عرض سريع للأحزاب السياسية المنحلة في الجمهورية اللبنانية 2

1 ـ الكتائب اللبنانية

نشأت “الكتائب اللبنانية” بإيعاز، قيل إنه من بعض المراجع الإكليريكية المارونية، التي لم تنظر بعين العطف إلى نشوء حزب الوحدة اللبنانية، التي كانت بدورها تستمد ـ كما ألمعنا في مقالنا السابق ـ نفوذها من مرجع كبير في دولة الإكليروس الماروني، وقيل إنه من بعض الشخصيات التي تعطف على فكرة لبنان الفينيقي. ومهما قيل فنحن نعرف والناس مثلنا يعرفون أنّ “الكتائب اللبنانية” نشأت بإيعاز، كان يقصد منه حالة معينة: لدعم مكانة بعض الأفراد في الجمهورية اللبنانية، ولمحاربة الحزب السوري القومي ثانياً، وهي من هذه الناحية تتفق مع زميلتها “الوحدة اللبنانية”. واتخذت لنفسها الرياضة قناعاً تخفي وراءه وجهاً طائفياً بحتاً، هو وجه ماروني لم تتمكن من إخفائه طويلاً في حياتها القصيرة، وحتى بعد انتقالها إلى رحمته تعالى، ففي الاضطرابات الأخيرة أطل هذا الوجه من شبّاك مدرسة الحكمة ومن شبابيك مدرسة اليسوعية وإدارة جريدة البشير. أما الفكرة الرياضية التي ادعتها “الكتائب” فلم تظهر في أي عمل من أعمالها، فهي لم تعنَ بالحفلات الرياضية ولم تقدم جوائز كما تفعل المؤسسات الرياضية عادة، وكل ما قامت به “الكتائب” أنها كانت تقيم استعراضات في الشوارع كلها انتهازية بمناسبات خاصة وعند رأي بعض الناس.
الكتائب والوحدة ـ قامت “الكتائب” و “الوحدة” تحاربان جبهة واحدة مشتركة كان لها تفاعيل كبيرة في البلاد، ويقتبسان عن هذه الجبهة القومية القوية فكرة التنظيم، فيقلدانها بالمظاهر الخارجية، وقامتا تحاربان بعضهما البعض في الوقت نفسه، هما تتفقان في مارونيتهما وفكرتهما الضيقة، وفي محاربة النهضة القومية، وتختلفان من وجهة ثانية، فـ “الكتائب” صنيعة جهة والوحدة صنيعة جهة أخرى. ومن يوم تأسست “الكتائب” احمرت عليها عيون أعضاء الوحدة. فقاموا يطعنون ببعضهم البعض طعناً جارحاً أليماً. فكشفوا عن نواياهم الاستغلالية وأظهروا للناس أنهم يضللون الناس، ويفضحون أنفسهم أمام الناس.
وقامت مناوشات عديدة في جميع الجهات اللبنانية بين افراد “الكتائب” و “الوحدة”. وهذا وحده كاف لأن يجعلنا نؤكد للرأي العام أنّ “الكتائب” “الرياضية” ما قامت على فكرة الرياضة مطلقاً، إذ أي دخل للرياضيين من “الكتائب” بمبادىء حزب سياسي بحت لو لم تكن الأغراض الشخصية هي التي تسيِّر “الكتائب اللبنانية”؟
الكتائب تنقسم على نفسها ـ إنّ “الكتائب” كجميع المنظمات التي تخفي وراءها غايات ومقاصد شخصية، لم تتمكن من أن توحد صفوفها في جبهة قوية، فقد أدى التنافس والتطاحن بين الأشخاص على الأشخاص إلى انسحاب الأستاذ شفيق ناصيف النائب وقسم كبير من الشباب، وكانت مناورة يقصد منها إسناد الرئاسة إلى السيد بيار الجميّل الرئيس الحالي دون منافس أو مزاحم.
ونجحت المناورة نجاحاً تاماً، وتمكن المناورون من أن يامنوا جانب المنسحبين.
أعضاء الكتائب ـ لا شك أنّ بين أعضاء “الكتائب” وبين أعضاء “الوحدة اللبنانية” بوناً شاسعاً من جهة الثقافة، فالكتائبيون في معظمهم مثقفون تثقيفاً لا بأس [به] من الوجهة النظرية، ولكن اتجاههم العملي محدود في أفق ضيق، وتفكيرهم تخنقه الأوساط التي لها في خنقه مآرب، والتي تأبى على الشباب انفلاته من جو الطائفية الضيقة ليعمل في سبيل المجموع كله.
ولم نعرف أنّ بين افراد “الكتائب اللبنانية” عضواً له وظيفة كاهن، كما راينا في أعضاء “الوحدة اللبنانية”، ومديرو فروعها في القرى كانوا من الكهنة.
رئيس الكتائب ـ وهذا أيضاً من عائلة إقطاعية من المتن يتوارث المشيخة، كزميله عواد، أباً عن جد، تفكيره تفكير رياضي، وقد يكون دون مرتبة الكثير من أعضاء “الكتائب” ثقافة وعلماً ونضوجاً.
جنتلمن.
قيل إنه يفكر بدماغ ابن عمه المحامي موريس الجميّل ويضرب بعصا اليسوعيين.
عرف في الأوساط أنه حكمٌ دائم للمباريات الرياضية في لبنان، وهذه ميزته الوحيدة. أفكاره تعيش في وسط ضيق ولا تحس بالتململ من هذا الوسط، كنفوس قادة النهضات الكبرى في العالم.
قيل إنه كان في المظاهرات الأخيرة على رأس رفاقه، وقيل إنه كان مولّياً، فجاءته ضربة على رأسه أوقعته على الأرض، وكان رفاقه يهربون من حوله. كثرت تصاريحه في الآونة الأخيرة حول شراء “الكتائب” وبيعها، فقد حصر همّه في نفي بيع “الكتائب”، ولعلها كانت من باب تأكيد النفي.
ولقد استغل الانتهازيون في الحوادث الأخيرة اسمه وكتائبه ليفجروا أحقادهم، فجعلوا من الحبة قبة ومن النبأ أسطورة ومن التلة جبلاً.


2 ـ الجبهة القومية

إستفاق الأستاذ يوسف السودا يوماً من الأيام على جلبة صاخبة، فالأحزاب تتألف في لبنان على أثر ظهور الحزب السوري القومي، وفي تأليفها تنميق وخرفة، فرأى السودا نفسه في معزل من هذه الحركات، وجال في رأسه هذا الفكر: لماذا لا يكون رئيساً لحزب؟
إستعرض يوسف السودا ذكريات تاريخه المجيد، يوم كان في مصر، يملأ جوانب محكمة الاستئناف بفيض من عبقريته الحقوقية، ويوم عاد إلى لبنان يحمل إلى جانب اسمه الكريم لقب “أستاذ” الطريف في ذلك الحين، ويوم أسّس عقيب عودته هذه حزباً دعاه “حزب المحافظين” يرمي إلى المحافظة على كيان لبنان، ويوصل السودا إلى منصب ومجد مرغوبين، ويوم أنشأ جريدة باسم الراية بمساعدة بعض المهاجرين اللبنانيين الذين تبرعوا وأهدوه مطبعة لهذه الغاية، ويوم صعد على أكتاف الراية و “المحافظين” بمعاونة الأوساط الإكليريكية إلى كرسي النيابة في المجلس النيابي على عهد الجنرال سراي، حيث لم يتشرف به هذا الكرسي المنشود سوى أربع وعشرين ساعة طار بعدها المجلس النيابي بقضه وقضيضه بأمر من الجنرال سراي، وأخيراً يوم عاد إلى المجلس النيابي اللبناني على أيام العميد الصامت المسيو بونسو.
استعرض يوسف السودا كل هذه الذكريات الحافلة بالزهو والكفاح، والتفت إلى راسه بالمرآة فرأى الشيب يتخطى إلى شعره المزروع في مؤخرة راسه، كاشفاً عن جبهة عريضة، خليقة باستيعاب كل ما في الكون من ألام وآمال فهاله الأمر، وأدرك أن الشيخوخة تستبقه دون مأثرة تسجل اسمه في التاريخ مقرونا بالمجد والخلود، فضرب كفا على كف، ومشى إلى أنصاره ورفاقه، يلقي عليهم ما اكتسبه من بلاغة في التطبيق والكلام، فكانت “الجبهة القومية اللبنانية” وكان بيانها في الصحف، يملأ فسحة لا بأس بها، يُذيّله توقيع يوسف السودا مشفوعاً برئيس “الجبهة القومية”.
هدف الجبهة ـ وكان هدف الجبهة يتلخص في إعادة الدستور والحياة الدستورية إلى لبنان، وعقد معاهدة مع فرنسة ونفي كل مصلحة انتخابية، ومن هذا الهدف أدرك المدركون أنّ الجبهة حركة سياسية انتهازية مؤقتة. وقد كان من المنتظر أن تتلاشى الجبهة بعد أن تحقق هدفها بدون أدنى علاقة ولا تدخّل منها، ولكن السودا أبى إلا أن يحتفظ بالجبهة، وبرسائة الجبهة. والجبهة أصبحت، كما هو معلوم، تقتصر على الرئيس وعلى أفراد قلائل، منكمشين على أنفسهم في زوايا مكاتبهم، على هامش الحياة السياسية.
السباقة ـ رأى الأستاذ السودا، بالاتفاق مع زملائه في الجبهة، أنّ جبهتهم تقتصر على المتقدمين في السن، والذين تجري في عروقهم دماء باردة فلا مظاهر فضفاضة، ولا ألبسة تقليدية منمقة ولا استعراضات في الأسواق كـ “الوحدة اللبنانية” و “الكتائب” ولا تطبيل وتزمير له ولزملائه في المناسبات العامة، فالجمود يكتنف الجبهة من جميع نواحيها، والفراغ يحيط بأهدافها. فمن الضروري أن يكون لها مظاهر مزخرفة أخاذة تلقي على هذا الفراغ ستاراً من الوهم، والجلال المصطنع.
ومن هنا تولدت فكرة “السباقة” و “السباقة” هذه فرقة تابعة للجبهة، تشبه الكشافة في ألبستها وأنظمتها، أو على الأصح هي أقرب إلى فرقة من صفوف تلامذة الأيتام منها إلى أي شيء آخر. ولعل ما يجعلها كذلك هو اقتناؤها آلات موسيقية تشبّهاً بآلات الجيش الموسيقية. والسبب في اقتناء هذه الآلات يعود إلى رغبة الرئيس السودا وأعوانه في التطبيل والتزمير.
وأما أعضاء “السباقة” فمعظمهم من الأولاد، والبقية فمن الفتيان المأخوذين بالظواهر الغرارة.
مصير الجبهة ـ واليوم تتوارى “الجبهة القومية اللبنانية” مع قافلة الأحزاب اللبنانية الأخرى التي ولدتها الرجعية والإكليريكية، كردّ فعل للنهضة السورية القومية الخطيرة. ويصبح يوسف السودا خالي اليدين من وسيلة كان يظنها الوسيلة التي يرجو منها خيراً لإيصاله إلى مطمحه في منصب رفيع في الدولة.

أنطون سعاده
1937

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى