ضِغْثٌ على إبّالة – مشروع ثقافي سياسي مصري

بين الأخبار الواردة في صحف الوطن منذ شهرين الخبر التالي:
«توثيق الروابط الثقافية بين الأقطار العربية«
«القاهرة ــــ (الوكالة العربية) علم مندوب الوكالة العربية أنّ وزارة المعارف المصرية تكاد تنتهي من إعداد مشروع يرمي إلى توثيق الروابط الثقافية بين مصر والأقطار العربية المجاورة، وينص هذا المشروع على إنشاء عدة مدارس مصرية في عواصم الأقطار العربية كالمملكة العربية السعودية وفلسطين والعراق ولبنان وسورية، على أن يستهدف هذا البرنامج توحيد الثقافة العربية على ضوء ضرورات الظروف التعاونية بين مختلف هذه البلدان.
وتقول الصحف المصرية في هذا الصدد إنّ تنفيذ مثل هذا المشروع تعتبره وزارة المعارف المصرية مقدمة عملية لفكرة عقد مؤتمر عربي للتعليم».

كثيرون يقرأون هذا الخبر البسيط ويعدّونه مفرحاً وداعياً إلى التفاؤل «بتقارب الأقطار العربية» عن طريق الثقافة، لا سيما أولئك السوريون الذين يسمّون أنفسهم عرباً أو عروبيين.
ولا شك في أنّ وجود هذا التحمس «العروبي» عند السوريين الذين أضاعوا شخصيتهم القومية واستعاضوا عنها بالعصبية الدينية هو ما شجع رجال الحكم في مصر على اتخاذ هذه الخطوة الجديدة لمدّ النفوذ المصري في سورية بواسطة الثقافة، منتهزين فرصة زيادة البلبلة الاجتماعية السياسية في وطننا وما يجرّه من ضعف المعنويات.
منذ مدة غير يسيرة ونحن نراقب حركات المطامع المصرية السياسية في العالم العربي، خصوصاً في اتجاه سورية والعراق، الذي هو مكمّل لسورية، وقد تجمّع عندنا طائفة كبيرة من الأخبار السياسية والاقتصادية والثقافية التي تقيم الدليل تلو الدليل على الحركات المذكورة.
وهذه الخطوة الجديدة ليست سوى واحدة من خطى.

ابتدأت مصر تسعى لمد نفوذها نحو سورية والعراق لعدة سنوات خلت.
فسعى اقتصاديوها لإنشاء فروع لمصارفهم المالية فيها.
وهذه الخطوة الاقتصادية هامة جداً من الوجهة السياسية لدخولها مباشرة في حياة الأفراد والجماعات السورية وضروراتها.
وظهر اجتهاد مصر لتجعل نفسها مركز الثقافة العربية اللسان بإنشاء المجمع أو المؤتمر العلمي العربي وباستغلال نفوذ الصحافة المصرية، الذي أسسه علماء وكتّاب سوريون، للإذاعة عن المشاريع الثقافية والاقتصادية المصرية.
أما المجمع العلمي فقد بلغنا أنهم كانوا يسألون العلماء السوريين وغيرهم القادمين إليه «هل يعتقدون ويعترفون بزعامة مصر العلمية؟».

وظهرت المطامع المصرية السياسية ظهوراً قوياً قبيل الحرب الحاضرة في الحملة الصحافية الطالبة ضم فلسطين إلى مصر.
وقد حاولت مصر أن تبرر هذه الحملة بالتظاهر بالاهتمام بمسألة فلسطين ومشكلة اليهود.

ولكن طلب إلحاق فلسطين بمصر ظهر علناً في عدة مقالات صحفية وتصريحات بعض رجال الأحزاب المصرية وفي تصريح وزير خارجية مصر حين رد الزيارة لوزير خارجية تركية سنة 1939، إذ أشار الوزير المصري إلى أنه لم يبقَ بين مصر وتركية من أرض معترضة «غير فلسطين».
وشرب الوزير المصري، في تلك الزيارة، نخب التقدم التركي على حساب سورية في منطقة الإسكندرونة. والظاهر من تلميح الوزير المصري أنّ مصر لا تعترض على زيادة التقدم التركي حتى يشمل كل شمال سورية فلا يبقى بين مصر وتركية غير فلسطين التي يطلب المصريون ضمّها إلى مصر، كماي طلب ابن السعود الاستيلاء على العقبة وبهذه الكيفية تصير مصر متاخمة لتركية، وتركية متاخمة لمصر، وتتصل بتخومهما تخوم المملكة العربية.

كلا، ليست خطوة مصر الجديدة حركة ثقافية بريئة، بل هي مشروع ظاهره ثقافي وباطنه سياسي.
والباطن هو الغرض.
إنّ التفكير في إنشاء مدارس مصرية في سورية التي كان لها السبق على مصر في مضمار العلم والثقافة، وبينما زهرة الصحف الثقافية المصرية لا تزال في أيدي سوريين وأبناء سوريين، هو أمر فيه نظر.
ويمكن التقرير، قبل كل شيء، أنه لا فائدة لسورية من إنشاء مدارس مصرية في أرضها غير إضافة تيار ثقافي سياسي جديد يزيد التصادم السياسي الداخلي ويُكثر النزعات والتشتت الروحي.

إنّ مدارس مصرية في سورية لا تكون غير ضغث على إبّالة.
فسورية، من الوجهة العلمية، وفيها ثلاث جامعات كبيرة هامة، عدا عن مئات المعاهد العلمية القومية والخصوصية والأجنبية، ليست بحاجة إلى زيادة المدارس الأجنبية ذات المرامي الخصوصية، بل سورية في مقدمة الأقطار العربية التي ترسل بعثات تعليمية إلى الخارج.
ولو كانت البعثات السورية العلمية السابقة ذات وعي سوري قومي اجتماعي، لأمكن سورية أن تلعب أهم دور في تثقيف الشعوب العربية وتقريب عقائدها وقيادة أفكارها.
وعسى أن لا يكون بعيداً اليوم الذي تصير فيه البعثات السورية العلمية صالحة للاضطلاع بأعباء هذه المهمة العالية التي تضعها عليها النهضة السورية القومية الاجتماعية، التي ترى أنّ تقريب الأقطار العربية بعضها من بعض يجب أن يكون لمصلحة جميع الأقطار المذكورة.

الظاهر أنّ الغايات المصرية السياسية في سورية لم تعد خافية حتى ولا على حكومة كحكومة الشيخ تاج الدين الحسني وحكومة ألفرد نقاش.
فقد وردت أخبار أنّ الحكومتين ردّتا دعوة الحكومة المصرية للاشتراك في «المؤتمر الثقافي العربي» الذي قررت الحكومة المصرية إجراءه في مصر، محتجتين بالفصل المدرسي وعدم إمكان تخلي الأساتذة في المعاهد العلمية عن واجباتهم.
وهذا أمر جوهري وحجة قوية.

إذا استفاق معظم السوريين بسرعة لأهمية التعاليم السورية القومية الاجتماعية لحياتهم ورسالتهم إلى العالم العربي والإنسانية، وإذا قُدِّر لهذه النهضة القومية الاجتماعية النجاح السياسي السريع، فعمل سورية في إنهاض الأقطار العربية وإعدادها الثقافي سيكون عظيماً.

فمهما قيل عن التقدم العلمي والأدبي والفكري في مصر، فإن مجموع العلماء والأدباء والمفكرين السوريين ونوعهم يكسبان سورية مركز الثقل في الشؤون الثقافية والعلمية بلا جدال، ونعتقد أنّ الشعب السوري سيكون جديراً بالمهمة التي وضعتها العناية على عاتقه.

أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،

العدد 56، 16/11/1942

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى