لائحة العقاقير لا تصنع طبيباً..

عندما كانت البلاد رازحة تحت وطأة الاحتلال الأجنبي الرجعة وكانت الرجعة نفسها تتزعم تململ الشعب من الحالة التي لا تطاق، مذكية نار الحقد والكره للأجنبي، وعاملة على توجيه نقمة الشعب إلى الاستعباد الخارجي فقط، ومستغلة هذه النقمة على التسلط الأجنبي لتأييد طغيانهم واستعبادهم الداخليين، عندئذ تأسست الحركة القومية الاجتماعية على مبادىء الوجدان القومي والعدل الاجتماعي في النظرة المدرحية إلى الحياة والكون والفن، معلنة أنّ كره الأجنبي لا يحل مشاكل البلاد وأنّ تغيير أسس الحياة القومية ـ الاجتماعية ـ المناقبية ـ النفسية ـ الاقتصادية ـ السياسية أمر لا بدّ منه لتغيير حالة الأمة وأنّ أسس الحياة القومية الاجتماعية هي أسس النهوض بالشعب وبعمران البلاد، فكانت حركة انقلاب فكري فاصل في تاريخ الأمة وثورة على الرجعة الداخلية وعلى الطغيان الخارجي في آن واحد.

أدى ظهور هذه الحركة الإصلاحية إلى تحالف وثيق بين الرجعة الداخلية والاحتلال الأجنبي في أعنف حرب شهدتها حركة بعث قومي وإصلاح اجتماعي في العالم كله!

بيد أنّ التحالف المذكور انتهى، بعد سنين صراع هائل، بالتقهقر أمام المبادىء الجديدة المتفوقة واضطرت الرجعة، بحزبياتها الدينية وإقطاعيتها وقضاياها التقدمية الرجعية وأخذت اقتباس أشكال الحركة القومية الاجتماعية الفاتحة المنتصرة. فظهرت النايورجعية بأحزابها الجديدة وقضاياها التقدمية الرجعية وأخذت تقتبس من تعاليم النهضة القومية الاجتماعية الأشكال والتعابير الإصلاحية وقواعد التنظيم وتفرغ ما تقتبسه على غاياتها التقليدية التي هي علّة الأمة الداخلية القتالة، إبقاءً عليها واستغلالاً للنفسية الموروثة من عهد الخمول.

عندما زال الاحتلال الأجنبي، ظهر بجلاء أكثر، صدق نظر الحركة القومية الاجتماعية التأسيسي. فما كادت القوات الاحتلالية تنسحب، حتى برز الضعف الداخلي الناتاج عن سوء الأساس الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ السياسي للمجتمع السوري كله، وعظم عند الناس الشعور بالحاجة إلى الإصلاح وتغيير الحالة. فأخذت قوة التعليم القومية الاجتماعية تبرز وأخذ يتضح أنّ في مبادىء الحركة القومية الاجتماعية، العقدية، التي تضع اساساً جديداً للمجتمع يمكّنه من النهوض والتعمير، الحلو الصحيحة للمشاكل الاجتماعية والسياسية الجوهرية، فلم يكن بد لأصحاب القضايا الرجعية ولأصحاب الغايات والمطامح الخصوصية من الالتجاء إلى هذه المبادىء والتعاليم القومية الاجتماعية والاقتباس عنها.

إنّ في البلاد اليوم طفرة خطرة ـ طفرة أحزاب يبرر وجودها نغم جديد هو نغم “الثقافة والمثقفين”! كثير من الشباب الذين ربوا بلا وعي قومي ولا ثقافة في المسؤولية القومية وتعلموا في بعض المدارس والجامعات الأجنبية والوطنية وتخرّجوا منها، يدفعهم طموحهم الشخصي إلى انتهاج السياسة وتأليف الأحزاب والتكتل فيها ابتغاء بلوغ الغايات الخصوصية والمطامع الشخصية. ويكفي تبريراً لاندفاعهم أنهم “شباب مثقف” أي متعلم يعرف القراءة والكتابة والحساب والصرف والنحو والتاريخ غير الصحيح للأمة التي هو منها ولبلاده والجغرافية السياسية المشوهة، وقد يكون درس الحق لمزاولة مهنة المحاماة أو الطب أو الهندية، أو تخصص في الأدب العرب أو في أدب أوروبي ـ لا توجد دراسة للأدب السوري ـ أو في تاريخ معيّن مشوه أو غير مشوه فيكفي علمه، بالإضافة إلى تربيته في لا وعي قومي ولا مسؤولية وفي العقائد الرجعية من حزبية دينية وغيرها وبالإضافة إلى مطامحه ومطامعه، مبرراً كافياً لطلب إنشاء حزب أو دخول تكتل سياسي. وحينئذٍ يبتدىء النظر في تشكيل “غاية الحزب ومبادئه”، أي إنّ “غاية الحزب ومبادئه” تكون الواسطة لتأليف الحزب وإحداث التكتل السياسي الذي يحقق المطامح والمطامع الخصوصية فهي ليست غاية حقيقية، بل واسطة لغايات تتستر وراءها، ولكنها تُعرض على الناس كغاية حقيقية لتكثير الأنصار الذين يمكن أن يتوهموا غاية حقيقية في واسطة سياسية!

تحتاج أحزاب الغايات الخصوصية إلى غايات عمومية واسطة لوجودها وغاياتها الخصوصية الأصلية، فيجري البحث عن “المطلوب” الرائج. فالمطلوب للحالات السيئة هو “الإصلاح” فيجب أن تدخل في واسطة تشكيل الحزب الواسطي “مبادىء إصلاحيى”. ولما كانت عامة الشعب الذي يحتاج إلى الإصلاح مرتكزة إلى عقائد وأسس نفسية واجتماعية غير صحيحة وجب أن لا تتعارض مبادىء الإصلاح في الحزب الواسطي مع العقائد المتعمدة عند سواد الشعب. ومن العقائد البالية والمبادىء الإصلاحية يتكوّن هذا المزيج الغريب من الفاسد والصحيح ومن التهريب والإصلاح، في تسوية بديعة يجعلها “الشباب المثقف” واسطة غايته وغاية “حزبه”!

باقتباس مبادىء الحركة التقدمية القومية الاجتماعية وباعتماد المعتقدات الرجعية تنشأ أحزاب الواسطة على أساس التسوية لخدمة المطامع الفردية والغايات الخضوصية.

إنها لتسوية بديعة تلك التسوية التي تطلب إرضاء الحاجة إلى الإصلاح وإبقاء القديم على قدمه. وقد عبّرت عن هذه التسوية مرة بالمجاز” كمن يتقدم إلى الحرية راسفاً بقيود العبودية التي يرفض التحرر منها لأنه ألفها إلى حدّ أنه لا يقدر أن يتصور الحياة بدونها.

تضج البلاد كلها اليوم بنداءات أصحاب الإصلاح الوسطي التدجيلي الذين يريدون أن يحرروا من غير أن يتحرروا وأن يصلحوا غيرهم بدون أن يصلحوا أنفسهم وأن يشقّوا الأمة بأمراضهم النفسية وأن يكبلوها بحرياتهم المستعبدة وأن يرفعوها إلى الحضيض الذي ينحدرون إليه!

إنّ أمراض الأمة ليست في الانتخابات والمجالس النيابية والرشوة والمحسوبية والتدخل في القضاء وإساءة استعمال السلطة. إنّ هذه أمراض الدولة ـ أمراض الحكومة والإدارة العامة. إنها البعض القليل من أمراض الأمة. إنها نتيجة أمراض الأمة. فإدارة الدولة تعكس بكل أمانة النفسية التي نشأ منها رجالها، فإذا كانت هذه النفسية نفسية القضايا الدينية السياسية والمطامح الفردية والمطامع العائلية والمنافع الخصوصية ـ نفسية القوميات الرجعية والإصلاح الواسطي كانت إدارة الدولة مشحونة بممثلي هذه النفسية وأمراضها.

لا يمكن إصلاح أمراض الإدارة والنظام الإداري بدون إصلاح العلة في أهلها ـ في حالة الأمة النفسية ـ المناقبية، في المبادىء القومية ـ الأخلاقية ـ الاجتماعية ـ السياسية التي تكوّن قضية واحدة لا تتجزأ، إذ لا يمكن الإصلاح السياسي بدون الإصلاح الاجتماعي ـ الاقتصادي ولا الإصلاح القومي ـ الوعي القومي ـ بلا الإصلاح النفسي ـ المناقبي. فكل إصلاح واسطي، وصولي يتناول جزءاً أو بعض أجزاء هذه القضية هو إصلاح ناقص فاسد! وكل حزب أو فئة أو تشكيلة أو مؤسسة تنادي بالإصلاح الشكلي، السطحي بينما هي غارقة في خصوصياتها وواسطياتها هي بعيدة جداً عن الأمانة للحقيقة وعن الإصلاح الحقيقي!

وقد نشأت في المدة الأخيرة فئة جديدة من المصلحين الواسطيين هي فئة الخونة الذين انتموا إلى الحزب القومي الاجتماعي وتعلموا مبادىء قضيته الإنشائية الإصلاحية العظمى ولكنهم لجبنهم أو لنفعيتهم انهزموا من المعركة واتجهوا نحو التسوية الوصولية ـ التسوية بين مبادىء النهضة القومية الاجتماعية من جهة والنفسية الرجعية وقضاياها النايو رجعية من الجهة الأخرى! وبالتسوية الانهزامية، الواسطية، يصيرون أبطال إصلاح طويل عريض!

إنّ علل الأمة ليست فقط اجتماعية بمعنى اقتصادي بحت أو سياسية محضة، بل هنالك قضيتان أساسيتان بدون حلهما تبقى العلل آخذة بعضها برقاب بعض هما: قضية المجتمع بكامله ـ قضية وجوده وشخصيته الحقوقية والسياسية ـ وقضية نفسية المجتمع ومناقبيته. إنّ الأمم التي تعالج اليوم مشاكل الاجتماع الاقتصادية، على أنها هي كل مشاكلها، هي أمم قد حلت من زمان القضيتين الأساسيتين المذكورتين. والأمم التي لما تحلهما قد يفيدها تطبيق بعض الجزئيات ولكنها لا تخرج بواسطته إلى حياة جديدة وعهد جديد.

لا تنهض الأمة إلا بقضية عظمى كاملة، ولا تنتقل من حياة إلى حياة إلا بحركة خلق تأسيسية، شاملة جميع نواحي الحياة ـ بحركة شعبية تنشأ من صميم الشعب والأمة وتصارع بأمانة كلية لحقيقة الشعب وقضيته العظمى.

إنّ اقتباس مبادىء الحرك القومية الاجتماعية وتعاليمها، أو بعضها، لا يصيّر المقتبسين منشئي قضية ومصلحين حقيقيين. ولا تصنع لائحة العقاقير من الدجال الممخرق طبيباً نطاسياً! وشتان بين النجاح الفردي والنجاح القومي! إنّ لائحة العقاقير التي يُشفي بها النطاس الأعلاء ـ يقتل الدجال، بها عينها، أعلّاء وأعلّاء!

والإصلاح المسروق من اللائحة، المطبق بضغينة وشرود هو إصلاح لا يمس قلب الشعب ولا ينزع من الشعب إيمانه. فالشعب يؤمن بمن أوجد له حقيقته بعد ضياعها وقضيته بعد أن كان بلا قضية. والشعب يمقت العقوق والعقوقين.

وإنّ الحركة التي انتصرت على الطغيان والاستعباد في حرب طويلة هائلة لن تعجزها الخيانة.

الطغيان يسير إلى مصيره والتدجيل ينتهي إلى مصيره والخيانة تسعى إلى مصيرها والحركة القومية الاجتماعية ترفع الشعب على أسس الحرية والواجب والنظام والقوة إلى العز والخير!

 كل شيء، بيروت،

العدد 106، 8/4/1949

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى