار الماضي هذا «الإيضاح»:

«كتب إليَّ أديب من إخواننا في البرازيل أنّ صديقاً له في الأرجنتين نبّأه بأني قد أصبحت عضواً في الحزب السوري القومي، وبوقاً من أبواقه، فإثباتاً للحقيقة ودفعاً للتضليل أعلن أنّ هذا الخبر غير صحيح، فأنا لم أنضم إلى الحزب المذكور ولم أقم له بــ«الدعاية الواسعة» التي يشير إليها الصديق الأرجنتيني الدار وإن كنت أؤيد الكثير من مبادئه وآرائه الاجتماعية».

وواضح من هذا «الإيضاح» أنّ زكي قنصل قد وقع في ورطة مع رصفائه من أدباء عهد الانحطاط، فأراد التخلص منها، فلجأ إلى إعلان هذا الإيضاح الذي يورطه تجاه النهضة السورية القومية وتجاه الرأي العام، لأنه ينقض موقفه في أول مارس/آذار. ومما لا شك فيه أنّ زكي قنصل حاول تجنب هذه الورطة الجديدة فوضع عبارته: «وإن كنت أؤيد الكثير من مبادئه وآرائه الاجتماعية»، أي بإخراج مبادئه السياسية والاقتصادية والحقوقية، فيبرر بهذا التأييد الكسيح قصيدته البريئة من الزمن.

بيد أنّ ورطة الرجوع على قوله الصراح لا تقف عند هذا الحد، بل تتناول شيئاً أهم من «المبادىء والآراء الاجتماعية». إنها تتناول المبادىء المناقبية في قوله: «ودفعاً للتضلل» فهذه العبارة الخطيرة تطعن «الصديق الأرجنتيني الدار»، كائناً من كان، بتهمة التضليل. والحقيقة هي أنه إذا كان هنالك تضليل فالتضليل صادر عن السيد زكي قنصل نفسه، الذي ألقى قصيدة غير مأجورة، وبمطلق رغبته في عيد مولد سعاده، يؤيده فيها تأييداً خالياً من كل قيد ومن كل شرط، ويقول فيه: «أنت سفر من الحياة تجلى فيه أسمى ما تبدع الأفكار» فإذا كان «الصديق الأرجنتيني الدار» لصديقه «الأديب الكبير» في البرازيل قد ضلّله موقف زكي قنصل وقوله الصراح في قصيدته المذكورة، حتى اعتقد أنّ زكي قنصل قد أصبح سورية قومياً نظامياً بدليل قوله: «واستظلت برأيك الأحرار. وأثرها ــــ فديت ــــ زوبعة حمراء فالمجد ثورة وانتصار.

فأفىء ظلك المجيد علينا تتجنب لقاءنا الأقدار»، فالتضليل ليس صادراً عن «الصديق الأرجنتيني الدار» ولا عن أحد من القوميين بل عن السيد زكي قنصل نفسه الذي جاء يعلن لنا في «إيضاحه» أنه لا يؤيد إلا «الكثير من مبادىء الحزب السوري القومي وآرائه الاجتماعية» فقط. هذا إذا كان السيد قنصل لم يقصد من قصيدته سوى التحبب إلى القوميين، والظهور بمظهر شاعر قومي في يوم مشهود، وفي هذه الحالة يستطيع أن يقول إنّ صراحة أقواله لم تكن إلا من موجبات البيان، وإنّ الاستفاقة الظاهرة في قصيدته لم تكن سوى فن صناعي تقتضيه ضرورة البديع، وإنّ قوله: «أمتي سورية والزوبعة الحمراء وآذار تاريخ أمة»، وغير ذلك، إن هي إلا ألفاظ اقتضاها الوزن!

إنّ هذه العبارة الخطرة «دفعاً للتضليل» التي يظهر أنها أدخلت في هذا «الإيضاح» عمداً هي نفسها نوع من أنواع التضليل التي يلجأ إليها المغترون بأنفسهم، ليوهموا الناس أنّ أسماءهم عظيمة القدر إلى درجة أنّ نهضة عظيمة، غيّرت وجه التاريخ كالنهضة السورية القومية، تحتاج إلى استعمالها! وسامح الله الكاتب القومي جبران مسوح الذي أسرع إلى الوثوق بصراحة زكي قنصل وتشجيعه بعبارات كانت فوق ما كان يجب أن يقال في هذا الباب.
«أعذر من أنذر»1
(للبحث استئناف)



الشهرة على حساب الحزب السوري القومي (2)

يظهر من تتبُّع ما نشره السيد زكي قنصل في عاصمة الجمهورية الفضية، أنّ هذا «الأديب الكبير» شعر بالمأزق الذي زجَّ نفسه به على غير هدى، فحاول التخلص إلى نتيجة تحول دون القطيعة بينه وبين زملائه «الأدباء الكبار» هنا في البرازيل، وفي غير مكان، وتظهره بمظهر المُجاري للنهضة القومية بعض المجاراة عن تفكير وإدراك واسع، فرأى أن يجيب على سؤال وجّهه إليه محرر جريدة «الفطرة الإسلامية» الصادرة في العاصمة المذكورة الخواجه سيف الدين رحال، الذي يريد إدخال الدين في كل أمر وفي جميع الشؤون القومية. وقد نشرت الجريدة الدينية المشار إليها جواب السيد زكي قنصل في عددها الصادر في 31 مايو/أيار 1940. وهو كما يلي:

«لا أخفي عليك، يا سيدي، أنّ الكتابة في موضوع (الحزب السوري القومي) من أصعب الأمور وأحرجها. ذلك لأن أعداء هذا الحزب ــــ ولا استثنيك منهم ــــ يريدون أن يقضوا عليه القضاء المبرم، ولو ذهب بين سنابك خيلهم من لا ناقة لهم في هذا الشأن ولا جمل. فإذا نحن لم نحمل على الحزب ونجرّده من كل حسنة، رُمينا بالخيانة والمروق واتُّهمنا في عقيدتنا القومية وأدمجنا في سلك الذين يستخدمهم الأجنبي مطايا لأ غراضه ومقاصده.
«فما علة هذا البغض الشديد الذي يضمره الكثيرون منّا للحزب؟

«الذي أراه أنه عائد إلى أسباب نفسية (سيكولوجية): نحن يا سيدي قوم عاطفتنا أقوى من عقلنا وأرهف سمعاً وأسلس قياداً. والدليل أنّ الأنبياء لم يروضوا جماحنا ويظفروا بحبنا واحترامنا إلا عندما خاطبونا بلغة القلب وسلكوا إلى نفوسنا سبيل العاطفة. وهل تعتقد أنك كنت تجد فينا من يذكر الله لو لم يغرنا بأطايب النعم، ويبهر أنظارنا بمحاسن الخلود وملذاته؟ والحزب السوري القومي لم يشأ أن يخاطبنا إلا بلغة العقل والمنطق. أفكثير إذا رميناه بكل شنيعة واتهمناه بالتآمر على سورية؟

«نحن، يا سيدي، نريد أن تكون الأقطار العربية كلها بلاداً واحدة، من حدود إيران شرقاً، إلى البحر الأبيض والقاموس الأطلسي (الأوقيانوس الأتلنتيكي) غرباً، ومن جبال الطور (طوروس) شمالاً، إلى القاموس (الأوقيانوس) العربي وجبال الحبشة والصحراء الكبرى جنوباً. هذه هي بلاد العرب كما نريدها. ولكن هل من الممكن تحقيق هذا الحلم الجميل في الوقت الحاضر؟

«الحزب السوري القومي يقول إنّ أفضل السبل هي أن ينظّم كل قطر من هذه الأقطار شؤونه الداخلية، ثم يهتم بعقد محالفات مع غيره تكون نواة اتحاد عربي قد يصير مع الزمن، إذا تآلفت الثقافات، وتقاربت العقليات، وتشابكت المصالح، وحدة شاملة أو قيلية (امبراطورية) بالمعنى الذي نريد. وهذا الرأي يشترك فيه كثير من رجالات مصر وسورية والعراق وغيرها من الأقطار العربية. ولكن نحن لا نريد أن نفهم هذه الحقيقة الثابتة لأننا قوم خياليون.
«لقد بُلينا بنكبة الحكم الأجنبي. ونحن نعرف أنّ هذه النكبة هي نتيجة تفسّخنا الاجتماعي، وتفكك وحدتنا القومية، وتنافر معتقداتنا الدينية، أو ما نسميه معتقدات دينية، فكيف نعالج هذا الداء؟ لم نجد حتى الآن غير طريق واحدة: طريق الخيال، فنصيح: يجب أن نتحد، يجب أن نتحد، يجب أن نصبح كتلة واحدة، يجب أن يزول التعصب الطائفي، يجب أن يمحى، يجب أن تصير الأمة صفاً واحداً تصد مطامع الغريب وتقف في وجه الفاتحين. وقد بحّت حناجرنا من الصياح، والأعجوبة لمّا تحدث، وهذا شيء طبيعي، فعصر العجائب قد انقضى.

«أما (الحزب السوري القومي) فله في هذا الباب نظرة أعتقد أنها الحل الوحيد لهذا المشكل الذي طال عليه الزمن، فهو يرى أنّ «تعلق المؤسسات الدينية بالسلطة الزمنية، وتشبث المراجع الطائفية بوجوب كونها مراجع السيادة في الدولة» هما أصل هذا الداء. إذن لا يجب أن يفصل الدين عن الدولة فقط، بل يجب أن يصير بين مختلف الطوائف والمذاهب صلات دم ورحم، فيتزوج المسلم بالمسيحية، والمسيحي بالمسلمة. عندئذٍ تزول أسباب الخلاف وتموت العصبيات الطائفية وتدرس النعرات المذهبية وتتقارب العقليات والنفسيات والثقافات، ولا يبقى للغريب حجة يبرر بها سيطرته وتحكّمه، ومدخل يتسرب منه لتمزيق صفوفنا وتحطيم قوانا.

«ولا أنكر عليك، يا سيدي، وإن كنت أعلم أني سأتعرض لصولاتك وجولاتك، أنّ هذا الرأي يدور في خلدي منذ سنين، وقد أعلنته في اجتماع صغير عقدناه من أكثر من سنة في بيت الصديق بديع الشيخ، وكان في المجلس الإخوان إبراهيم هاجر وقاسم عبد الله وسعيد مراد أو حمد مراد، وغيرهم ممن لم تحضرني أسماؤهم في هذه الساعة.

«والحق أنّ هذه الفكرة قد توغر صدور الكثيرين من جميع الملل والنِحَل، وتجد جيوشاً جرارة من المقاومين والمحاربين. ولكن ما العمل وليس لنا غير هذا السبيل إن كنا نريد أن يكون لنا وطن حر مستقل يسنده شعب حر مستقل «وإرادة تملي فإذا هي القضاء والقدر» كما يقول رئيس الحزب السوري القومي؟

«قد تقول إنّ هذه الطريق تقودنا حتماً إلى الانحلال الديني. ولكن أليس أفضل أن يكون لنا وطن وليس لنا دين، من أن يكون لنا دين وليس لنا وطن؟ وأيهما أعز جانباً وأكرم عند الله والناس؟ الشعب الألماني الذي لا تربط بين أبنائه غير الرابطة القومية، أم الشعب اليهودي الذي لا يعرف غير الدين جامعة؟
«هذه هي النقط التي تعجبني في الحزب السوري القومي، أما ما لا أستحسنه فأمور أبسطها بالصراحة التي تحدثت فيها عن الأفكار التي أؤيدها:

1 ــــ إنكاره الإخلاص والوطنية والفهم على كل من يعمل خارج نطاقه، كأن الإخلاص والوطنية والفهم وقفٌ على رجاله دون سائر الناس، وتبدو هذه الظاهرة بوضوح تام جريدة «سورية الجديدة» التي يصدرها الحزب في البرازيل، فأنت لا تجد في كل عدد منها أكثر من مقالة واحدة خالية من التحامل والتهجم على الذين يجاهدون في الميدان الوطني خارج حظيرتهم.

2 ــــ تضخيم أعمال الحزب وأخباره على الطريقة الإنكليزية المضحكة، فأعضاؤه حسب إحصاء السيد خالد أديب يبلغون الستين ألفاً، ثم يرتفع هذا العدد حتى يبلغ ثلاثمائة ألف، حسب إحصاء الأخ يوسف بهنا.

3 ــــ نظر الحزب إلى الأدب، فهو يرى أنّ الأدب الذي لا يماشي دعوته ولا يتفق مع فلسفته ليس أهلاً بالخلود، بل هو أدب فاسد عقيم يجب طمسه ودرسه مهما سما من الناحية الفنية، وهي دعوى لا حاجة إلى إظهار ما فيها من ضعف وتعسف وامتهانة بالأدب الذي يجب أن يكون فوق الأغراض السياسية، وفوق المعتقدات البشرية، وفوق المصطلحات الأرضية.

«وهذا ما أنكره على الحزب السوري القومي فهل تراني أنصفت؟«
زكي قنصل
يبتدىء السيد زكي قنصل يتعلق بدرجة الشهرة الخطيرة بإكساب نفسه صفة من طُلب منه أن يكون حكماً في قضية قومية بكاملها، فيمسك بيده القسطاس ويضع على عينيه نظارات وينظر إلى أعداء الحزب السوري القومي أولاً، ثم إلى الحزب السوري القومي ثانياً، ويدرس الأسباب ويبيّن النتائج ويحكم بالإنصاف، فإذا هو «السيكولوجي» الخبير والسياسي المحنك والحقوقي المدقق والاقتصادي الماهر والعالم الاجتماعي، الذي كلمته حجة أهل علم الاجتماع، ورأيه نبراس العلم السياسي، وحكمه القضاء الحق. فما أعظمه قطباً من أقطاب الشعب وعلماً من أعلام الحق. وهكذا تبتدىء الشهرة بين البسطاء.

يدخل الأديب والعالم ذو الرأي الصائب والفكر الثاقب زكي قنصل، هدانا الله بعلمه وحفظه لنا من كل مكروه، لُباب الموضوع بتحليل أسباب «البغض الشديد» الذي يضمره الكثيرون للحزب السوري القومي بقوله إنها أسباب نفسية، ويفسر هذه اللفظة الأخيرة بكلمة «سيكولوجية» لكي يتوهم القرّاء أنه أحد الراسخين في العلم، إذ إنه يعرف أنّ هنالك لفظة تكنيكية يقال لها سيكولوجية. ثم يفسر هذه الأسباب النفسية بوضع هذه القاعدة السيكولوجية: «نحن، يا سيدي، قوم عاطفتنا أقوى من عقلنا وأرهف سمعاً وأسلس قياداً»، وهو لا يحتاج برهاناً قاطعاً على صحة هذه القاعدة غير دليل واحد هو: «إنّ الأنبياء لم يروّضوا جماحنا ويظفروا بحبنا واحترامنا إلا عندما خاطبونا بلغة القلب وسلكوا إلى نفوسنا سبيل العاطفة».

إنّ من نكد الدنيا أن نجدنا مضطرين لمناقشة هذا الهذر السيكولوجي، الذي لا يقبله معلم سيكولوجيا من طالب مبتدىء في هذا العلم، من أجل مصلحة القضية التي يفسد الرأي العام حولها مثل هذه السفسطة الغريبة.
الدليل الذي يجيء به السيد قنصل لتبرير قوله: إننا قوم عاطفتنا أقوى من عقلنا، لا يمكن إيراده في هذا الباب، ولا يبرهن شيئاً في هذه القضية، فالأنبياء لم يروضوا جماحنا نحن فقط ويظفروا بحبنا وحدنا بل هم قد روضوا جماح جميع شعوب العالم، وظفروا بحبها بواسطة اللغة عينها التي خاطبونا بها. فلماذا يصح أن يطلق السيد زكي قنصل، الراسخ في العلم، قاعدته السيكولوجيا علينا وحدنا بالاستناد إلى هذا الدليل الشائع عندنا وعند غيرنا من الأقوام؟
والظاهر أنّ السيد زكي قنصل، لرسوخه في العلم، يعتقد أنّ «لغة القلب» التي خاطبنا بها المسيح ومحمد لم تجد المقاومة التي تجدها لغة الحزب السوري القومي اليوم. فهو يطلب من الناس أن ينسوا أنّ الذين خاطبهم المسيح كانوا ضده أو، على الأقل، مشككين وكانت النتيجة أنه صُلب بسبب «لغته»، وأنّ الذين خاطبهم محمد قاموا ضده حتى اضطرّ وأتباعه للهرب من مكة ثم سقط جريحاً في معركة أُحُد.

والظاهر الواضح أنّ «العالم السيكولوجي» زكي قنصل يجهل تاريخ الشعب السوري كل الجهل، إذ هو يجهل أنه أول شعب حكّم العقل في شؤونه فنفض عنه الأوهام الشرقية، وابتكر واخترع ونظّم في الاقتصاد والسياسة من زراعة وصناعة واستعمار وملاحة. وفي العلم من بحث وتنقيب واكتشاف وتدوين. وفي الفنون من موسيقى وحفر ونقش ورسم.

ولا مشاحة في أنّ زكي قنصل، الذي يطلب الشهرة عن هذه الطريق، يسجل على نفسه عدم فهمه شيئاً من السيكولوجية أو من حالة شعبنا النفسية الحاضرة. فنحن لسنا كما يقول: عاطفتنا أقوى من عقلنا. بل نحن، خصوصاً في أميركة، عقلنا المادي قد قتل كل عاطفة فينا. والسيد قنصل يبدي جهلاً فاضحاً للفرق بين النعرات والعاطفة وبين الشعور والعاطفة، وجهلاً فاضحاً للغة التي خاطبنا بها الأنبياء وجهلاً فاضحاً للغة التي يخاطبنا بها الحزب السوري القومي، لأن هذا الحزب لم يقتصر خطابه لنا على العقل والمنطق بل تناول الشعور والضمير أيضاً، وكذلك الأنبياء لم يقتصروا على «لغة القلب» والعاطفة بل استعملوا لغة العقل والمنطق أيضاً، وكما اصطدمت العقلية التي جاء بها الأنبياء بعقليات أوساطهم العتيقة، كذلك اصطدمت العقلية الجديدة التي جاء بها سعاده بالعقلية العتيقة السائدة في سورية، التي يظنها السيد زكي قنصل من طبيعة نفسيتنا، وليست هي كذلك.

ولكي يدعم دليله، يجيئنا السيد زكي قنصل، الجاهل الذي يريد أن يدعي العلم، بهذا «البرهان» الصبياني: «وهل تعتقد أنك كنت تجد فينا من يذكر الله لو لم يغرنا بأطايب النعم، ويبهر أنظارنا بمحاسن الخلود؟» فهو يريدنا أن نعتقد أنّ الدين تمكن من أن يثبت نفسه من غير استناد إلى العقل والمنطق، وهو شيء إن دلَّ على شيء فعلى جهل صاحب هذا القول، فلو لم يتمكن الدين من تقديم البراهين العقلية التي يمكن أن تطمئن إليها حلوم الأزمنة التي لم يدركها العلم الحديث، لما كان أقدم الناس على الجهاد والتضحية. ولو لم يجد أهل أي دين أنّ دينهم يصلح وينظم طرق حياتهم ومعاشهم في هذه الدنيا قبل الآخرة، لما اعتنقوه وتمسكوا به، فكل دين يخلو من حكمة يقبلها العقل لا يثبت وقتاً كافياً ليدخل التاريخ. فالعاطفة هي جزء واحد وحالة واحدة من أجزاء وحالات النفس الإنسانية، وكل دين أو إيمان، علوي أو دنيوي، سواء ابتدأ بالعاطفة أو بالعقل، لا يمكنه أن يقوم بالعاطفة وحدها.

ولولا الكتب والمؤلفات العقلية التي لا يحصى عددها في كل دين لما ثبت الدين الروحاني على الأيام وغزوات العقل. ومقدار ما يُطلب من الشؤون العقلية في كل دين يكون على نسبة درجة ارتقاء أهله الثقافي، ولذلك نرى كل دين يضطر إلى مجاراة الارتقاء العقلي ليثبت، فتكثر التفاسير ويتسع باب الاجتهاد لجعل الدين ينطبق على المتطلبات العقلية وضرورات الارتقاء النفساني. وما تصوير الجنة والثواب والعقاب والخلود سوى أمور لا يسع غير الجاهل القول بأنها أمور عاطفية فقط، وأنه بهذه «العاطفة» البسيطة اندفعت الإنسانية وراء الأديان. وإذا كانت «العاطفة» وحدها تكفي لنشوء الدين فلماذا علّم المسيح تعاليم تطلب تضحيات «عاطفية» عظيمة، ولماذا أقام محمد الشرع واهتم بالحقوق والعقود؟

الحقيقة أنه لا يقدم على اقتحام هذا الموضوع الفلسفي العميق بمثل هذه السفسطة التي يجيئنا بها زكي قنصل إلا من كان مثله جاهلاً جهلاً مطبقاً، ركب رأسه مركب الغرور والدعوى، ولا يمكننا أن نفسر بغير الغرور والجهل ادعاء زكي قنصل، أنّ ما يجعل الكتابة في موضوع الحزب السوري القومي أمراً من أصعب الأمور هو فقط «وجود أعداء للحزب يريدون أن يقضوا عليه القضاء المبرم». فالكتابة في موضوع الحزب السوري [القومي] تتطلب ثقافة راسخة وعلماً واسعاً واحتراماً وتهيباً من كل من يقدم على معالجة رسالته القومية الرامية إلى وضع أسس جديدة، يقوم عليها بناء المجتمع الروحي والمادي.

ولكن من أين لنا أن يرعوي المغترّون عن غيّهم وضلالهم ويتنبهوا للضجة الفارغة التي يثيرونها في مجلس رصين؟ ومن أين لنا أن يفهم زكي قنصل، وأترابه «الشعراء» الذين خلعوا العذار واقتحموا أبواب المواضيع العلمية والفلسفية اقتحاماً، محاولين إيهام الناس أنهم أهل لتناول هذه المواضيع، لأنهم نظموا كثيراً أو قليلاً مما يدعى في الاصطلاح قصيدة، لأن عدد أبياتها من السبعة فما فوق، وهكذا أصبح يقال لهم «شعراء»!

أجل، إنّ السيد زكي قنصل لا يرى في الكتابة في موضوع الحزب السوري القومي صعوبة علمية ــــ فلسفية تدعوه إلى تهيب الموقف. والشيء الوحيد الصعب له هو «أعداء الحزب» الذين يخاف أن يذهب بين سنابك خيلهم هو وأضرابه ممن «لا ناقة لهم في هذا الشأن ولا جمل».
»أعذر من أنذر«

سورية الجديدة، سان باولو،
العدد 77، 3/8/1940 والعددان 79 و80، 24/8/1940

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى