مباحث عمرانية: كيفية الانتخاب في الولايات المتحدة – 1


تجري الأمم في انتخاباتها العامة على خطتين مختلفتين، الواحدة منهما بالتصويت المباشر والأخرى بالتصويت الثانوي وتعرف بالطريقة الثانوية، وهي التي تجري عليها الولايات المتحدة.

الطريقة الثانوية:
عندما يجري الانتخاب في الولايات المتحدة، لا نسمع إلا أسماء المرشحين لرئاسة الجمهورية ونيابة الرئاسة الذين يأخذون في إبداء الآراء وإقامة الوعود التي يريدون التمشي عليها متى قبضوا على أزمَة الأحكام كل حسب آرائه ووعوده. وهؤلاء يشتهرون كثيراً وتتناولهم الصحف. ولكننا قلّما نعرف شيئاً عن سير الانتخاب ولا عن الأشخاص الذين يصوِّت لهم الشعب حقيقة، والذين يُطلَق عليهم في تلك البلاد إسم مُنتخبي الرئاسة. وهؤلاء يبقون مجهولين ولا يشتهرون مطلقاً لا قبل الانتخاب ولا بعده رغماً من أنهم من الأهمية بمكان عظيم لأنه عليهم يتوقف الانتخاب الذي يُعمل بموجبه. فإذا لم ينل أحد المرشحين للرئاسة الأكثرية بينهم، يعود حق الانتخاب إلى مجلس النواب أو الممثلين.

الإيضاح على ما تقدَّم هو أنّ المصوتين في الولايات المتحدة يعطون أصواتهم أو قوتهم الانتخابية لأشخاص معيّنين يُسمّون منتخبِين، وهؤلاء يصوتون بدورهم للمرشحين. أما حقيقة ما هم معيّنون لأجله فهي كما جاء في كتاب «الجمهورية الأميركةنية وحكومتها» لمؤلفه ج.أ. وُدبرن، أن يقفوا بأمانة في جانب مرشح الحزب وأن يُسجلوا النتيجة التي انتُخبوا رسمياً لتأديتها. وقد قال المؤلف المذكور أيضاً:
«قد يُعيَّن المنتخِب لا لسبب سوى أنه خطيب جيد، وقد يُنتظر منه أن يجلب دائرته إلى الحزب الذي ينتمي إليه، وهو قد يؤمل من وراء ذلك تعييناً أو مكافأة من الحزب بعد انتصار مرشحه».

هذه الطريقة التي بموجبها يصوّت مصوّتو الولايات المتحدة لمنتخبي الرئاسة هي ما ينطبق على المادة الثانية من دستور تلك البلاد الذي ينص على ذلك ما يأتي:
«تعيِّن كل ولاية، كما قد يشير به المجلس التشريعي، عدداً من المنتخبين مساوياً لعدد الشيوخ والنواب الذين يخوَّلون للولاية في المؤتمر. ولكن لا يمكن لأحد الشيوخ أو الممثلين أو أي شخص معهود إليه عمل استئمان أو أرباح في الولايات المتحدة أن يعيَّن منتخباً».

وقد احتيط لذلك في التحوير الثاني عشر للقانون الأساسي بأن:
«يجتمع المنتخبون في ولاياتهم ويصوّتوا بالقرعة لرئيس ونائب رئيس الجمهورية اللذين واحد منهما على الأقل يجب أن لا يكون من ذات الولاية معهم».
أما الباعث على هذا النهج في انتخاب رئيس الجمهورية ونائب رئيس فتعليله أنّ واضعي القانون الأساسي لم يروا من الحكمة أن يتركوا اختيار الرئيس لجمهور المصوتين خوفاً من أن لا يكون المصوتون محافظين وأذكياء إلى درجة يتمكنون معها من القيام باختيار نزيه مفيد.

إختيار المنتخِبين:
قد تعيَّن في الولايات المتحدة أن يكون يوم الثلاثاء الأول بعد الإثنين الأول من شهر نوفمبر/تشرين الثاني اليوم الذي يجري فيه انتقاء منتخبي الرئاسة، ويُعرف هذا اليوم بيوم الانتخاب. وفي حالة نزاع أو جدال حول انتخاب منتخِب أو مُنتخِبين، فإن منزلة الشخص المنتخب رسمياً تعيَّن بموجب ما تنص عليه قوانين الولاية بشرط أن يكون القانون المراد قد صادق عليه المجلس التشريعي للولاية قبل يوم الإثنين من شهر يناير/كان الثاني بستة أيام، وذلك لأن المنتخبين يجب أن يجتمعوا ويلقوا أصواتهم يوم الإثنين الثاني من شهر يناير/كانون الثاني. وفي هذا اليوم عندما يلقي المنتخبون قرعهم للرئيس ونائب الرئيس، تُؤخذ ثلاثة نسخ بعدد القرع الملقاة ويُلصق بكل نسخة قائمة مقررة بأسماء الأشخاص المختارين رسمياً ليكونوا منتخبي الرئاسة يطّلع عليها ناظر كل ولاية، كما جاء في كتاب «الحكومة الأميركية» لغوص الذي نجد فيه أيضاً ما يأتي:
«هذه التقارير الثلاثة يجب أن تقفل جيداً ويوضع على كل منها شهادة بأنها تتضمن نتيجة الانتخاب. واحدة من هذه النسخ المقفلة تعطى لشخص يعيّنه المنتخبون ويأتمنونه كتابة لإيصال تلك النسخة إلى رئيس مجلس شيوخ الولايات المتحدة قبل يوم الأربعاء التالي. وواحدة أخرى تُرسل إلى رئيس مجلس الشيوخ مع البريد. والثالثة توضع عند قاضي الولايات المتحدة المعيَّن للمقاطعة التي يجري فيها الانتخاب.

«يجتمع مجلسا المؤتمر في مجلس النواب الساعة الواحدة بعد ظهر يوم الأربعاء الثاني من شهر فبراير/شباط بعد اجتماع المنتخبين ليشهدوا عدَّ أصوات القرعة. يترأس الاجتماع رئيس مجلس الشيوخ، ويعيّن إثنان من كل من المجلسين ليكونوا مُبلّغين، وذلك قبل الاجتماع في المجلس. يفض رئيس مجلس الشيوخ غلافات القرع المرسلة من الولايات المتحدة أثناء الاجتماع الواحد بعد الآخر حسب الترتيب الهجائي مبتدئاً بحرف ألف، وتعلن للمجتمعين نتيجة كل قرعة على حدة. وأخيراً تقرّر وتعلن النتيجة النهائية».

حوادث العقبات:
إذا كان هنالك اعتراض على اقتراعات المنتخبين المرسلة من بعض الولايات، فعندما يجتمع المجلسان بعد ظهر يوم الأربعاء الثاني من شهر فبراير/شباط ليشهدا عدّ أصوات المنتخبين، فالاعتراض يجب أن يقدم حينئذٍ كتابة ويجب أن يكون موقعاً بإمضاء شيخ واحد ونائب واحد على الأقل. ويقول غوص صاحب الكتاب المشار إليه إنّ مجلس الشيوخ ومجلس النواب ينسحبان إذ ذاك للاجتماع على انفراد والنظر في الاعتراض أو الاعتراضات المقدمة. وفي أثناء المناقشات في صحة قرعة بعض الولايات لا يمكن اتخاذ أي نوع من الإجراءات في ما يختص بإرساليات الولايات الأخرى، ولا يمكن توقيف المؤتمر لآخر فرصة إلا من يوم إلى يوم كما يظهر، ويستثنى من ذلك يوم الأحد ولكن بعد مرور خمسة أيام لا تعود الراحة ممكنة قبل الانتهاء.

إنتقاد هذه الطريقة الانتخابية:
كل ما نسمعه من انتصارات الأحزاب غير القانونية أو التي تدل على تحيّز أو شيء من الموارية، حتى أصبح شائعاً في العالم أنّ الانتخاب في الولايات المتحدة يجري تحت تأثير الأموال التي تبذل في هذا السبيل، يعود إلى هذه الطريقة الانتخابية التي كثيراً ما تكون غير عادلة وغير منطبقة على رغائب الأمة التي لا يندر أن تكون في جانب مرشح في التصويت الأول، فترى نفسها بعد تصويت المنتخبين في جانب مرشح آخر على غير قصد منها ودون أن تعرف لماذا. ومع أنه لا يحدث في الولايات المتحدة مشاغب من جراء هذه الخطة، فلا يمكن القول إنها الخطة المثلى التي يؤيدها شعب تلك البلاد. فالمؤلف ودُبرن الذي أتينا على ذكره يقول إنّ عدم الرضى عن «الكلّية الانتخابية» أو المنتخبين الآنفي الذكر قد كثر في السنين الأخيرة، إذ لمّا كانت الكلّية المذكورة تخضع لعمل حزبي فهي أصبحت تعتبر عدة آلية يحسن التخلي عنها.

ولكي نكون مستندين في تخطئة هذه النظرية الانتخابية والقول بالعدول عنها إلى براهين صحيحة لها منزلة كبيرة من الأهمية والاعتبار في حياة الأمم السياسية، نأتي هنا على نتائج بعض اتخابات الولايات المتحدة التي أشار إليها ر.هــ. فولر في كتابه «حكومة الشعب» وهي كما يأتي:
«إنّ أحرج انتخاب رئيسي في الولايات المتحدة كان سنة 1884 عندما انتصر المرشح الديموقراطي غروفر كليفلند على المرشح الجمهوريي ج. بلاين. فإن التصويت العمومي لمنتخبي الرئاسة المعيَّنين من قِبَل الحزب الديموقراطي كان 4.954.986 صوتاً في حين أنّ منتخبي الرئاسة المعيَّنين من قبل الحزب الجمهوريي نالوا 4.855.511 صوتاً. بناءً عليه كان لبلاين 25 صوتاً زيادة على كليفلند في مجموع أصوات الحزبين اللذين كانا مرشحَيهما الذي بلغ 9.759.997 صوتاً. ولكن في «الكليّة الانتخابية» نال كليفلند 219 صوتاً ونال بلاين 182.

«يعود ما تقدم إلى أنّ المنتخبين الديموقراطيين ربحوا ولاية نيويورك بزيادة 1.129 صوتاً في مجموع أصوات الحزبين الرئيسيين الذي بلغ 1.125.159. وهذا أعطى كليفلند الستة والثلاثين صوتاً انتخابياً في الولاية المذكور. ولقد أيدت نتيجة هذا الانتخاب عظم أهمية منع الخيانة أو التواطؤ في إلقاء وعدّ الأصوات، وأيدت كثيراً التصديق على قوانين التحوير الانتخابي. انتقال 575 صوتاً فقط من الحزب الديموقراطي إلى الحزب الجمهوري كان يغيّر النتيجة.

«مع أنّ كليفلند المذكور نال أكثرية في التصويت العمومي سنة 1888 فإنه اندحر أمام بنيامين هريسن الجمهوري. كان التصويت الكامل للمنتخبين الديموقراطيين 5.540.329 صوتاً مقابل 5.439.853 صوتاً للمنتخبين الجمهوريين. وهكذا يكون المنتخبون الديموقراطيون قد نالوا 100.476 صوتاً زيادة على ما ناله منتخبو الجمهوريين. ولكنَّ الستة والثلاثين صوتاً انتخابياً في ولاية نيويورك قرّرت في هذه المرة أيضاً النتيجة الحاسمة، فإن المنتخِبين الجمهوريين ربحوا الولاية بزيادة 13.002 في تصويت كامل للحزبين بلغ 1.284.516. ففي «الكلية الانتخابية» نال هريسن 233 صوتاً مقابل 168 صوتاً لكليفلند».
إنّ الطريقة الثانوية في الانتخابات ليست بالطريقة التي تكفل حقوق الأمة وتنطبق على رغائبها تماماً، وهي دائماً وأبداً عرضة للتلاعب وأحياناً تكون أشبه بالمقامرة. فكثيراً ما يكون أنّ أمة تقرر بواسطة التصويت العمومي انتخاب شخص ترغب فيه لرئاسة جمهوريتها أو مجلسها، ثم لا تلبث أن ترى شخصاً آخر يرتقي ذلك المنصب دون أن تدري كيف ولماذا، بل كل ما تعرفه عنه أنه انتخب «بواسطة القانون» كما حدثا ويحدث في الولايات المتحدة.

من الغريب أن تظل الولايات المتحدة إلى الآن تتمشى على هذه الطريقة الانتخابية الكثيرة التشوُّش مع ما هي عليه تلك البلاد من الارتقاء في الغنى والعلوم والمعارف، ورغماً من أنّ أفراد طبقاتها بالغون من ارتقاء المدارك حدّاً يؤهلهم لأن يقرروا بأنفسهم مصير حكومتهم. ولكن مهما يكن من هذا الأمر، فإننا نعتقد أنّ بقاء تلك البلاد على الطريقة الثانوية في الانتخاب متأتٍ عن عدم احتياج الأمة الأميركية إلى استعمال الصرامة والشدة في تأييد رغائبها وتنفيذها بالحرف. فالولايات المتحدة لم تدخل حتى الساعة في عمل عالمي حاسم يضطرها إلى التشديد في وضع الرجل الذي تختاره هي على كرسي الرئاسة.

الأمة التي تتمشى في الانتخاب على الطريقة الثانوية وتسلم من المشاغب والإجحاف نادرة في العالم، والأمة التي تجري على هذه الطريقة في انتخاباتها لا تكون هي قائمة بانتخابات بل تكون قائمة بمضاربة ومقامرة فعلية.


أنطون سعاده
المجلة، سان باولو 
السنة 10، الجزء 10،  1/11/1924 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى