محاضرة الزعيم الأولى في الندوة الثقافية

(نبتدىء، من هذا العدد، بنشر سلسلة المحاضرات الدراسية في التعاليم السورية القومية الاجتماعية، التي يلقيها الزعيم، أسبوعياً، في الندوة الثقافية للحركة القومية الاجتماعية. والمحاضرة التي ندرجها فيما يلي هي الأولى، ولها طبيعة تمهيدية فكرية ـ روحية للدخول في نطاق نظرة الحركة القومية الاجتماعية إلى الحياة والكون والفن، كما يرسم خطوطها المعلم الذي أسس مدرسة الفكر القومي الاجتماعي.

ما كاد الزعيم يبتدىء بإلقاء سلسلة الدروس في الندوة الثقافية، حتى تولّد تيار فكري ـ روحي حرك أوساط النهضة القومية الاجتماعية وأوساط بيروت الثقافية. فبعد أن حضر المحاضرة الأولى التي ندرجها الآن نحو خمسة وسبعين شخصاً، ارتفع عدد الحضور في المحاضرة الثانية إلى نحو مئة وخمسين، وفي المحاضرة الثالثة إلى نحو ثلاث مئة. وآخر محاضرة ألقيت قبل صدور هذا العدد كان عدد الحضور فيها يبلغ حوالي ست مئة شخص. والإقبال من دور العلم وأوساط الثقافة من خارج نطاق الحركة القومية الاجتماعية يزداد كل أسبوع. فللسلسلة التي ننشرها ابتداءً من هذا العدد قيمة توجيهية عالية):

في أول اجتماع عقد في هذا المكان، وكان مخصصاً للطلبة القوميين الاجتماعيين في الجامعة الأميركانية، وعدتُ الطلبة بإعادة النشاط الثقافي في الحزب القومي الاجتماعي بإعادة الندوة الثقافية التي كانت تأسست في الحزب قبل سفري واستمرت نحو سنتين، ثم تركت أعمالها بسبب الحرب والاعتقالات والمعارك السياسية التي تعرض الحزب لها.

في الاجتماع الأول المذكور أعلنت للرفقاء الطلبة أني أرى أنّ انتشار الحركة القومية الاجتماعية، في السنوات الأخيرة،، كان مجرّد انتشار أفقي، سطحي، يعرّضها بقاؤها عليه للميعان والتفسخ والتفكك. ولذلك أرى الإسراع بإعادة الندوة الثقافية ودرس تعاليم النهضة القومية الاجتماعية والقضايا التي تتناولها، ضرورة لا يمكن إغفالها.

أما الحضور إلى الندوة فيجب أن يعتبر، خصوصاً في الأوساط الثقافية، واجباً أولياً أساسياً في العمل للحركة القومية الاجتماعية، لأنه إذا لم نفهم أهداف الحركة وأسسها والقضايا والمسائل التي تواجهها، لم نكن قادرين على فعل شيء في سبيل الحركة والعقيدة والغاية التي اجتمعنا لتحقيقها. فالمعرفة والفهم هما الضرورة الأساسية الأولى للعمل الذي نسعى إلى تحقيقه.

وإذا كنا نريد، فعلاً، تحقيق النهضة القومية الاجتماعية وتأسيس المجتمع الجديد بتعاليمها ودعائمها، كان الواجب الأول على كل قومي اجتماعي في الأوساط الثقافية، الاطلاع على الأمور الأساسية، وفي صدر وسائل الاطلاع والمعرفة الصحيحة الندوة الثقافية. فيجب أن نطبّق نظامنا على اجتماعات الندوة الثقافية. وإذا كنا لا نقدر أن نطبّق النظام في الأوساط المثقفة، اعترفنا بأن هذه الأوساط غير صالحة لحمل أعباء حركة فكرية ذات نظرة واضحة إلى الحياة، وليست أهلاً للاضطلاع بعمل عظيم كالذي وضعناه نصب أعيننا، وهو إيجاد مجتمع جديد نيّر في هذه البلاد وإيصال هذه النظرة إلى كل مكان. يجب علينا أن نفهم هدفنا فهماً صحيحاً لنكون قوة فاعلة محققة ولكي نتمكن من العمل المنتج.

بعد الاطلاع يمكن تكوين رأي. وحينئذٍ لا يبقى مجال لحدوث بلبلة كما حدث في الماضي في غيابي، وعلى أثر مجيئي وأخذي الأمور بالنقد والتحليل، وأخذي التدابير للقضاء على الفوضى والانحرافات التي كانت آخذة في التفشي وتهديد مستقبل هذه النهضة العظيمة القائمة بالإيمان، وآلام ألوف العاملين بإيمان وإخلاص. فلا بدّ من الاعتراف أنه كان في الدوائر العليا تفسخ في الأفكار والروحية وفي النظر إلى الحركة ومراميها.

ولكي لا نعود القهقرى يجب أن نكون مجتمعاً واعياً، مدركاً، وهذا لا يتم إلا بالدرس المنظم والوعي الصحيح. إنّ محاضرة تشتمل على كل الأسس في الحركة القومية الاجتماعية لا تعطي النتيجة الثقافية المطلوبة، لأن الثقافة عمل طويل لا يمكن أن يتم برسالة واحدة أو كتاب واحد، لأن الأمور تحتاج إلى تفصيل وتوضيح بالنسبة للمسائل التي نواجهها. علينا أن نفهم فلسفة الحركة لندرك كيف يمكن أن نعالج الأمور. في الاجتماع الأول للطلبة قلت شيئاً أريد أن أذكّر الطلاب به وهو: عندما نقول نهضة نعني شيئاً واضحاً لا التباس فيها ولا مجال لتضارب التأويلات في صدده. النهضة لا تعني الاطلاع في مختلف نواح ثقافية متعددة وفي التيارات الفكرية الموزعة في هذه البلاد، والتي جاءت مع بعض المدارس من أنكلوسكسونية ولاتينية وغيرها، وإنها لا تعني مجرّد الاطلاع والتكلم في المواضيع المتعددة أو المتضاربة بدون غاية وقصد ووضوح.

التكلم فيما نعرفه عن بعض الفلاسفة الغربيين أو المفكرين السياسيين الغربيين أو الذين اكتشفوا اكتشافات علمية لا يكفي ليكون نهضة منا نحن.

إنّ النهضة لها مدلول واضح عندنا وهو: خروجنا من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحي بين مختلف العقائد، إلى عقيدة جلية صحيحة واضحة نشعر أنها تعبّر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية ـ إلى نظرة جلية، قوية، إلى الحياة والعالم.

إذا وصلنا إلى الاقتناع بأننا أصبحنا ننظر إلى الحياة وإلى الكون الماثل أمامنا وإلى الخلق الذي ينبثق منا بالنسبة إلى الإمكانيات كلها في العالم ونستعرض مظاهرها ونفهم كل ذلك فهماً داخلياً، بنظر أصلي ينبثق منا نحن بالنظر لحقيقتنا، فحينئذٍ يمكننا القول إنّ لنا نهضة، إنّ لنا أهدافاً.

أما التكلم المبعثر على فولتير وموليير ولنكلن وهيغل ووليم جايمس وكانت وشوبنهور… إلخ. وعلى مختلف المدارس الفكرية بدون أن يكون لنا رأي وموقف واضح في تلك الأفكار وأولئك المفكرين، فلا يعني أنّ لنا نهضة. إنّ ذلك لا يعني إلا بلبلة وزيادة تخبط. إنّ الفكر البعيد عن هذه القضايا هو أفضل من الفكر المضطرب المتراوح الذي لا يقدر أن ينحاز أو أن يتجه، لأنه متخبط وليس له نظرة أصلية، ولا يدرك ماذا يريد.

الفكر المضطرب يبتدىء بالتأثر بأحد المفكرين ثم ينتقل إلى آخر، ثم يحصر نفسه ضمن نطاق بعض الأفكار ولا يعود يخرج. ويبدأ بمناقضة كل من له رأي آخر فتنشأ حالة الفسيفساء التي تتقارب قطعها ولكنها لا تتحد.

إنّ مثل هذا الفكر لا يمكنه أن يحقق شيئاً. الإنسان الذي لا يزال على سذاجة الفطرة له شخصية واستقلال نفسي وجوهر أعظم من شخص وضع نفسه أداة تسير بأفكار بعيدة عن حقيقته. وإنّ الأفكار المعتنقة اقتباساً من الخارج لا تحرك عوامل النفسية الصحيحة.

النهضة، إذاً، هي الخروج من التفسخ والتضارب والشك إلى الوضوح والجلاء والثقة واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة. هذا هو معنى النهضة لنا.

هذا المعنى ظهر طابعه في بداءة العمل السوري القومي الاجتماعي ويظهر ضمن وثائق متعددة أهمها وأولها خطاب الزعيم في أول يونيو/ حزيران 1935 الذي عبّر فيه عن قواعد أساسية هامّة وعن أهداف عملية يتوخى الحزب إصابتها والتمكن منها.

وقد فهم الناظرون من خارج الحزب إلى ذلك الخطاب، قيمته العقدية والتوجيهية وتعبيره عن نظرة الحزب ونهجه، وعدّوه الوثيقة الأساسية لدرس حقيقة الحزب السوري القومي الاجتماعي ومراميه وكتبوا في ذلك، كما فعل الخوراسقف لويس خليل الذي أصدر سنة 1936 كراساً لمحاربة النهضة القومية الاجتماعية وتعاليمها التحريرية الواضعة قواعد مجتمع جديد جعل عنوانه الحزب السوري القومي، مؤامرة على الدين والوطن. وفي اجتماع مقبل سنحلل ذلك الخطاب، ثم ندرس من جديد المبادىء التي ندين بها دراسة كاملة.

إنّ المبادىء هي مكتنزات الفكر والقوى، هي قواعد انطلاق الفكر، وليست المبادىء إلا مراكز انطلاق في اتجاه واضح إذا لم نفهمها صعب علينا أخيراً أن نفهم حقيقة ما تعني لنا [و] كيف نؤسس بها حياة جديدة أفضل من الحياة التي لا تزال قائمة خارج نطاق نهضتنا.

كنت أتوقع في غيابي أن يكون القوميون الاجتماعيون المهتمون بالمسائل الروحية الثقافية والأسس الفكرية قد جعلوا همّهم الأول درس حقيقة مبادىء النهضة، ودرس الشروح الأولية الأساسية التي توضح الاتجاه والغاية والأهداف القومية الاجتماعية، إرساخاً للعقيدة وتدقيقاً في العمل. هذا ما كان ينتظر. ولكن ما استغربته كثيراً جداً هو الاتجاهات الانحرافية التي نشأت وبرهنت على أنه لم يكن شيء مما توقعت. وقد ظهر، من الاختبارات التي مرّت في السنوات الثلاث أو الأربع الماضية، أنّ تاريخ الحزب، ضمن العوامل التي جابهها، لم يكن له اثر فاعل في التوجيه. وهذه الحقيقة تدل على أنه لم تكن هنالك عناية بتدريس تاريخ الحزب ـ تاريخ نشأته وسيره الأول ـ وكيف تغلّب على الصعوبات، وما هي القضايا الأولى التي جابهها وكيف عالجها، وكيف أنشأ قضية عظيمة وجعلها تنتشر وتمتد وتسيطر على الرغم من كل الصعوبات والعراقيل التي اعترضتها.

لم يكن الأمر يقف عند هذا الحد. فإن استغرابي بلغ حداً عالياً عندما وجدت أنّ أعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي يدعون أنفسهم قوميين اجتماعيين، لأنهم مسجلون رسميا في الحزب، يتقوّلون في قضايا الحزب والعقيدة والحركة كما لو كانوا جماعة غرباء عن الحركة القومية الاجتماعية بالكلية. النظامية الفكرية والروحية والمناقبية التي كانت العامل الأساسي الأول في نشوء النهضة القومية الاجتماعية وتولّد هذه الحركة العظيمة الآخذة في تغيير نفسية هذه الأمة ومصيرها، كادت تنعدم في دوائر الحزب العليا بعامل الإهمال، واصبحت الحركة مهددة بالميعان العقدي والنظامي.

القضية الأولى التي نشأت، وظهرت كل عواملها بعد رجوعي، كانت قضية نعمة ثابت ومأمون أياس. هذه القضية إذا تركنا ناحيتها الشخصية، التي هي الأساسية، أي المرامي الشخصية للمذكورين، بقيت هنالك قضية في ذاتها هي قضية التجديد القومي للأمة السورية. في هذه الناحية الواضحة التي لا يمكن أن يحصل فيها أي التباس حصلت اعوجاجات كادت تشوش حقيقة القضية القومية الاجتماعية.

إنّ “الواقع اللبناني” الذي كتبه نعمة ثابت وألقاه في اجتماع بعقلين سنة 1944 يشكل خروجاً عن معنى الأمة الذي نفهمه، والانتقال إلى القول بأمة جديدة: “الأمة اللبنانية”. وهو، فوق ذلك، يدل على إهمال مقصود لدرس عقيدة الحزب وتاريخه.

في “الواقع اللبناني” كل شيء قومي صار “لبنانياً” فقد تكلم نعمة ثابت فيه على قيم لها كل الصفة القومية العامة ونسبها إلى لبنان واللبنانيين، بدلاً من أن ينسبها إلى سورية والسوريين كما يتفق مع الحقيقة. من هذه القيم التراث والأخلاق والثقافة والتاريخ والرسالة.

والظاهر أنّ الحزب قبل انتشار “الواقع اللبناني” بحكم النظام فقط لأنني وجدت أنّ مجموع القوميين الاجتماعيين لم يتقيدوا بفكر واحد من هذه الأفكار. ولكن قبول هذا الخروج العقدي، وإن يكن في الظاهر فقط، يكون مسألة من المسائل الخطيرة. وإنّ مجرّد الإقدام على الخروج المذكور لم يكن ممكناً إلا بعامل إهمال تاريخ الحزب وإغفال درس عقيدته ونظرته إلى الحياة والكون والفن.

نشأت بعد ذلك قضية فايز صايغ وغسان تويني ويوسف الخال. وهي أيضاً شخصية لكنها أظهرت اشتراكات فكرية توجب النظر في هذه الظاهرة وفي العوامل الفكرية وسيرها وتحديدها، وتحديد الاتجاه الفكري الروحي القومي الاجتماعي.

إنّ قضية فايز صايغ لم تبتدىء بعد عودتي، بل ابتدأت قبل عودتي عندما وصلتني للمرة الأولى نسختان من العددين الأول والثاني من نشرة عمدة الثقافة.

ففي العدد الأول استلفتت نظري ناحيتان: 1 ـ الخروج على كل القواعد الدستورية، 2 ـ خروج على كل الأساس العقائدي الروحي للحركة القومية الاجتماعية.

وحالما قرأت هذه العبارات الأولى الواردة في كلمة عمدة الثقافة والفنون الجميلة التي قدمت بها نشرة [عمدة] الثقافة “إلى القارىء”: “يشرف على هذه النشرة عميد الثقافة” وأنه هو “المسؤول النهائي عنها” وأنّ النشرة تنطبق عليها “سياسة العميد” اللادستورية، بدلاً من سياسة الزعيم المنصوص عنها في الدستور، وأنّ للعمدة رسالة ثقافية خاصة غير مندمجة في رسالة الحركة القومية الاجتماعية الثقافية. عندما قرأت هذا ورأيت إعلان هذا الانفراد وهذا الشذوذ تساءلت: ما هو الداعي لإعلان مسؤولية العميد “النهائية” التي تعني أنه لا يحق لمجالس الحزب ولا للزعيم نفسه التدخل فيها؟ وقد رأيت في ذاك التصرف خروجاً أساسياً على نظام الحزب ومؤسساته ولكل ما يعني وحدة الحزب لبلوغ الغاية الواحدة، ونزعة شخصية شديدة نحو الأنانية ونحو دكتاتورية فردية قبيحة لا تأخذ إرادة عامة ولا دستوراً نافذاً بعين الاعتبار!

ثم قرأت ما سماه فايز صايغ “البيان الأساسي لعمدة الثقافة والفنون الجميلة” المنشور في العدد الأول من نشرة عمدة الثقافة بعد المقدمة التي ذكرتها آنفاً، خصوصاً ما سماها “مبادىء أساسية في سياسة هذه العمدة”، من البيان المذكور، فوجدت أنّ هنالك انحرافاً أساسياً عن نظرة الحركة وقضيتها ومبادئها، عن غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي، إذ إنه نزع عن الثقافة معناها وغرضها القومي الاجتماعي وجعلها أمراً “شخصياً حراً” ونزع عن العمدة مسؤوليتها تجاه التعاليم السورية القومية الاجتماعية وجعلها “تجاه القيم العليا” التي يكون من حق العميد وحده تعيين ماهيتها… إلخ.

وبعد أن وصل غسان تويني إلى أميركانية مكلفاً إعطاء الزعيم تقريراً عن حالة الحزب وأرسل إليّ تقريره شعرت أنّ الانحراف الواقع فيه عميد الثقافة فايز صايغ واقع فيه غسان تويني أيضاً.

أجبت غسان تويني مثنياً على الطريقة التي كتب بها، وأبديت له النقاط التي أخطأ فيها فاعترف بخطئه، إلا في القضايا التي كان متضامناً فيها مع فايز صايغ، إذ هو أيضاً تأثر بتعليم المذهب الشخصي الفردي، كما يبدو من مقدمة رسالة كان وضعها في معنى الأمة، ومن عبارات وردت في رسائله.

وقد أرسلت خلاصة المراسلة التي دارت بيني وبين المكلف غسان تويني إلى نعمة ثابت في شهر سبتمبر/ أيلول من سنة 1946. وكان بذلك وَضْعُ حدّ لسياسة عميد الثقافة ومشاريعه وتعلقت قضيته إلى ما بعد عودتي. وبعد اطلاعي في أواخر الصيف الماضي على كتابات فايز صايغ، رأيت أنها تتضمن خطوط عقيدة جديدة جلبت من خارج الحزب، لتحل محل العقيدة القومية الاجتماعية، فثارت قضية فايز صايغ مجدداً بصورتها التي اطلعتم عليها وعلى نتيجتها الأخيرة.

قبل نهاية القضية أتى غسان تويني ويوسف الخال ويوسف نويهض، وكان معهم الرفيقان حلمي وفوزي معلوف. وتكلم غسان تويني ويوسف الخال في موضوع “حرية الفكر” ومن الطريقة التي تكلما فيها ظهر لي أنهما يتكلمان بأفكار وروحية وعقائد هي من خارج الحزب، لا من داخله، فقلت لهما: إنكما تمثلان اعتقادات ليست من القضية ولا من نظر الحركة أو إيمانها، بل من افكار وتأثيرات لا علاقة لها بالحركة القومية الاجتماعية وفلسفتها وعقيدتها وروحيتها.

من الأمور الغريبة في هذا الصدد، أنه بدلاً من أن يسأل شخص يعتبر نفسه عضواً في حركة ترمي إلى تأسيس مجتمع قومي على قواعد جديدة يؤمن أنها صحيحة ـ بدلاً من أن يقول: كيف نحقق هذه القضية فنتغلب على كل الصعوبات والبلبلة والعراقيل التي تؤدي إلى تفسخ المجتمع السوري؟ بدلاً من هذا يقول: “يجب أن نعرف ماذا سيحدث لكل الأفكار التي كونت هذه البلبلة في البلاد، بعد انتصار الحركة [القومية] الاجتماعية وتسلمها الحكم؟ ما هو مصير التيارات الفكرية التي بلبلت الشعب وفسّخته؟ ماذا سيكون مصير هذه الأفكار متى نجحت الحركة القومية الاجتماعية؟”.

ومن أغرب الأمور أنّ الذين كانوا يسألون كانوا يظنون أنهم على مستوى فلسفي يؤهلهم للبحث. ولكنهم كانوا ينظرون إلى الأمور بالمقلوب وهم أبعد الناس عن النظر في القضايا الأساسية.

زبدة قولهم هي: إننا لا قضية صحيحة لنا. لأننا حين نفكر بماذا يكون مصير الأفكار التي ستسقط في صراع الحياة، وكيف يمكن أن ننقذها، فإننا إذاً نعلن أنه ليس لنا قضية صحيحة قادرة على إنشاء مجتمع صحيح، وتسيير هذا المجتمع على قواعد أخلاقية روحية سياسية أفضل!

وإذا كنا لا نؤمن بأن لنا قضية صحيحة كلية نريد تحقيقها فلماذا، إذاً، هذا الحزب وهذه الأنظمة وهذه الروابط؟ الرابطة إذاً هي مادية مفروضة وليست روحية باليقين والاقتناع بأننا نعمل لإنشاء مجتمع أفضل وحياة أفضل!

إذا كانت لا توجد لنا قضية تعني كل وجودنا فلا حاجة بنا للقول بالحزب السوري القومي الاجتماعي. نحن في الحزب لأننا في قضية تجمعنا، وكما عبّرت في خطابي أول يونيو/ حزيران 1935، من اجلها نقف معاً ونسقط كلنا معاً، والوقوف معاً والسقوط معاً في حركة قوية إما أن نكون غالبين فيها أو مغلوبين، يعني، بما لا يقبل الشك، أننا نؤمن بقضية أساسية جوهرية.

في الانحرافات التي نشأت وفي التعابير التي استعملها فايز صايغ وغسان تويني المنحرفة كل الانحراف، أصبحنا جماعة لا تعرف الحق والخير والجمال، وقضيتها مجرّدة من هذه القيم! لأننا حين نشك، وحين نريد أن ننقذ الحق والخير والجمال من انتصار حركتنا، حين نرى أنّ انتصارنا يعني تعطيل الحق والخير والجمال وأننا، لذلك، يجب أن نعمل على إنقاذها من انتصارنا، حينئذ يجب القول إنّ الحق والخير والجمال موجودة خارج قضيتنا. وما معنى قضيتنا إذاً لم تكن مؤسسة على الخير والحق والجمال؟

إنّ هذه الحقيقة التي لأجلها نجابه كل الأخطار من كل نوع هي حقيقة أنّ قضيتنا فيها كل الخير وكل الحق وكل الجمال وكل الحقيقة وكل العدل للمجتمع الإنساني (تصفيق وهتاف). من أجل هذا الإيمان يذهب مئات وألوف إلى السجون ويتعرضون لشتى صنوف الويلات، وتذوب جسومهم يوماً فيوماً ولا يئنون ولا يستنجدون.

بهذا الإيمان يعملون للحق كله والخير كله والجمال كله التي تعبّر عنها قضيتنا (تصفيق).

لو بقيت تلك العوامل الانحرافية فاعلة لوصلنا إلى انعدام الثقة بأنفسنا وإلى الشك في مقاصدنا وطبيعتنا وحقيقتنا ـ في نفوسنا التي هي الضمان الأخير.

إذا كنا بطبيعتنا أشراراً فلا توجد قواعد تغيّر هذا الطبع، وحين لا يوجد للحق والخير والجمال ضمان من أنفسنا، فلا يمكن كل مفكري العالم إنقاذها من طبيعتنا!

نحن نؤمن بنفوسنا قبل كل شيء، بحقيقتنا الجميلة الخيرة القوية والمحبة.

فما فائدتنا من ترك الخير كما نراه، لنذهب وراء ما هو خير لحقيقة غير حقيقتنا؟

وأي فائدة لنا من ربح العالم كله وخسارة أنفسنا؟!

يجب أن يكون لنا الثقة بأن لنا المقدرة الاجتماعية العليا لكل مجتمع مدرك، لندرك ما هو الحق والخير والجمل.

فإذا وجدت هذه القيم من غير أن تمتّ إلى مجتمعنا بصلة ومن غير أن تعبّر عن حقيقته أو جماله أو خيره، فلا خير ولا حق ولا جمال.

فما لا نقدر أن نراه نحن أنه الحق والخير والجمال، لا يمكن أن يكون خيراً وحقاً وجمالاً.

نحن جماعة مؤمنة بحقيقتها وطبيعتها وأساسها، مؤمنة بأنه لا يمكن أن يكون في حقيقتها وطبيعتها إلا الحق والخير والجمال.

في الأفراد فقط تلعب المفاسد. ولا يمكن لهؤلاء أن يصموا المجتمع كله بالمفاسد التي في أنفسهم.

لا يمكن لمبادىء أن تعوضنا عن خسارتنا هذه الحقيقة. إذا خسرناها فلا شيء يعوض علينا فقدها.

إنّ حزبنا في سيره، في عمله، في نضاله، يمثل ويعمل ويصارع في سبيل أساس أفضل لحياة الإنسان ـ المجتمع.

إنّ انتشار دعوته وقضيته في جميع أوساط الشعب السوري دليل واضح ناصع على الحقيقة الأساسية التي يعبّر عنها الحزب القومي الاجتماعي.

فكيف نسمح للشك بهذه الحقيقة بأن يتسرب إلى عقولنا؟

كيف نسمح، بعد أن أدركنا هذا الحق، بأن نسمع من يقول إننا لسنا على الحق والخير والجمال؟ وإنّ هناك قضايا تمثلها مبادىء أفضل من مبادئنا، الأمر الذي يعني إلغاء مبرر وجودنا كمجتمع وكنظام جديد.

إنّ الذين يقولون مثل هذه الأقوال: “إنني لا أفعل مصلحة القضية القومية الاجتماعية أو مصلحة أمتي، إلا بقدر ما يعكس الحق والجمال نفسيهما فيها”، “أنا أكون قومياً وأخدم مصلحة أمتي وبلادي بشرط أن لا أتعصب على الحق والخير والجمال أينما وجدت”، “لن نسمح لاعتبارات خارجة عن نطاق قيم الحق والخير والجمال بأن تتدخل في شؤون إنتاج يتوخى التعبير عن الحق والخير والجمال” ـ إنّ الذين يقولون مثل ذلك، يعدّون الحق والخير والجمال خارج نطاق عقيدتنا ـ نطاق قضيتنا القومية الاجتماعية ـ أي إنّ قضيتنا لا تتضمن الحق والخير والجمال وليست في قواعدها وانطلاقها، تعبيراً صحيحاً عن الحق والخير والجمال!!

لا يجوز أن نسمح بمثل هذه السفسطات!! إذا سألت واحداً من أولئك السفسطائيين: ما قولك في الحزب الشيوعي إذا حرّمنا عليه العمل والاستمرار وتكوين الطبقات في قلب الأمة؟ أجاب فوراً “لا بأس”!

إذا كان يقول ذلك ويجيز إنقاذ الأمة من مساوىء الحزب الشيوعي في البلاد، فهو يقرّ بضبط الأمر وتوجيهه وضبط الأفكار والسماح للصحيح الذي يقدم الخير للأمة لكي ينمو، وبتشذيب الفاسد لكي لا يعمل على إفساد ما بقي من حيوية الأمة وفاعليتها.

فإذا سلّم معنا في ناحية وجب عليه أن يسلّم في كل النواحي. وغذا كانوا يسلّمون بأننا نعرف الفاسد في حقيقته فنحن إذن نعمل لمحو الفاسد في جميع القضايا.

إذن، يجب التسليم بأننا حركة صحيحة وجدت الحقيقة والحق والخير والجمال واشتملت عليها تعاليمها.

وهذا يدل على أنّ النفسية التي صدرت عنها هذه القضية القومية الصحيحة هي نفسية جميلة، خيرة، تعرف بأية فكرة يجب أن تأخذ وتتمسك، واية فكرة يجب أن تحارب وتشلّ.

نحن حركة مهاجمة تأتي بتعاليم جديدة تهاجم بها المفاسد والفوضى التي بسببها بقي الشعب في الوضع المؤسف المحزن الموجود فيه.

فإذا صرنا هذه القوة وأصبحنا قادرين على تهديم كل القواعد الفاسدة التي منعت شعبنا من حياة الخير والحق والجمال، أفنقول، بعد أن صرنا هذه القوة، إننا لا نحطم المفاسد حتى لا نتّهم بالطغيان؟

لا بأس أن نكون طغاة على المفاسد، لأن قضيتنا ليست إلا قضية الحق والخير والجمال وليست هي ما يحتمل أن يكون حقاً أو أن لا يكون.

إنّ قضيتنا تعني لنا كل الخير والحق والجمال. وإذا كانت توجد وراء حقيقتنا حقائق غير حقيقتنا، فما كان حقاً لنا هو الحق. بهذا الإيمان نسير وإلى الغلبة يجب أن نسير.

أما الذين لم ينشأوا هذه النشأة ولم يدركوا هذه الحقيقة، فهم لم يتمكنوا من الثبات معنا. ولأنهم لم يتمكنوا ولم تكن لهم هذه الثقة ارادوا أن يعطلوا حقيقة المجتمع بالقول إنه لا يمكن أن يدرك وحده الخير والحق والجمال.

لذلك عندما أرسلت منذ سنة رسالتي الثانية من الأرجنتين، التي دعوت فيها الحزب إلى البطولة وإلى مهمة تحقيق القضية القومية الاجتماعية لم يشاؤوا أن ينشروها ويمكن أن يكونوا عطلوها. ولكني احتفظت بنسخة عنها فسلّمتها إلى عمدة الإذاعة وأمرتها بنشرها في أول عدد جديد من مجلة عمدة الإذاعة فنشرت في عدد 30 يونيو/ حزيران 1947.

لقد شئت أن أجعلهم يعون حقيقة البطولة وحقيقة مهمة الحركة القومية الاجتماعية عندما قلت في الرسالة المذكورة.

“إنّ حالة أمتنا ووطننا الحاضرة لا تزال الحالة عينها التي تستدعي التوجه بالكلية إلى مزية أولية أساسية من مزايا حزبكم ونهضتكم العظيمة، أعني مزية البطولة المؤمنة. فإن أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تأتي على الأمم الحية فلا يكون لها إنقاذ منها إلا بالبطولة المؤيدة بصحة العقيدة. فإذا تركت أمة ما اعتماد البطولة في الفصل في مصيرها، قررته الحوادث الجارية والإرادات الغريبة.

“إنّ حزبكم قد افتتح عهد البطولة الشعبية الواعية، المؤمنة المنظمة في أمتكم. فإن عهدكم هو عهد البطولة، فلا تتخلوا عن طريق البطولة ولا تركنوا إلى طريق المساومة الغرارة. قد أكسبت حزبكم مرونة سياسته الأصيلة ودبلوماسية مدرسته السياسية الدقيقة الفكر، أنصاراً كثيرين وألّفت قلوب جماعة كانت بعيدة عن الحزب. ولكني أقول لكم إنّ قوّتكم الحقيقية ليست في المؤلّفة قلوبهم ولا في المتقربين إليكم في طور نموكم بعد زوال كابوس الاحتلال العسكري الأجنبي، بل في بطولتكم المثبتة في حوادث تاريخ حزبكم وفي عناصر رئيسية هي: صحة العقيدة وشدة الإيمان وصلابة الإرادة ومضاء العزيمة. فإذا فقدتم عنصراً واحداً من هذه العناصر الأساسية انصرف عنكم المناصرون وتفرّق المتقربون.

“لتفعل إدارتكم العليا كل ما تقدر عليه في ميدان السياسة والدبلوماسية فذلك من خصائصها. أما أنتم فإياكم من صرف عقولكم وقلوبكم إلى السياسة والدبلوماسية، واحذروا من اختلاط السياسة والدبلوماسية وأغراضهما بعقيدتكم وإيمانكم وعناصر حيويتكم الأساسية لئلا تكون العاقبة وخيمة.

“كل عقيدة عظيمة تضع على أتباعها المهمة الأساسية الطبيعية الأولى التي هي: انتصار حقيقتها وتحقيق غايتها. كل ما دون ذلك باطل. وكل عقيدة يصيبها الإخفاق في هذه المهمة تزول ويتبدد أتباعها.

“عوا مهمتكم بكامل خطورتها والهجوا دائماً بهذه الحقيقة ـ حقيقة عقيدتكم ومهمتكم ـ حقيقة وجودكم وإيمانكم وعملكم وجهادكم.

“مارسوا البطولة ولا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل” (أنظر ج 7 ص 182).

نحن لم نحارب ولا نحارب من أجل أن تكون لنا ولغيرنا حرية فوضوية تخدم لذات الأفراد المرضى في نفوسهم، بل حاربنا ونحارب من أجل تحقيق قضية واضحة وإقامة نظام جديد.

نحن، إذاً، لسنا مسؤولين عن العقائد التي تبلبل مجتمعنا وتعطل حقيقتنا وإدراكنا لحقيقتنا. نحن مسؤولون فقط عن هذه القضية التي هي مقدسة لنا، لأننا نؤمن أنها تعبّر عن كل الحق وكل الخير وكل الجمال وكل السعادة وكل الصداقة، وكل القيم العليا التي يحتاج إليها مجتمعنا لينهض وتكون له حياة جيدة.

أما القضايا الأخرى فمسؤول عنها الذين اعتنقوها. نحن لا نطالب بمصير “الشيوعية” أو “الفردية” إذا انتصرنا. نحن لا نطالب إلا بما نؤمن به نحن.

السبت 7 يناير/ كانون الثاني 1948

كما سجلها الأمين جورج عبد المسيح

النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، العدد 1، 1/3/1948. ص 6 ـ 16

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى