ما ينقصنا هو الإرادة الواعية المُصَمِّمة

رئيس النّدوة الثّقافيّة المركزيّة الأمين ادمون ملحم

لا نحتاج إلى عناء تفكير لنبرهن أنّ واقعنا الرّاهن مليء بالمشاكل والأزمات الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة وبكلّ أشكال الكوارث والمآسي الّتي يتخبّط بها شعبنا. وما نصبو إليه هو أن نُغيّرَ هذا الواقع المؤلم ونحقّق واقعاً جديداً نحيا فيه برفاهيّة وكرامة وننهض بأمّتنا إلى المكان اللّائق بها تحت الشّمس.

نقطة الانطلاق في عمليّة التّغيير لا بدّ من أن تبدأ بخطواتٍ أساسيّة أوّلها تسليط الضّوء على واقعنا الأليم واعتماد البحوث العلميّة – الاجتماعيّة لاكتشاف مشاكله وتعقيداته والبدء في مجابهة جدّيّة صحيحة معتمدة على لغة العقل النّاقد وعلى منهجيّة عقليّة – علميّة تحليليّة تؤدّي بنا إلى وضع الحلول النّاجعة تحقيقاً لتغيير هذا الواقع وتجاوزه. فإن لم نلجأْ إلى مِيزةِ الإنسانِ الأساسيّةِ، إلى قوّةِ العقلِ، مَوْهِبَةِ اللهِ في الإنسانِ و«الشّرعِ الأساسيِّ الأعلى» الّذي بواسطتِه نعي ونفكّرُ ونُميّزُ ونُعيّنُ الأهدافَ ونرسمُ الخططَ ونفعلُ في الوجودِ. وإن لم نعتمد العقل شرعاً أعلى وأداة للتّمييزِ والإدراك ونسلَّط نورَه على ما يعتري مجتمعَنا من مشاكلَ وأزماتٍ، فلن تتبيَّنَ لنا بوضوحٍ أسبابُ المصائبِ والويلاتِ الّتي تمزِّقُ مجتَمَعَنا وتزيدُ حالةَ أمّتِنا سوءاً وتدهوراً وتخلّفاً وكلّها عوامل تنعكس على حياتِها ومصالِحها، بينما عدُوُّنا المترّبصُ بنا شرّاً ينتهزُ جَهلَنا وتفكُّكَنا وانقساماتنا ويعملُ بتخطيطٍ دقيقٍ على اجتثاثِنا من أرضِنا وتحقيقِ حُلمِهِ التّوراتي.

تغيير واقعنا المزري لا يتم بخطوات ارتجاليّة ومحاولات عشوائيّة تزيد تخبّطنا تخبّطاً، بل يتمّ بمشروع نهضةٍ حقيقيّة تشقّ طريق الوحدة القوميّة والاجتماعيّة وتضع الأساس لبناء نفسيّ، اجتماعيّ، سياسيّ جديد فلا نبقى كيانات سياسيّة متخاصمة وجماعات دينيّة وقبليّة متضاربة في مصالحها ومتنافرة في غاياتها. النّهوض الحقيقيّ لا يكون إلّا بنهضةٍ تحرّر النّفوس من عبوديّة الاستسلام للحال الرّاهنة والخضوع لحوادث التّاريخ وتُوَلِّدُ روحاً جديداً في الشّعب وإرادةً قوميّةً واحدة تنقذ حيويّة الأمّة من فوضى التّجزئة والضّعف وتقيم في المجتمع «نظام التّعاون بدلاً من نظام التّصادم الّذي أسّسته النّهضة الرّجعيّة»(1) وتوحّد قوى الأمّة وإمكانيّاتها وعقولها ومواهبها المخزونة وتجعل منها قوّة فاعلة قادرة على تحقيق ما تريد.

وتغيير واقعنا لا يتمّ بإصلاحات شكليّة وترقيعيّة بل يتمّ بتغيير القواعد المتّبعة والمنتجة لعوامل الفساد والتّدهور والانحطاط وباعتماد قواعد مناقبيّة وروحيّة جديدة «تدفع الأمّة في طريق الخلق والإنشاء والتّغلّب على الصّعوبات والتّفوّق في صراع الحياة».(2) وهذه القواعد الجديدة لا تقدّمها إلّا نهضة قوميّة صحيحة تكون عنواناً لحياة جديدة تسير إلى الأمام نحو المطامح السّامية الّتي تتوق إليها ملايين الأنفس. وبهذا المعنى يعتبر سعاده أنّ النّهضة «هي الخروج من التّفسّخ والتّضارب والشّكّ إلى الوضوح والجّلاء والثّقة واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة».(3)

وتغيير واقعنا المأزوم لا يتمّ بالوعود الكاذبة الآتية من الخارج، بل يتمّ بمشروع نهضة حقيقيّة، بنّاءة، تنبع من صميم مجتمعنا، من داخلنا، وتسعى إلى بناء النّفوس بناءً جديداً في العقيدة الصّالحة وإلى تطهير المجتمع من الفساد والفوضى ‏والمثالب، وتعمل على تجديد معالم حياتنا وعلى إرساء أسس الدّولة العصريّة الدّيمقراطيّة العلمانيّة.

نحن نؤمن أنّه لا يمكن إحداث نهضة حقيقيّة تجديديّة من دون اعتماد اتّجاه جديد في التّفكير – هو التّفكير العلميّ والعمليّ المرتكز على المنطق وحقائق العلوم وعلى موهبةِ العقلِ المُبدعِ الإراديّ الفاعل في الوجود. فالعقل يمثّل القوّة الخلّاقة المبدعة وهو الأساس ومفتاح القضيّة التّنويريّة. والعقل المجتمعيّ هو قوّة الأمّة الحقيقيّة وهو طريقها إلى التّقدّم والفلاح.

إنّ ما توصّلت إليه الإنسانيّة من تقدّم مذهل في جميع المجالات هو نتيجة الانفتاح العقليّ والتّفكير العلميّ والبحث العميق وإجراء التّجارب والاختبارات. إنّ الأمم الطّامحة للسّير على طريق التّقدم والرّقي لا بدّ لها من توظيف العلم والمعرفة وتشجيع التّجارب والأبحاث واعتماد أفضل الطّرق في التّعليم والتّربية والتّدريب. إنّ الدّول الغربيّة تعتمد الآن بنوك العقول الإلكترونيّة ومراكز الأبحاث في جميع مجالات الحياة. وهذه المراكز تقوم بالدّراسات والبحوث العلميّة والتطويريّة والميدانيّة وتضع التّصوّرات للمستقبل وتقدّم الخدمات الاستشاريّة للحكومات والمؤسّسات ورجال الأعمال وتساهم بترقية المعارف وزيادة ارتفاع مستويات التّفكير العلميّ واحراز المزيد من التّقدّم. أمّا شعبنا ما زال يتلهّى في عالم الخرافة والأشباح والأوهام والمعتقدات الخاطئة وفي قضايا دينيّة وغيبيّة ويرتع في حقول من الجهل المُطبِق والتّخلّف العقليّ والجمود الفكريّ والتّحجّر العقائديّ والرّكود الثّقافيّ، حقول يسيطر عليها المنافقون المرّائون والنّفعيّون والإقطاعيّون والرّجعيّون الجهلاء والسّفهاء، ذوو العقول المتحجّرة معارضو التّحديث والتّجديد.

إنّ الدّولة اليهوديّة الزّائلة تمدّدت وحقّقت تفوّقها العسكريّ والصّناعيّ والتّكنولوجيّ والنّوويّ وتسعى لأن تكون امبراطوريّة لها ثقلها ونفوذها في العالم العربيّ المجزّأ بفضل إرادتها السّياسيّة لتخصيص الإنفاق اللّازم ولتوجيه الموارد إلى بناء مراكز أبحاث ومعلومات ولحماية الطّاقات والأدمغة بدلاً من قتلها أو تهجيرها، لا بل هي تسعى لجلب العلماء اليهود من أقاصي المعمورة لتسخير مواهبهم في خدمة مشروعها. فهل من الصّعب علينا أن نسير في مثل هذا الاتّجاه وأنّ نهتمّ بقضيّة العلم ونوليها اهتماماً أكبر؟ إنّ الأمم المتحضّرة وصلت إلى ما هي عليه من المدنيّة والحياة الحديثة نتيجة اهتمامها بالعلوم. واليوم نجد أنّ أمم العالم بأسره تتسابق للأخذ بنتائج العلوم ولاستخدام الوسائل العلميّة لإصلاح أمورها الدّاخليّة وتحقيق ازدهارها.

ونحن لا يمكننا أن نواكب هذا العصر بإنجازاته واختراعاته والإمساك بتلابيبه ما لم نعمل على تأمين مناخ علميّ في مجتمعاتنا نعتمد العلم ومناهجه المنضبطة ونقيم المراكز العلميّة البحثيّة الّتي تجري التّجارب المتنوّعة وتعتمد البحث المنهجيّ المنظّم والقواعد المنهجيّة والتّحديدات والمناهج الكميّة وتقوم بتجميع المعارف بطريقة منظّمة توخّياً لفهم المجتمع ومشكلاته والوصول إلى اليقين العلميّ بواسطة الاستنباط العقليّ المبنيّ على أدلّة منطقيّة مقنعة للعقل. فالعقل هو الّذي يقود الإنسان في كلّ تصرّفاته وفي جميع مجالات حياته وهو الّذي يدفعه للعمل والسّعي لتحقيق مطالبه في الحياة ليحيا بعزّ وكرامة وحريّة وإبداع.

إنّ كلّ التّحديّات الدّاخليّة والخارجيّة الّتي نواجهها يجب أن تشكّل حافزاً قويّاً لنا لكي نعي حقيقتنا القوميّة ونعرف أنفسنا معرفة صحيحة ولكي نستفيد من العلم ومناهجه ومن التّفكير العلميّ ومبادئه ونستعيد مكانتنا في قافلة العمران والارتقاء البشريّ ونكون مبدعين ومنتجين ومتفوّقين لا مجرّد مستهلكين لنتاج الغير. إنّ «التّاريخ لا يسجّل الأماني ولا النيّات بل الأفعال والوقائع».(4)

إنّ ما ينقصنا هو الإرادة الواعية المصمّمة الّتي تدفعنا إلى التّخطيط والعمل المنظّم والإجماع على مشروع نهضويّ بنّاء يوحّد اتّجاهنا في الحياة ويحرّر «أفكارنا من عقائد مهترئة وأوهام قعدت بنا عن طلب ما هو جدير بنا، كالوهم الّذي يدعو إليه فريق من ذوي النّفوس السّقيمة والعقول العقيمة، وهو أنّنا قوم ضعفاء لا قدرة لنا على شيء ولا أمل لنا بتحقيق مطلب أو إرادة، وأنّ أفضل ما نفعله هو أن نسلِّم بعجزنا ونترك شخصيّتنا القوميّة تضمحلّ من بين الأمم ونقتنع بكلّ حالة نصير إليها».(5)

إنّ تحقيق الطّموحات الكبيرة يكون بالثّقة بالنّفس والشّجاعة والتّعاون والتّآخي والتّخطيط المنظّم والتّصميم والإبداع والعلم النّافع والبحث والتّقصّي والعمل الجّاد والمثابرة، وليس بالفوضى والعجلة والارتجال والجهل والخمول والمماطلة والخوف من المجهول وعدم الثّبات في وجه المصاعب والاتّكال على الصّدف.

1- أنطون سعاده، شقّ الطّريق لتحيا سورية، الجمهور، بيروت، السنة 1، العدد 41، 12/07/1937.

2- أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلّد الثّامن 1948 – 1949، “الأمّة تريد نهضة لا حلة”.

3- أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، ص 16.

4- أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 31.

5- أنطون سعاده، المحاضرات العشر، عمدة الثّقافة، بيروت، 1976، ص 33.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى