لجنة التمثال تهين شعور العالمين المسيحي والإسلامي – 1

اطّلعت منذ بضعة أيام على الأبيات التي قررت لجنة التمثال نقشها على قاعدته، ولقد أذاعتها بطريقة غريبة خالية من آداب السلوك، فعوضاً عن أن تدفعها للنشر إلى الجرائد العربية، التي كلّفتها هي إذاعة إعلانها الطويل العريض لمباراة الشعراء، ذاكرة فيه الإشارات والرموز الموضوعة على قاعدة التمثال الذي يراد إهداؤه إلى الأمة البرازيلية في عيد استقلالها المئوي، دون أن تتقاضها تلك الجرائد أجرة عليه، وعوضاً عن أن تشكر صنيعها دفعته إلى جريدة واحدة دون سواها، وزادت الطين بلة في كتمانها عن الجريدة المذكورة والجالية إسم الناظم.
ولما كنت في عداد الذين بعثوا بأبيات إلى اللجنة الموقرة إجابة لإذاعتها المشار إليها وخدمة للجالية في تقديم أبيات تنطبق على الإشارات والرموز التي أذاعتها اللجنة المذكورة، وبصفتي أحد أفراد الجالية الذين يهمهم ظهورها أمام الأمة البرازيلية بمظهر العظمة التاريخية الجامعة بين الوقار وروح الشكر للأمة الكريمة التي أنزلتنا على الرحب والسعة، رأيت أن أقول كلمتي في هذا الموضوع مستلفتاً نظر اللجنة المحترمة والجالية عموماً إلى ما في الأبيات التي قرَّرَت نقشها على التمثال من إهانة الشعور الديني للمسيحيين والمسلمين في سائر أنحاء العالم، وإهانة الشعور الوطني للبنانيين والسوريين والفلسطينيين في الوطن والمهاجر كلها، أما الأبيات التي أقرتها اللجنة فهي الآتية:

لو قطعنا بقية الأرز من لبــ ــنان والأرز مهبط الإلهام
وابتنينا بها «هنا» هيكلاً تطعن أبراجه صدور الغمام
وانتزعنا من بعلبك ومن تد مر آثار مجدنا المترامي
واغتصبنا قبر صلاح الدْ دِين والقدس قبر فادي الأنام
ووقفنا هذه الكنوز على ذا الــ ــموطن الحر والبنين الكرام
لشعرنا بأننا ما وفينا ما علينا لهم من الإكرام

هل يرضى النصارى والمسلمون من أبناء الوطن العزيز وأبناء الجالية الكريمة عن هذه الأبيات؟ هل يرضى المسيحيون عموماً، واللبنانيون خصوصاً، أن تقطع بقية الأرز الخالد الذي بني به هيكل سليمان والذي يقول عنه الشاعر إنه «مهبط الإلهام»، وأن يبنى به «هنا» هيكلاً «تطعن أبراجه صدور الغمام» وأن نجرِّد وطننا من هذا الأثر التاريخي الثمين الحي وأن يوقف كل ذلك على البرازيل لأنها لم تطردنا من بلادها؟ هل يرضى المسلمون عموماً، والسوريون خصوصاً، أن نغتصب دمشق قبر صلاح الدين الذي يعدّه المسلمون من أقدس الآثار الدينية ويعدّه السوريون من أثمن الآثار التاريخية، وهو الذي وقف عليه الامبراطور غليوم الثاني [1898]، وهو في شامخ مجده وباذخ عزه، رافعاً قبعته مطأطئاً رأسه مخاطباً من تلك البقعة التاريخية الثلاثمئة مليون مسلم على وجه البسيطة؟ هل يرضون أن نأتي بهذا الأثر الفخم وأن نزعج عظام أعظم سلطان مسلم ظهر على وجه الأرض، وأن نخرجها من ضريحها ونأتي بها إلى البرازيل لأنها تعاملنا معاملة سائر الجوالي الأخرى؟ هل يرضى العالم المسيحي أن «نغتصب» القدس قبر المسيح الذي هو عنده أقدس وأعز أثر تاريخي في العالم منذ بدء الخليقة حتى اليوم، وأن ندنس ذلك الضريح المقدس باقتلاع حجارته الرخامية التي سجد لمقامها الملوك والأمراء والعظماء راكعين خاشعين مطأطئي الرؤوس يقبّلونها بلهفة وشغف واحترام وشعور ديني عميق، حتى أنّ زوايا تلك الحجارة المقدسة حفيت من كثرة التقبيل واضمحلت وأصبحت ملساء من قبلات ملايين الملايين من رجال العالم المسيحي ونسائه الذين قبَّلوها، لا ماشين إليها مشياً بل زاحفين إليها زحفاً على ركبهم، احتراماً وإجلالاً للإله الذي يؤمنون به وبتشريفه لها ثلاثة أيام راقداً في قبره ليفتدي الأنام وفي عدادهم أعضاء لجنة التمثال وشاعرها؟ هل يوجد مسيحي واحد، عدا أعضاء هذه اللجنة العظيمة، يرضى بتدنيس قبر المسيح على هذه الكيفية الشائنة لأن فريقاً من اللبنانيين والسوريين هاجروا إلى البرازيل وأثرى بعضهم فيها إما بسبب الحرب أو بجدّهم ونشاطهم فأفادوا البلاد كما استفادوا منها؟ وإذا رضي مسيحي نفعي بذلك، هل يرضى المسلمون به وهم يحترمون عيسى ابن مريم ويعدّونه نبياً عظيماً؟ ــــ هل يرضى رجل ديني أو وطني بمثل هذا التدنيس المخجل وأن ننقل قبر السيد المسيح إلى البرازيل لأنها قَبِلتنا في بلادها وهي تدعو شعوب العالم إلى المهاجرة إليها لتحيــي مؤات أرضها وتنمي تجارتها وتكثر صناعتها وهي لولا ذلك لما بلغت عُشر نجاحها الحالي؟
أما الأبيات التي بَعثْت بها إلى اللجنة فإنها تتضمن جميع الإشارات والرموز المنقوشة على قاعدة التمثال، وتُظهر عظمتنا التاريخية وتُمثلنا أمام الأمة البرازيلية الكريمة جالية جامعة بين المحافظة على شرفها التاريخي، واحترام النفس والفخار بماضينا المجيد، وإظهار روح الشكر العميق لما علينا من ديون الكرامة والفضل لهذه الأمة الشريفة، لذلك كانت الأبيات الآتية بمثابة قاموس للرموز والإشارات وهي ما يأتي:

نحن أبناء الألى خاضوا البحارْ يوم لم يُعرَفْ شراعٌ أو بخارْ
لبني العالم أعطينا الحروف واكتشفنا جزراً منها الكنارْ
واتَّجرنا مع أقاصي الأمم وجوالينا بدت نوراً ونارْ
ونزلنا في البرازيل التي طيبنا نهدي إليها والشعارْ
واحتفلنا الآن باستقلالها المئوي كالشمس حسناً ومدارْ
إنما نهدي إليها ما لها من ديون الشكر والفضل الكثارْ

هل يرضى المتخلّفون عموماً والجالية خصوصاً أن ننتزع «آثار مجدنا المترامي» من بعلبك التي تعدّ من عجائب الدنيا السبع وأعظم وأفخم أثر تاريخي جامع بين ضخامة البناء العجيبة ودقة الصناعة الغريبة التي تحيّر العقول والأفهام؟ هل ترضى الجالية أن ننتزع أيضاً آثار مجدنا المترامي من تدمر التي يقصدها السياح من أقصى بلدان العالم لمشاهدة آثارها الخالدة وهي المملكة السورية التي كانت على عهد زنوبيا الشهيرة ندة لروما وأصلتها حرباً هائلة لا يزال يردد التاريخ صداها؟
نترك الحكم في ذلك للجالية عموماً ولكتّابها وشعرائها خصوصاً.
وهنا نسأل اللجنة المحترمة لماذا أفادتنا في إعلانها عن الإشارات والرموز المنقوشة على قاعدة التمثال إذا لم يكن الغرض من ذلك تضمينها في الأبيات الستة المطلوبة؟ هل يا ترى كان عملها هذا ضحكاً من الشعراء أم من نفسها؟


أنطون سعاده
الجريدة، سان باول
العدد 83، 8/7/1922 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى