لمحة من حياة طاغور

لم يبقَ في مشارق الأرض ومغاربها من لم يسمع بذكر الشاعر الخالد والحكيم الهندي رابندرانات طاغور. ولكن الأدوار والأطوار الشائقة التي مرّ بها هذا النابغة الشرقي لا تزال محتاجة إلى الدرس والنشر لكي يتمكن العالم من فهمه بصورة أوضح. وإننا نقتصر هنا على ذكر لمحة صغيرة من بعض أدواره السالفة التي لا يذكرها إلا القليلون، وهي على صغرها لا تقل معلوماتها أهمية عن المعلومات الكثيرة الشائعة عن أيامه الأخيرة.

ظهر طاغور في أول عهده شاباً وطنياً قومياً يتوقد غيرة وحماسة، ولكنه ما عتم أن اتصل بأوروبة عموماً وإنكلترة خصوصاً، ومال أخيراً إلى محاسن وعظمة هذه الدولة التي ترجم إلى لغتها معظم أو كل مؤلفاته، ومنها نقلت إلى سائر لغات العالم. في هذا الدور ظهر طاغور بمظهر البطل الشرقي الفاتح، فلهجت بذكره الألسن وتحدث في المجالس بنبوغه الفكري وفنه الأدبي الشعري، وفي هذا الدور وضح ميله إلى صداقة إنكلترة الذي جلب عليه نقمة الوطنيين الهنود وحملهم على محاولة اغتياله في سان فرنسيسكو سنة 1912، أي قبل نيله جائزة نوبل بسنة واحدة. كانت تلك المحاولة التي كادت تقضي على أبعد أدباء الشرق صيتاً، الدليل الجدي الأول الذي نبّه الغرب إلى مبلغ الروح الآسيوية الجديدة، وإلى فكرة التعاون الآسيوي التي أصبحت مطمح أبصار الأمم الشرقية المهضومة الحقوق.

أخذت نقمة القوميين الهنود على طاغور تشتد أثناء الدور المشار إليه، إلى أن بلغت حداً اتُّهم عنده الشاعر بالمروق من الوطنية وعدَّ فاتراً، وألحق الناقمون عليه هذه الوصمة الأخيرة بأدبه حتى شاع حينئذٍ أنّ في أدبه ضعفاً واضحاً من جهة الروح الباطنية، هو نتيجة فقده حرارة الروح القومية وانفصاله السياسي عن الفكرة الوطنية.

أدرك رابندرانات طاغور، في أواخر الدور المتقدم، أنّ صداقته لبريطانية قد تعود عليه بالفائدة الشخصية، ولكنها لا تعود بالفائدة على المبادىء والنظريات السامية التي كانت تحوم حولها أفكاره، فأخذ يفتر في علاقاته معها خصوصاً ومع أوروبة عموماً. وجاءت على الأثر الحرب الكبرى التي كانت شهاباً ثاقباً أنار بصيرته وجعله يدرك أنه ليس من الحكمة في شيء أن يرقد نصف العالم غيرالمسلح إلى جانب النصف الآخر المسلح المتيقظ. فما أن وضعت الحرب أوزارها حتى أعاد سنة 1919 إلى نائبا لملك في الهند كتاب إنعام إنكلترة عليه بلقب نبيل، مع كتاب آخر وجهه إلى النائب المشار إليه يقول فيه «لقد جاء الوقت الذي تعدّ فيه ألقاب الشرق الإنكليزية عاراً علينا». فطارت هذه العبارة الخالدة في جميع أنحاء العالم صوتاً صارخاً مغزاه «أعدّوا طريق الجبار الآسيوي الآتي!» منذ ذلك الوقت تحوَّل طاغور عن خشبة الزخرف الأوروبي الطافية إلى حقيقته الآسيوية البعيدة الغور ووجّه سياحاته إلى الشرق، فزار سيام والصين واليابان وخطب في معابدها خطباً كان لها تأثير عظيم. والحقيقة أنّ طاغور سيكون للوحدة الهندية ما كان غويتي للوحدة الألمانية، وسيسجل التاريخ اسمه في عداد النوابغ الذين نفخوا روح الحياة في الأمم الآسيوية وسائر الشرق، وإننا نفتخر أن يكون بين هؤلاء عدد من السوريين، وأن تكون سورية الصغيرة بمساحتها العظيمة بروحها والمواهب الطبيعية الكامنة فيها، عاملة بالاشتراك مع الهند العظيمة، في مساحتها العظيمة، بروحها على إنهاض آسية والشرق كله.
لا يمكن فهم طاغور في نفسه وفي مؤلفاته إلا بتكملة درس الأدوار التي مرّ بها في حياته بدرس منشأه وتقاليد بيئته العريقة في القدم، وهو ما ننتظر أن يحلله لنا الاختصاصيون في الأدب الهندي ونوابغ الهنود. بيد أننا نريد هنا أن نشير إلى أنّ طاغور سليل بيت نبيل قد تعلَّم وتهذب وبلغ من العلوم مبلغاً نادراً، وبرع في اللغة الإنكليزية وبواسطتها تمكن من أن يملي على أوروبة آيات سحره، وأن يتملص من حدود بيئته ويصبح أحد الآسيويين القلائل الذين يحتلون مراكز عالمية.

وإننا نأسف جداً أن لا تكون مؤلفات هذا الشاعر الذي سحرت رنات شعره ورموز آياته العالم، معروفة المعرفة التامة في محيطنا الأدبي والاجتماعي، بحيث نتمكن من فهم الحكمة المتولدة من الوجهتين الفكريتين الباديتين في كتاباته: محبة الجمال والشعور الذي لا علاقة له بقوى الحياة المادية، والتوقد الأدبي القومي.
…. ومن نكد الدنيا أن لا يتاح لطاغور، كما لا يتاح لغاندي، أن يرى مثاله الأعلى يتحقق.

أنطون سعاده
المجلة،  بيروت،  
المجلد 8، العدد 2، 1/4/1933

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى