محاضرة الزعيم التاسعة في الندوة الثقافية

موضوعنا اليوم المبدأ الإصلاحي الخامس ـ “إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن”. نتابع الشرح المختصر لهذا المبدأ.

“إنّ تنازع موارد الحياة والتفوق بين الأمم هو عبارة عن عراك وتطاحن بين مصالح القوميات. ومصلحة الحياة لا يحميها في العراك سوى القوة، القوة بمظهرها المادي والنفسي (العقلي). والقوة النفسية، مهما بلغت من الكمال، هي أبداً محتاجة إلى القوة المادية، بل إنّ القوة المادية دليل قوة نفسية راقية. لذلك فإن الجيش وفضائل الجندية هي دعائم أساسية للدولة.

“إنّ الحق القومي لا يكون حقاً في معترك الأمم إلا بمقدار ما يدعمه من قوة الأمة. فالقوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره.

“وإنّ ما نعنيه بالجيش هو جميع أقسامه البرية والبحرية والجوية، فإن الحرب التي ارتقى فنها ارتقاء كبيراً توجب أن يكون تأهبنا كبيراً.

“الأمة السورية كلها يجب أن تصبح قوية مسلحة.

“لقد اضطررنا إلى النظر بحزن إلى أجزاء من وطننا تسلخ عنه وتضم إلى أوطان أمم غريبة لأننا كنا فاقدين نظامنا الحربي وقوّتنا الحربية. إننا نريد أن لا نبقى في هذه الحالة من العجز. إننا نريد أن نحوّل جزرنا إلى مد نستعيد به كامل أرضنا وموارد حياتنا وقوّتا.

“إنّ اعتمادنا في نيل حقوقنا والدفاع عن مصالحنا على قوّتنا. نحن نستعد للثبات في تنازع البقاء والتفوق في الحياة وسيكون البقاء والتفوق نصيبنا”.

القوة النفسية مهما بلغت من الكمال تبقى أبداً محتاجة إلى القوة المادية. القوة المادية دليل قوة نفسية راقية. لا يمكننا بالمنطق وحده، لا يمكننا بإظهار الحق مجردّاً أن ننال الحق. لأن الإنسانية بالحقيقة ليست إنسانية واحدة.

في كتابي نشوء الأمم عرضت لهذه الناحية، واوضحت كيف أنه لا يوجد في العالم إنسانية واحدة بل إنسانيات. إنسانيات عددها عدد القوميات والأمم. لذلك فإن ما هو حق للبعض ليس حقاً للبعض الآخر. لأن المصلحة في العراك هي في الخير أساس الحق في كل معترك.

هذه هي الناحية العملية التي لا غنى عن مواجهتها. لا يمكننا أن نعتمد في فلسطين ـ لكي ننال حقنا ـ على إظهار هذا الحق مجرّدا. يجب أن نعارك، يجب أن نصارع، يجب أن نحارب ليثبت حقنا. وإذا تنازلنا عن حق العراك والصراع تنازلنا عن الحق وذهب حقنا باطلاً.

لذلك كان اتجاهنا نحو إنشاء قوة مادية تدعم قوّتنا النفسية، قوّتنا النفسية العظيمة أو الفكرية الشعورية، أمراً يدل على أننا نرفض قبول الحالات التي لا تطيقها نفوسنا الحرة الأبية. نرفض أن ننال أقل ما يكتبه الله أو يريده بالذين يعملون بالمواهب التي أعطاهم.

إذا كانت لنا طلبات ورغبات في الحياة يجب أن تكون لنا إرادة قادرة على تحقيق المطالب ويجب أن تكون لنا القوّة اللازمة لتحقيق تلك المطالب.

لا يعني ذلك أنه يجب أن نجهل ونركب الجهل في رؤوسنا، أن نغترّ بالقوَّة، لكنه يعني أيضاً، أن لا نجهل، إلى حدّ أن نحتقر القوَّة.

لا مفر لنا من التقدم إلى حمل أعباء الحياة إذا كنا نريد البقاء. فإذا رفضنا البقاء عطَّلنا الفكر والعقل. عطَّلنا الإرادة، عطلنا التمييز وأنزلنا قيمة الإنسان على قيمة الحيوان.

لذلك كان اهتمامنا بالقوَّة المادية ضرورياً ولازماً. إنه دليل على نوع نفسيتنا، نوع إدراكنا، نوع أهليتنا. إذا أغفلنا الناحية المادية أثبتنا أننا أغفلنا الناحية النفسية أيضاً.

إنّ العقل يستخدم المادة ويسيّرها. فإذا ترك استخدام المادة وتسخيرها لأغراضه ترك موهبته وفاعليته الصحيحة واصبح جامداً.

على أنّ عقليتنا ليست من العقليات الجامدة المسترسلة إلى قواعد وهمية لما هو الحق والسلام في العالم. يعني أنّ نفسيتنا تفهم الوضع وتفهم ما تريد من الوضع الماثل أمامها، وتعدّ العدة لإثبات حقها ولنيل مبتغاها في الحياة.

ولذلك نجد هذه العبارة الواضحة في النص “إنّ الحق القومي لا يكون حقاً في معترك الأمم إلا بمقدار ما يدعمه من قوة الأمة. فالقوَّة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره”.

بعد إيضاح ما تقدم لا بدّ لنا من التقدم إلى النظر في بعض افكار أو اعتراضات فكرية نسمعها يومياً تقريباً، هي نتيجة عهد من الخمول والذّل طال أمره في هذه الأمة.

الاعتراضات الفكرية التي نسمعها، سلمية، نسمعها كل يوم “ما لنا وللحرب؟ لماذا لا نعلن أمتنا وبلادنا أمة وبلاداً محايدة في كل الحروب، لا جيش ولا سلاح، لا تحارِب ولا تحارَب؟”

سويسرة بلاد لحيادها أسباب. اسباب لا يُمكن أن تتوافر لا في لبنان ولا في سورية الطبيعية، كلها. إنّ مركز هذه البلاد من حيث المواصلات ومن حيث أنها نقطة استراتيجية، للمواصلات والحرب لا يسمح مطلقاً بتحويلها إلى بلاد محايدة كسويسرة التي هي كالصمام في ملتقى طرق مواصلات دول عظيمة على جوانبها مستعدة للتطاحن والعراك على صيانة هذا الحياد والذود عن حدود تلك البلاد.

لبنان، كبيراً أو صغيراً، ليس له من القوَّة والأساليب الإقناعية ما يمكنّه أن يكون مثل سويسرة بكل معنى الكلمة. فالقول أن لا نحارب ولا نحارب يحتاج إلى شيء لا يمكننا اليوم أن نتمنى نواله. وهذا الشيء هو قبول دول العالم قبولاً وجدانياً نهائياً باعتبارنا بلاداً مستقلةً لا يهاجم مطلقاً من أي جهة، وأن تكون هذه الدول مستعدة للدفاع هي نفسها عن الحدود إذا سوّلت لأحد نفسه الاعتداء عليها.

قال لي مرة مواطن: ـ كان ذلك في البرازيل ـ أنا معكم، إنّ سورية بلاد واحدة وشعب واحد، وإنّ وحدتها أفضل لحياتها، وأنا معكم في إنشاء الوحدة ولكني أخالفكم في إنشاء جيش وفي الاستعداد للحرب. لماذا لا نكون مثل سويسرة؟ نوحد البلاد ونعلن أننا لا نحارب ولا نحارب؟

قلت له (إيدي بزنارك) إذا توصلت إلى إقناع الدول جميعها بالتعهد أنها لا تعتدي ولا تسمح بالاعتداء على البلاد، وتعيد إليها حدودها كاملة ليتمكن الشعب أن ينمو فيها فلا تجد معارضاً. ولكن أن تمنينا وتمتي نفسك بالمحال فمثلك مثل جحا. جحا أراد أن يخطب بنت الملك لابنه، تشاور مع امراته وابنه، فقبلا، ولم يبقَ إلا شيء واحد، هو أن يقبل الملك وامرأته وابنته.

كل أمة أو دولة إذا لم يكن لها ضمان من نفسها، من قوّتها هي، فلا ضمان لها في الحياة على الإطلاق. يمكن أن تجد لها ضماناً مدة من الزمن في عهود وعقود ومعاهدات. ولكن هذه أمور قابلة للتطور والتحول والتغيّر. لا ثبات لها على الإطلاق.

كم من مرة نقضت أمة معاهداتها. كم من مرة انقلبت دولة على تعهّد من تعهداتها. كم من مرة حصلت أمة على تأكيد بأن حدودها لا تمس فاجتيحت في اليوم الثاني.

العقود والضمانات والمعاهدات تقوم ما ثبتت المصالح التي تؤمنها لجميع الأطراف المشتركة فيها فإذا بطلت المصالح أو انتفى بعضها، نقضت المعاهدة أو الاتفاق أو العهد.

لذلك لا يمكن مطلقاً التسليم، باقتناع، أنه يكفي إظهار حق الجماعة على نفسها وفي وطنها لتحوز الحق لها. لا يكفي. إنّ الحياة صراع، خصوصاً الحياة القومية. وما زالت الإنسانية قوميات لا إنسانية واحدة لا يمكن مطلقاً الاعتماد على فكرة نظرة حق مجرّد.

نعود إلى ناحية ثانية، نقول نحن أمة صغيرة ضعيفة لا قبل لها بالحرب، فماذا يمكننا أن نفعل؟ كم يمكننا أن نحشد من الجيوش؟ وماذا نستطيع أن نفعل بهذا الجيش؟

الجيش هو الكمية والقوة اللازمة لتغيير الأمور من عدم توازن إلى توازن. أو توازن إلى عدم توازن. إنّه ضرورة لا مفر منها.

كل أمة تعتمد اليوم ليس فقط على قوة جيشها مهما بلغ من الكمال. القوَّة هي قوتان: نفسية وماديةة. فكرية ونظرية أو سياسية وحربية. كل أمة تحتاج إلى إبلاغ قوّتها الداخلية إلى أعلى درجة، ومع ذلك إلى تثبيت نفسها في التوازن الانترناسيوني.

لكن التوازن الانترناسيوني قد يختل. قد تنشب حرب فإذا لم تكن بلاداً قوية قادرة، على الأقل، على الدفاع مدّة من الزمن إلى أن تكون الجبهة التي هي فيها تحركت ووضعت كل فاعليتها في العراك، تمحى تلك الأمة من الوجود ولا يعود يفيدها أنها موجودة في جبهة من الجبهات مهما كان هنالك اتفاقات انترناسيونية.

إنّ هذه الاتفاقات تجد ضمانها في القوّة التي وراء تلك الاتفاقات.

إذا ضعفت القوَّة في ناحية من النواحي لم يمكن مجرّد العقود أن تدفع عن أمة من الأمم جيشاَ عدواً مكتسحاً. بل إنّ وجود القوَّة شرط للاتفاق. لا يتفق من معه شيء مع من ليس معه شيء. الاتفاق يكون بين اثنين أو أكثر مع كل منهم شيء يعتمد عليه. فإذا لم يكن معه شيء، كان على الأقل، وفي أحسن الحالات، كمية تابعة مستخدمة لا رأي لها في المسائل، ولا إرادة في الحياة.

ثم إنّ الكثرة والقلّة لا تقرر المصير. يقرر المصير، في أكثر الحالات، التفوق، التفوق النفسي، التفوق العقلي الذي يسد كثيراً من عجز العدد. ومن هذه الجهة نحن نقول إنّ الأمة السورية هي أمة متفوقة في نفسيتها، في عقليتها. إنّ تاريخها الماضي يشهد على تفوقها. وحالتها الحاضرة هي نتيجة لتصادم تفوقها ضمنها، في داخلها، بين جماعاتها، بعضها ضدد بعض، ولأسباب وعوامل تاريخية أخرى.

من أتعس حالات هذه الأمة، أنها تجهل تاريخها. ولو عرفت تاريخها معرفة جيِّدة صحيحة لاكتشفت فيه نفساً متفوِّقة قادرة على التغلب على كل ما يعترض طريقها إلى الفلاح.

يقولون إنّ بلادنا كانت دائماً ممراً للغزاة الفاتحين. وينسون أنّ بلادنا كانت أيضاً مصدراً لفتوحات عظيمة.

قبل أن تجتاح مصر هذه البلاد اجتاحت جيوش هذه البلاد مصر وأخضعتها. وأنشأت فيها الدولة الفرعونية المعروفة بالهكسوس وحكمت مصر مدة من الزمن. وأبو الهول هو من زمن الدولة الفرعونية السورية في مصر.

وبالفتح السوري لمصر نقلت إلى مصر معارف جديدة كاستعمال العجلات والخيل وتنظيم الجيش، إلخ.

ثم بعد أن اجتاحت الجيوش المصرية سورية، عادت موجة أخرى فاكتسحت مصر في زمن الآشوريين والكلدانيين. سنحاريب كان يتناول الجزية من فرعون مصر.

ثم ننظر في ناحية أخرى. الفتوحات السورية في الغرب. الناحية البحرية التي قام بها الفينيقيون الذين لا نسمع من التاريخ التقليدي عنهم إلا أنهم شعب يعرف التجارة، وأنه كان جاهلاً بمعدات الحرب متخاملاً قاعداً عن الأمور العظيمة.

معي هنا كتاب بالإسبانية (Cannas) وهو يخص مكتبة الضابط في الأرجنتين أي المكتبة المخصصة للضباط، مترجم عن الألمانية، مؤلفه الكونت فون شليفن أحد أعاظم المفكرين والقادة الحربيين.

هذا الكونت هو أعظم دماغ تخطيطي للحرب ظهر في ألمانية وعلى قواعد نظرياته يبني الفنيون الألمان في التخطيط. عليه اعتمدوا في الحرب العالمية الأولى وعليه اعتمدوا في الحرب العالمية الأخيرة.

و (Cannas) هي ترجمة اللفظة اللاتينية لـ (كني) موضع في إيطالية على مقربة من رومة.

صار الاسم شهيراً بالمعركة التي جرت في سهله. فالمعركة التي دارت بين جيش سوري فاتح، جيش الفينيقي هاني بعل، وبين الجيش الروماني المدافع عن رومة التي أصبحت مهددة بالسقوط.

(وأخذ الزعيم لوحاً أسود كان معداً لهذا الغرض ورسم عليه تخطيطاً لمعركة كني).

(1)                               ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

                                    ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

                  ….. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ …..

                  ….. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ …..

                  ….. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ …..

                  ….. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ …..

                  ….. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ …..

(2)              ….. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ …..

                  ….. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ …..

                  ….. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ …..

                  ….. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ …..

                  ….. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ …..

                           ـ ـ                ـ ـ

                           ـ ـ                ـ ـ

                           ـ ـ                ـ ـ

                           ـ ـ                ـ ـ

                           ـ ـ                ـ ـ

هذه القطع هي جيوش. صفوف بعضها وراء بعض.

  • هي الجيوش الرومانية (علامة ـ) تدل على قطع المشاة الفيالق أو الكتائب Phalanges و (علامة .) الخيالة. إلى جانب خيالة ثقيلة وإلى الجانب الآخر خيالة خفيفة أي الخيالة التي تحمل سلاحاً ثقيلاً والخيالة التي تحمل سلاحاً خفبفاً.

وفي (2) الجيوش السورية. (علامة ـ) أيضاً قطع من المشاة. و (علامة .) الخيالة. الخيالة الخفيفة تجاه الخيالة الخفبفة والخيالة الثقيلة تجاه الخيالة الثقيلة.

من نظرة على هذا المشهد ترى أنّ هنالك اختلافاً كبيراً في ترتيب الجيشين. الجيش الروماني (1) والجيش السوري (2).

الجيش الروماني فيالق وكتائب متراصة متجهة إلى الأمام.

في الجيش السوري ترتيب آخر هو الترتيب الذي حدث على هذه الصورة لأول مرة في التاريخ فقلب كل النظريات رأساً على عقب.

ترى القطع تحوي صفين أو ثلاثة صفوف وقائمتين إلى اليمين وإلى اليسار.

الكمية العددية حسب كتاب فون شليفن للجيشين أنّ الجيش الروماني كان يبلغ تسعة وسبعين ألفاً، والجيش السوري خمسين ألفاً من المحاربين. أي أقل بنحو ثلاثين ألفاً من جيش العدو. والموقع في إيطالية، البلاد الغريبة التي دخلها هاني بعل أول مرة بعد أن اجتاز أهوالاً في قطع جبال (البيرينيه) والألب بين إسبانية وفرنسة وإيطالية.

ابتدأ الهجوم. سارت الفيالق الرومانية إلى الأمام، وسارت الجيوش السورية لمواجهتها.

تقدمت صفوف الوسط. ومن الطبيعي أنّ صفين أو ثلاثة صفوف لا يمكن أن تقف أمام ضغط الصفوف المتراصة.

وطبيعي أن تنحني الصفوف السورية وتبدأ تتراجع. أمّا القائمتان فكانتا تتحركان إلى الأمام على جانبي جيش العدو.

في الوقت عينه اشتبكت الخيالة. وكان هنالك قيادة ماهرة في الخيالة، وأحد الماهرين اسمه ماهر بعل قائد تحت أمرة هاني بعل.

في حملة من الخيالة الثقيلة تمكنت الخيالة السورية من إهلاك الخيالة التي كانت أمامها. فارتدّت الخيالة الرومانية عبر النهر الذي كان الرومان قد قطعوه قبل المعركة، فتبعتها الخيالة السورية عبر النهر فتشتّتت ولم يبق منها شيء. ودارت الخيالة السورية الثقيلة على الخيالة الرومانية الخفيفة حتى انتهت من إهلاكها.

وعادت الخيالة السورية فأطبقت على جيش العدو من الوراء بينما القائمتان على جانبي الجيش الروماني. فحصر الجيش الروماني في نطاق حديدي ولم ينجُ من الرومان في ذلك اليوم إلا ستة آلاف تمكنوا من الإفلات لأن سواعد الجنود تعبت من التقتيل في آخر النهار.

أريد أن أرسم الآن جهة أخرى.

النتيجة التي تحصل مما تقدم من الوجهة الاستراتيجية هي حركة الالتفاف على العدو. أخذ الجانب حول العدو ومحاولة تطويقه. هذه النظرية أجريت لأول مرة في (كني) والقائد الذي ابتدع هذه الخطة وهذا التخطيط كان سورياً ـ هاني بعل.

ومنذ ذلك التاريخ أصبحت هذه النظرية الاستراتيجية فاعلة إلى أن جاء نابوليون. نابوليون استعملها في مواقع وعدل عن استعمالها في مواقع أخرى وابتدع قاعدة تقول إنه لا يجوز للجيش الأقل أن يطوّق الأكثر لأن الضغط من الداخل يمكن أن يفتح ثغرة في الجيش القليل المطوق.

في تحليل فون شليفن يثبت أنّ نظرية هاني بعل مع أنها الأقدم هي الأصوب فقد استعملت هذه النظرية بجيش أقل على جيش أكثر بثلاثين ألفاً، وبفضل هذه النظرية تمكن من التغلب وسحق العدو سحقاً تامّاً.

في الحرب الأخيرة كيف كانت تجري حركات التطويق؟ المصفحات والدبابات تمثّل الخيالة. تسير على الجوانب، تفتح طرقاً، تدور حول العدو في حركة كلها ترمي إلى التطويق مثل الكلاليب فإما أن تأسر أو تسحق القوة التي تطبق عليها، وهو تطبيق لما أجرى في (كني).

نوع آخر في التطويق. السبق إلى احتلال الجوانب، الأراضي، التي يمكن منها أن يحارب العدو من جوانبه في جيوشه وحتى على بلاده بجملتها.

في الحرب الأخيرة حصل نزاع بين ألمانية وبريطانية على منطقة كانت هامّة جداً للفريقين من الوجهة الاستراتيجية، النروج. إما أن تحتل بريطانية تلك البلاد لتصل إلى جانب ألمانية أو أن تحتل ألمانية النروج لتتمكن من الضغط على بريطانية.

هذا الاتجاه هو تكرار لما حصل تماماً بين قرطاضة ورومة، حدثت هكذا:

كان مركز قرطاضة قرب الموقع الذي فيه تونس. ففي الحرب الفينيقية الأولى، جرى نزاع في جزيرة سردينية فاندحرت الجيوش السورية، واضطرت إلى توقيع معاهدة لم تكن في مصلحة قرطاضة.

من المستحسن أن نذكر حوادث صغيرة تدل على النفسية.

في المعارك الأولى بين الجيش الفينيقي والروماني كان الرومان هم الرابحين في أكثر المعارك فاختار مجلس شيوخ قرطاضة إرسال والد هاني بعل للقيادة فوجد أنّ الجيش كان في حالة من الميعان والفوضى، فاستعمل ما يعيد معنويات الجيش واستعمل الحكمة في إعادة روح النظام إليه.

في معركة كبيرة انكسر جيشه أمام الجيش الروماني واضطر إلى الانسحاب دون أن يتمكن من سحب القتلى.

أرسل القائد السوري في اليوم الثاني يستأذن القائد الروماني بسحب القتلى فأجابه القائد الروماني “قل لهميلكار الأفضل له أن يهتم بالأحياء لا بالأموات”. ولم يأذن بسحب القتلى.

بعد مدة قليلة جرت معركة أخرى انتصر فيها هميلكار وانسحب الرومان من غير أن يتمكنوا من سحب قتلاهم. فطلب قائدهم الإذن في لمّ القتلى. فأجابهم هميلكار “إني آذن بذلك، يمكن أن تأتوا وتسحبوا القتلى لأننا نحارب الأحياء لا الأموات”.

بعد هذه الحرب الأولى التي خسرت فيها نهائياً قرطاضة صار هناك تزاحم لأن الحرب كانت ستعود إلى أن تغلب إحدى القوتين الأخرى غلبة نهائية.

حاول الاثنان، نظر الجانب القريب، الإمكانية الجانبية. إسبانية وجنوب فرنسة.

هميلكار، بعد أن خُسرت الحرب الفينيقية الأولى اهتم بتحسين مركز قرطاضة، ثم بحث عن المواقع الاستراتيجية وأدرك أنه يجب الإتيان من الجانب.

إهتم من جهة بقرطاضة لتكون أقوى. وأدرك أنه يجب امتلاك إسبانية ليصير عن جانب رومة ليتمكن أن يناور في البر والبحر أكثر تجاه رومة.

وفي الحال توجه جيش واحتل إسبانية. وبنيت قرطاضة الحديثة (قرطاجنة) ومدن كثيرة أخرى. ومن هنا أمكن هاني بعل أن يدرب جيشاً يسير به، يقطع جبال (بيرينيه والألب): ويهبط إلى بلاد إيطالية. ولولا الخلاف بين قيادة الجيش ومجلس شيوخ قرطاضة ـ حتى إنّ المجلس لم يحاول أن يمد هاني بعل بجيش واحد وحتى حدث في الأخير أنّ الرومان أرسلوا جيشاً إلى أفريقية فترك هاني بعل إيطالية عائداً ليقوم بمعركة ـ زاما ـ التي انكسر فيها وخسرت قرطاضة تلك الحرب الفاصلة.

إذا رجعنا إلى تاريخنا وجدنا أنّ عوامل التفوق عندنا كانت عظيمة جداً. كنا أسرع من غيرنا في أوقات عصيبة وحرجة. ولكن داخلياً لم نكن كغيرنا. المنازعات الداخلية، الفوضى الداخلية، ضعف النظام الداخلي هو الذي قتل التفوق السوري.

لا سبب عندنا لنخاف العراك من أجل تثبيت حقنا في الحياة. نحن لا نبحث اليوم في إنشاء إمبراطوريات. لكننا نبحث في حق صحيح، في حق الحياة في الوطن الذي هو ملك الأمة. وكما قلت سابقاً إنّ اعتمادنا على مجرّد إيضاح الحق ليس كافياً ولم يكن كافياً. قد يذهب وطننا من أيدينا قطعة بعد قطعة ونحن لا نفعل غير كتابات وخطب وفوضى عظيمة في الداخل. جاسوسية خبيثة تعبث بعقول الناس. خيانات بيع الوطن. تجزؤ وتفسخ اجتماعي وسياسي. وتحدث الحرب بهذه الحالة.

لا يمكن مطلقاً أن نحافظ على حقوقنا بخطب ومذكرات. وقد عرفتم ما هو رأيي في الرسالة التي وجّهتها في نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة الماضية حيث قلت عن (جامعة الأمم المتحدة):

“إنّ هذه المنظمة لم تنشأ كنتيجة عامة لإنسانية عامة. نشأت من أمم منتصرة لتقرّ الحق الذي تقرره الأمم المنتصرة”.

هذه هي الحالة. إذا كنا نحن لا ننهض ولا نعتمد على أنفسنا ولا نستعد لإثبات حقنا ولتنفيذ إرادتنا في ما يخص حقنا، كان باطلاً كل مجهود وثمنٍ في أن نصل أن نكون أمة يمكن أن تحصل على الخير الذي تستحقه.

نحن حركة هجومية لا حركة دفاعية. نهاجم بالفكر والروح، ونهاجم بالأعمال والأفعال أيضاً. نحن نهاجم الأوضاع الفاسدة القائمة التي تمنع أمتنا من النمو ومن استعمال نشاطها وقوّتها. نهاجم المفاسد الاجتماعية والروحية والسياسية.

نهاجم الحزبيات الدينية،

نهاجم الإقطاع المتحكم في الفلاحين.

نهاجم الرأسمالية الفردية الطاغية،

نهاجم العقليات المتحجرة المتجمدة،

نهاجم النظرة الفردية. ونستعد لمهاجمة الأعداء الذين يأتون ليجتاحوا بلادنا بغية القضاء علينا، لنقضي عليهم.

هذه هي وجهة سيرنا. هذا موقفنا في المشاكل السياسية الكبرى المحيطة بنا.

إذا كان لا بد من هلاكنا يجب أن نهلك كما يليق بالأحرار لا كما يليق بالعبيد.

نحن لا نعني بحركتنا لعباً ولا تسلية،

نحن نعني بناءً جديداً، نعني إعادة النفسية السورية الصحيحة إلى الأمة، إعادة الثقة والإيمان بالنفس إلى هذه الأمة التي فقدتها.

نحن نعني أننا لا نرضى إلا حياة الأحرار ولا نرضى إلا أخلاق الأحرار.

قد تكون الحرية حملاً ثقيلاً، ولكنه حمل لا يضطلع به إلا ذوو النفوس الكبيرة. أما النفوس العاجزة فتنوء وترزح وتسقط، تسقط غير مأسوف عليها.

تسقط محتقرة مهانة،

تسقط مستسلمة في ذلها.

تسقط وقد قضت على نفسها قبل أن يقضي عليها غيرها.

نحن بنظرنا سلبيون في الحياة. أي إننا لا نقبل بكل أمر مفعول يفرض، وبكل حالة تقرر لنا من الخارج.

لسنا ضعفاء إلا إذا أردنا أن نكون ضعفاء،

إذا سلّمنا بالأمور المفعولة أو للأحداث التي تفرض علينا، قبلنا بالانحطاط الأخلاقي والمعنوي والمادي الذي لا مناص منه ما دمنا مستسلمين.

الذي يسقط في العراك غير مستسلم قد يكون غلب لكنه لم يقهر.

يقهر قهراً الذي يستسلم ويخنع.

ويل للمستسلمين الذين يرفضون الصراع فيرفضون الحرية وينالون العبودية التي يستحقون.

في 21 مارس/ آذار 1948

دوّنها الأمين جورج عبد المسيح

نقلاً عن كتاب المحاضرات العشر، دمشق، 1952، ص 131 ـ 142

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى