قانا، مطرقةُ الثّوابت

وائل مفيد ملاعب

ملعونةُ هي تلك الذّكريات المُعلّقة على حبالٍ في صحراء خاليةِ الأفق

ملعونُ لونها الأحمر الّذي إذا ما بَهُتَ احمرارهُ، كان الكحلُ فيهِ يزدادُ كُحلًا

كيف لجدران المنازلِ أن تتعرّى من وجوهٍ تصبّرت وحنّطها الصّبرُ حتّى باتت تشبهُ الحجارةِ الصّمّاء المُعلّقةِ بها

مهلًا…

أوليست هي عينها الذّكريات الّتي تحرّكُ القلم اليوم؟

كيفَ لِميتٍ أن يمتلك كلّ هذا الدّفع نحو الوجود؟

نعم، هي كلّ الحياة بحركتها الدائمة وتقدّمها المستمرّ، فهذا اللّونُ الأحمر هُناك لا بُدّ أنّه لونُ القبس.

والأسودُ القاتمُ تُراهُ ليل الهانئينَ النّائمينَ السّالمينَ على وسادةِ الذّكريات بعد أن تصلّبَت ظهورهم من تعاريج المغارةِ والهزائم.

الله يا قانا

كم درسًا في ذكراكِ يحضرنا، كما لو أنّ وعينا الجماعيّ بحاجةٍ دائمةٍ إلى راهنيّة التّضحيات الكُبرى،

الله يا قانا .

كم طفلًا علينا أن نُحدّثهُ عنكِ كلّ يوم لِنَكفلَ استواء الإدراكِ في أجيالنا لِما أنتِ عليه وما كنت.

أذكُرُ منذ ذلك الوقت، أنّ قانا لم تكُن نكبتنا محطّتنا الأولى، لكنّني كنتُ وما زلتُ مستهجنًا حاجة عقولِنا ورغبةَ وعيِنا بتكرارِ التّجارب، فالحماقة الّتي لا تشفع لها قوانين هي أن لا تكون قانا درسنا الأخير لنُثبِت بالإسقاط الماديّ الواقعيّ الحيّ كلّ ما تتناقلهُ ألسنتنا من فرضيّات الثّوابت الّتي اعتدنا تردادها ولم نعتد عناقها بأذرع اليقين.

قانا، تلك المرويّة الّتي كانت الفيصَل في تقييم كلّ المواقف وكل الثّوابت.

قانا، تلك السُّبحةَ الّتي أثبتت وجوديّة الصّراع ونهائيّته لا بشريعةٍ مخطوطةٍ على ورق، بل بجثّةِ ما يزيدُ عن خمسينَ طفلًا قَتَلهُم من يزعمون أنّهُم أحفادُ صاحِبِ الألواحِ وأبناء ذلك الوعدِ المزعوم.

قانا، تلكَ الومضةُ الّتي أوضحت لنا حقيقةَ ارتباطنا بالأمم، وقدّمت لنا صورةً رُباعيّة الأبعاد شديدة الوضوح عن عدالةِ الأقوياء.

بعد ذلك اليوم، كنتُ بحاجةٍ لأن أرمي كتُبَ التّاريخ في موقدةِ جدّتي حتّى لا يبقى منها أيّ ذِكرِ لما يُسمى بالعدالةِ الدّوليّة والأعراف الأمميّة والمواثيق والحقوق الّتي ترعاها شلعة المتحصّنين وراء ميزانِ النّار والبارود.

مئةٌ وستة أجسادٍ تطايرت في مركز “فيجي”  التّابع لليونيفيل التّابعة بدورها للأمم المتّحدة من دون أن تستطيع دول العالم مجتمعةً منع هذه المجزرة الموصوفة، لا بل أنّها لم تستطع الاستحصال على قرارٍ ولو شكليّ بإدانةِ الكيان اليهوديّ لارتكابه هذه المجزرة بحقّ كلّ المفاهيم الإنسانيّة الدّوليّة المُتّفق عليها حتّى منذ ما قبل التّاريخ الجليّ.

قرار الإدانة هذا، رغم يقيننا بأنّه ليسَ ذا قيمة فعليّة في إحقاق الحقّ ما لم يكن مستندًا إلى قوّةٍ يُسيّرها الحقُّ عينه، إلّا أنّه مُنعَ بنقضٍ من أكبر الدّول المُدّعية للدّيمقراطيّة في العالم، مُنع بفيتو أميركانيّ ممنوحٍ لها بفعل الواقع لا بفعل العدالةِ والشّرع، منعَ بفعل الاستقواء القائم على التّحقير والإذلال لكلّ شعبٍ لا يملك مقوّمات الوقوف في وجه التّنين من أقصى الشّرق إلى أقصى الغرب.

الغريب في ما سبق ليس الحدث عينه، بل أنّنا وبعد خمسةٍ وعشرينَ عامًا على صلبِ آخرِ رواسب القناعةِ بكلّ المفاهيم المكتوبةِ بشحمِ آليّات الحربين العالميّتين الأولى والثّانية، ما زال بيننا من يقيمُ الوزنَ لهذا “العدل” المُنافق، لا بل يتعدّى إقامة الوزنِ في أغلب الأحيان ليصل مرحلةَ الاستجداءِ والتّزلّف والتّبعيّة والعمالةِ.

عِشقُ الجلّادِ هذا مُتوارَثُ عند عدد من أبناءِ شعبنا للأسف، لكنّ الحياة اليوم قد تغيّرت والأمم جميعها قد أفرزت قاطنيها بينَ ساعٍ للعيش دون أي اعتبارٍ لما دونهُ من تنازلاتٍ وطنيّة وقوميّة، وبين عاملٍ مصارعٍ مجتهدٍ ومجاهدٍ في سبيل الحياة الّتي لا تكونُ بغير العزّ، هذا العزّ الّذي اخترناه واختارنا وقبلناهُ بكلّ ما يحذوهُ من مخاطر وويلات لم تكُن قانا أوّلها ولن تكونَ آخرها.

حسبُنا يا قانا أنّكِ اليومَ تُزهِرينَ زعترًا وياسَمينًا، وترمين خمسةً وعشرينَ نجمًا من رُباكِ إلى السّماءِ كلّ صباح, وتتوثّبينَ بيننا كصبيةٍ مزهوّةٍ بخصرها المُتماهي مع مدارِ الكواكب.

حسبنا يا تدمُرَ هذا الزّمان أنَّ حُماتكِ الجبابرة يملأؤونَ الصّحاري والجرودَ والوديانَ والقلوبَ والحنايا بسلاحٍ مُلقّمٍ يستجدي الحسمَ كلَّ ما تزوبعتِ الرّيح ولا يستجدي عدالةَ المجرمين الدّوليّين، بينما ذبّاحكِ يرمي أوراقَ وردهِ واحدةً تلوى الأخرى علّ الأخيرة تأتيهِ بِحظّ يُبقيهِ… ولن يبقى.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى