محاضرة الزعيم الخامسة في الندوة الثقافية

أيها الرفقاء والأصدقاء،

في حديثنا في الاجتماع الأخير قرأت لكم المبدأ الأساسي الرابع من مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي وشرحه، وعلّقت على الشرح درساً يوضح بعض النقاط إيضاحاً ضرورياً لفهم قيمة هذا المبدأ وقيمة شرحه وما يعنيه المبدأ والشرح لحركتنا القومية الاجتماعية.

وقد قلت، تعليقاً على المبدأ والشرح المذكورين، إنه مع أننا لا نقول بأصل سلالي واحد للأمة أو بسلالة واحدة يتكوّن منها المجموع القومي، لا بدّ لنا من اقرار بحقيقة جوهرية هي حقيقة المزيج السلالي المعين الذي هو عامل اساسي، جوهري في إعطاء الأمة صفتها، حقيقة طبيعتها وأسباب مواهبها التي تظهر في أفعالها في مجرى التاريخ، أي أنه إذا لم يكن السوريون يعودون إلى اصل سلالي واحد، فإن لهم خصائص سلالية واحدة، حاصلة من مزيجهم، تجعل لهم مزايا تتميز عن مزايا مزيجات سلالية أخرى ـ مزايا شعوب أخرى في العالم.

يساعدنا إدراك هذه الحقيقة على فهم روح الأمة ـ فهم نفسيتها ومواهبها. وكما قلت في الاجتماع الماضي إنه لا يمكننا أن نفهم، فهماً صحيحاً، نفسيات الأفراد ونفسيات الجماعات البشرية إلا بفهم فسيولوجيا وحقيقة تركيبها الوراثي أيضاً. إنّ هنالك علاقة وثيقة جداً بين نفسية الفرد الإنساني، بسيكولوجيته، وتركيبه العضوي، فسيولوجيته. وقد ضربت مثلاً، حينذاك، الشعوب المتأخرة كشعوب هنود أميركة التي لم تتمكن من إنشاء ثقافة مادية ولا ثقافة روحية أو نفسية. ومما لا شك فيه أنّ من أسباب العجز عن إحداث ثقافة مادية أو روحية راقية شيئاً من طبيعة الشعب، من طبيعة تكوينه الذي يعطيه مقدرته وإمكانياته النفسية. ومن باب التكملة لما قلت في الحديث السابق أضيف: إنّ هناك علاقة وثيقة بين الشكل والروح، بين فراسة الإنسان التشريحية، الخارجية ونفسيته ومقدرته العقلية. فمن مجرّد النظر إلى وجه إنسان أو رأسه ندرك حالاً وسريعاً ولأول وهلة ما ينم عنه شكله من مقدرة وقوة نفسيتين، من ذكاء وتوقّد ونشاط روحي ونباهة عقلية، أو من تحجّر عقلي وترهّل في القوى المدركة ـ من نقص لا يجيز مقدرة عقلية عالية أو مؤهلات ثقافية، ذاتية راقية.

إذا درسنا الشعب السوري كله، هذا المزيج السلالي السوري الذي أثبت خصائصه العالية وطابعه التفوقي في التاريخ ـ إذا درسنا هذا الشعب من الوجهة التشريحية، من الوجهة الأنتربلوجية الطبيعية، وجدنا توافقاً عظيماً بين إنتاجية الثقافي العمراني، وافعاله التاريخية العظيمة من جهة، واشكاله الأنتربلوجية الممتازة. وهو توافق لا يمكن أن يكون من سبيل الصدف أو بلا مغزى. فالشعب السوري راقٍ جداً بمزيجه السلالي المتجانس الذي مكنه من إنشاء الثقافة المادية والروحية وتقديم إنتاج ثقافي هام للتقدم الإنساني العام. ولا يمكننا أن نتصور هذه المقدرة الإنشائية عارضاً لا علاقة له بالتركيب والشكل الطبيعي الفيزيائي وبطبيعة الحيوية الوراثية فيه القادرة على الخلق والاكتساب لدماغ قوي نام في إمكانيات خصائصه: فالجبهة عالية متقدمة تسمح لمركز الفكر والإدراك في الدماغ بالحرية ونمو المقدرة، وعلو قمة الرأس وبروز االقحف يسمحان للحواس ولمركز الشعور ببلوغ كل قوّتها الطبيعية.

يصعب علينا كثيراً أن نتصور مقدرة عقلية عالية في جمجمة مشوهة وحيوية دماغية ضعيفة: أو في رأس ليست له هذه الزاوية الأمامية التي تمثل علواً وبروزاً في مقدمة الرأس، وجبهته مضغوطة ومتراجعة كثيراً إلى الوراء. لذلك فإننا ندرك جيداً أننا إذ نقول بالمزيج السلالي، وبانه لا يوجد أصل سلالي واحد للأمة، لا نعني مطلقاً إهمال أهمية الجنس وخصائص المزيج المتجانس، وإهمال الحقائق العلمية الثابتة التي تعطينا أساساً جديداً للنظر في أصول الأمم وأحوال الجماعات البشرية على وجه العموم.

انتقل بكم الآن إلى المبدأ الساسي الخامس من مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي. يقول هذا المبدأ:

الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية. وهي ذات حدود جغرافية تميزها عن سواها تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري في الشمال الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب، شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب، شاملة جزيرة قبرص، إلى قوس الصحراء العربية وخليج العجم في الشرق. (وتوصف بالهلال السوري الخصيب ونجمته جزيرة قبرص).

لنلق نظرة على هذه الخريطة ولنتعرف إلى حدود وطنمنا الطبيعية. (وقام الزعيم غلى الخريطة الكبيرة المعلقة على الجدار وراءه) هذه جبال طوروس في الشمال الغربي أمام أضنة ومرسين وراء منعطف خليج الإسكندرونة الذي يحتضن جزيرة قبرص. وهذه الجبال تمتد نحو الشرق سلسلة محدودية تبتدىء فيها أصول النهرين السوريين الكبيرين، الفرات ودجلة، إلى جبال البختياري أو زغروس، كما تدعى هذه الجبال الفاصلة بين سورية وإيران، وتنعطف حول الأهواز السورية التي يليها خليج العجم الذي تنتهي عليه حدود سورية الشرقية. ومن هذه النظرة على حدودنا الشمالية الممتدة من الشرق إلى الغرب نرى أنّ هذه الجبال تكوّن قوساً طبيعية تحيط من الشمال بهذه الأرض الغنية بالكنوز، الخصبة التربة، الغزيرة الأنهر المنبسطة بين الجبال المذكورة والعُربة (الصحراء) والبحر الأحمر وخليج العجم والبحر السوري. أما جزيرة قبرص فترون موقعها في حضن خليج الإسكندرونة وذراعها ممتد نحو الخليج السوري، فكأنها تقول من هذه الأرض أنا وإليها أنتمي. إنّ هذه الجزيرة تكاد تكون ملتصقة بالشاطىء السوري، فهي، كما قلت في شرح المبادىء، قطعة من الأرض السورية في الماء. إنّ تكوينها الجيولوجي من تكوين هذه الأرض وموقعها الجغرافي يجعلها تابعة لها ومركزها الاستراتيجي يكسبها أهمية عظيمة لسلامة الوطن السوري. وهي كانت في القديم في قبضة السوريين فنزلها الكنعانيون (الفينيقيون) وتوطنوها وبقاياهم لا تزال فيها.

والآن لنسمع ما يقوله شرح المبدأ في كتاب التعاليم القومية الاجتماعية.

“هذه هي حدود هذه البيئة الطبيعية، التي حضنت العناصر الجنوبية والشمالية المتجانسة التي نزلت واستقرت فيها واتخذتها موطناً لها تدور فيه حياتها، ومكنتها من التصادم ثم من الامتزاج والاتحاد وتكوين هذه الشخصية الواضحة، القوية، التي هي الشخصية السورية، وحبتها بمقومات البقاء في تنازع الحياة”.

إذن هذه الحدود هي حدودنا، حدود وطننا، ويندر أن تكون لبلاد حدود أوضح أو في مثل وضوح هذه الحدود: طوروس ـ البختياري (زغروس) ـ خليج العجم ـ قوس الصحراء العربية ـ البحر الأحمر ـ قناة السويس ـ البحر السوري، وفيه جزيرة قبرص. وضمن هذه الحدود دارت حياة العناصر التي نزلت هذه البقعة عند فجر التاريخ واستمرت تدور أثناء الأجيال وامتزجت في استمرارها وصارت شعباً واحداً. إنّ هذه الحدود الواضحة، الفاصلة هي التي جعلت الامتزاج وتكوين الشعب السوري العظيم أمراً ممكناً، حاصلاً في الواقع. فهي قد دفعت الأصول السورية إلى التمازج وإنشاء نسيج شعبي واحد، بقدر ما منعت التمازج الشعبي ما وراءها. وهكذا أمكن الشعب السوري أن ينمو وينشىء ثقافته وتمدنه اللذين وجّها الثقافة والتمدن في العالم كله. إنّ الغرب والتمدن الغربي والثقافة الغربية تبتدىء هنا في سورية.

بعد أن رأينا الحدود الطبيعية التي تكوّن وطناً لشعب ـ لأمة ودولة ـ في حدود الوطن السوري التي هي من أشد الحدود وضوحاً وقوة في العالم، قد يخطر للبعض أن يسالوا سؤالاً سياسياً هو: هل تحدّد الحدود الطبيعية الأمم فتلزم كل أمة حدود وطنها؟

إني عرضت لهذه الناحية في مؤلفي نشوء الأمم ـ الكتاب الأول. وقد قلت هناك (أنظر ج 3 ص 138): “الأمة تجد أساسها، قبل كل شيء آخر، في وحدة أرضية معينة تتفاعل معها جماعة من الناس وتشتبك وتتحد ضمنها. ومتى تكوّنت الأمة وأصبحت تشعر بشخصيتها المكتسبة من إقليمها ومواد غذائها وعمرانها، ومن حياتها الاجتماعية الخاصة، وحصلت من جميع ذلك على مناعة القومية أصبحت قادرة على تكميل حدودها الطبيعية أو تعديلها، على نسبة حيويتها وسعة مواردها وممكناتها”. فتعديل الحدود سياسياً أمر متعلق بمقدرة الأمة وحيويتها. فإذا كانت الأمة مقتدرة، زاخرة بالحيوية، وكانت حيويتها واقتدارها أقوى من الموانع تمكنت من أن تتجاوز حدود بيئتها الطبيعية الأصلية. وبالعكس إذا كانت حيوية الأمة ناضبة وقوّتها في تقلص، فالأمة، في هذه الحالة، تتراجع عن حدود وطنها الطبيعية أمام ضغط الأمم المجاورة التي تطغى على حدودها. وقد عرفت بلادنا المد والجزر كليهما في حدودها السياسية. ففي الشمال إتّسعت قوس الجبال بقوة الدولة السورية الآشورية ولم تكتفِ هذه الدولة بتوسيع حدود بيئتها الطبيعية، بل رمت إلى التسلط على بلاد أجنبية فافتتحت مصر، كما سبق للدولة السورية الكنعانية افتتاحها، وأدخلتها تحت سيادتها: والدولة السورية الصلوكية (السلوقية) بسطت سلطانها على كل الأناضول وراء طوروس وبلغت فتوحاتها شرقاً إلى الهند. فلما تعاقبت الفتوحات على سورية، وكان بعض هذه الفتوحات بربرياً، وأدّى تعاقبها إلى زوال السيادة السورية وإلى إدارة البلاد إدارة أجنبية لمصلحة أجنبية، تناقصت حيوية الأمة وقلّ عددها وانحطت ثقافتها وتمدنها، وأخذ الشعب السوري يتقلّص وعمرانه يذوي، وأخذت حدود سورية السياسية تتقلص من جراء ذلك، عن حدودها الطبيعية. وكانت البلاد السورية تتجزأ تبعاً لمقتضيات الفتوات ولسياسة المتغلبين.

عندما تحررت سورية بعد الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) من التسلط التركي وقعت تحت الاحتلال المقرر في المعاهدة البريطانية ـ الفرنسية المعروفة بمعاهدة سايكس ـ بيكو. فقسمت البلاد إلى قسمين بخط يمتد من الشرق الشمالي قرب المكان المعروف اليوم بجزيرة ابن عمر إلى الجنوب الغربي في الناقورة. فما كان جنوبي هذا الخط وشرقيه كان حصة بريطانية وما كان شمالي هذا الخط وغربيه كان حصة فرنسة. ولما كانت سورية رازحة تحت قرون التسلط التركي، لم تكن فيها نهضة قومية تقاوم خطط الاستعمار الأجنبي. فاغتنم الأتراك ضعف فرنسة الخارجة من الحرب منهوكة وضعف سورية الذي كان نتيجة تسلطهم، واستولوا على كيليكية التي هي الجزء الشمالي الأعلى من سورية. ثم استولوا على منطقة الإسكندرونة الهامّة ومدينة أنطاكية التاريخية التي كانت العاصمة السورية في عهد الإمبراطورية السورية، حقبة البيت السلوقي. ولا تزال حلب ومنطقة “الجزيرة” العليا مهددة بتوسع تركي جديد، ما دامت الأمة السرية تتخبط في حزبياتها الدينية ومنازعاتها العائلية التي تهدد معظم حيويتها وفاعليتها.

لا يوجد حدود طبيعية في العالم تقدر أن تمنع أمة قوية من الامتداد وتوسيع مدى حيويتها وحياتها. وإننا نرى، مع تقدم وسائل النقل وإتقان الصناعات، أنّ الحدود الطبيعية، إذ لم تؤيدها قوة إنسانية فنية، لم تقدر على صد جماعات لها فاعلية وقدرة على تخطي الحدود.

لنعد إلى متابعة نص الشرح الأصلي:

“وكما تنبه الكلدان والآشوريون إلى وحدة هذه البلاد، من الداخل، وسعوا لتوحيدها سياسياً، لعنايتهم بالدولة البرية، كذلك عرفت هذه الحقيقة كل شعوب هذه البيئة الأخرى واهتمت بالمحالفات وانشاء نوع من اللامركزية في بعض الأزمنة، اتقاءً للمنازعات الداخلية واستعداداً لمواجهة الأخطار الخارجية. وقد تنبه العرب، في دقة ملاحظتهم السطحية إلى وحدتها الجغرافية الطبيعية، وسمى هذه الوحدة أحد العلماء، ولعله بريستد “الهلال الخصيب”.

“إنّ سر بقاء سورية وحدة خاصة وأمة ممتازة، مع كل ما مرّ عليها من غزوات من الجنوب والشمال والشرق والغرب، هو في هذه الوحدة الجغرافية البديعة وهذه البيئة الطبيعية المتنوعة الإمكانيات من سهول وجبال وأودية وبحر وساحل، هذا الوطن الممتاز لهذه الأمة الممتازة”.

نرى أنّ التعليم يتناول عند هذا الحد أمرين: الأول تنبّه الشعوب أو الجماعات السورية الأولى والدول التي نشأت في سورية إلى وحدة الأرض السورية وحدة الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية فيها، وسعى جميع هذه الدول إلى تحقيق وحدة الدولة في هذه البلاد. وقد رأينا في نص شرح المبدأ الرابع، الذي كان مدار حديثي إليكم في الاجتماع الماضي، أنّ الحروب التي كانت تنشب بين الآشوريين والكلدانيين والآراميين والحثيين كانت حروباً داخلية أو منازعات على الحكم بين عائلات تنزع إلى المُلك وتستند إلى عصبية خاصة في نهوضها إلى السيطرة، خصوصاً حروب الكلدان والآشوريين والآراميين والكنعانيين المتحدين في الثقافة والممتزجين أصلاً في الدم. ودخول الحثيين والمتني الآريي اللغة لم يغيّر حالة البلاد ولا وضعها السياسي، إذ إنّ الحثيين والمتني تفاعلوا مع الجماعات السامية اللغات حربياً وسياسياً، تفاعلاً سورياً داخلياً لم يسبب اختلاطات خارجية قط. وقد اشترك الحثيون في المحالفات واللامركزية.

الأمر الثاني العظيم الأهمية الذي يظهره نص التعاليم هو أهمية البيئة في طبيعتها ومواردها وإمكانياتها التي لها شأن أولي خطير في تغذية حيوية الأمة ونشاطها. فإن الأنهر التي تتفجر من قوس الجبال الشمالية، خصوصاً النهرين العظيمين دجلة والفرات في المنحنى الكبير ما بين البختياري وطوروس، ومن جبال لبنان، تجعل الأودية والسهول القائمة فيما بين هذه الجبال والبحار والعُربة أرضاً خصبة تفيض لبناً وعسلاً. ولست أشير الآن لا إلى نهرين آخرين في الشمال هما جيحون (أو جيحان) وسيحون (أو سيحان) يرويان الأراضي الخصبة ما بين أفسس ومرعش وأضنه وطرسوس ومرسين. وهذه الأخيرة لا يزال بحّارتها إلى اليوم سوريين. وأهمية الأنهر المنحدرة من جبال لبنان هي للعاصي الذي يروي سهول الغرب الشمالية ماراً بحمص وحماه إلى أنطاكية، وللأردن الذي يسقي الجنوب في اتجاهه نحو العقبة على البحر الأحمر.

قلت في الكتاب الأول من مؤلفي نشوء الأمم في المكان عينه الذي ذكرته آنفاً: “وبقدر ما هي الحدود جوهرية لصيانة المجتمع من تمدد المجتمعات الأخرى القريبة منه كذلك هي، إلى درجة أعلى، طبيعة البيئة ومواردها. فالأمة تكون قوية أو ضعيفة، متقدمة أو متأخرة، على نسبة ممكنات بيئتها الاقتصادية ومقدرتها على الانتفاع بهذه الممكنات والإمكانيات”. فالوحدة الجغرافية البديعة وهذه البيئة الطبيعية المتنوعة الإمكانيات التي يذكرها نص التعاليم والتي زدتها الآن شرحاً وتفصيلاً، وترونها على الخريطة أمامكم بكل قوّتها وسحرها، هي الوطن الممتاز بإمكانياته وموارده وإقليمه الذي مكن الأمة السورية الممتازة بتركيبها السلالي وزخم حياة زاخرة بالقوة من تحقيق منشآتها الثقافية والعمرانية البديعة التي أطلقت تيار ثقافتها وتمدنها من هذه الأرض القدسية، فأضاء ارجاء العالم ودفع المجاميع الإنسانية المؤهلة للثقافة والتمدن في مجراه السحري. لنعد إلى النص:

“وهي هذه الوحدة الجغرافية، التي جعلت سورية وحدة سياسية، حتى في الأزمنة الغابرة حين كانت هذه البلاد مقسمة إلى كنعانيين وآراميين وحثيين وأموريين وآشوريين وكلدانيين. وقد ظهرت هذه الوحدة السياسية في عقد المحالفات أثناء أخطار الحملات المصرية وغيرها وفي الحملات السورية على مصر من ايام “الهكسوس” كما ظهرت مكتملة نهائياً، فيما بعد، من تكوين الدولة السورية في العهد السلوقي، التي صارت إمبراطورية قوية بسطت سلطتها على آسية الصغرى وامتدت فتوحاتها إلى الهند”.

لا بد لي هنا، قبل إكمال قراءة نص التعاليم، من إبراز أهمية المحالفات بين الدول السورية ضد الدول القائمة خارج حدود سورية. فهذه المحالفات كانت تعبيراً عن شعور الدول السورية باشتراكها في التركيب الدموي وفي الأرض وفي ترابطها في وحدة مصير الشعب والوطن. وإذا كانت بعض هذه المحالفات حدثت ضد بعض الدول السورية الطامحة إلى توحيد سورية كلها تحت سلطانها ورايتها، فلم يكن لهذه المحالفات الشمول القومي الوطني، بل كانت نوعاً من تحالف الأمراء ضد الملكية المطلقة الشاملة.

النص: “إنّ فقد الأمة السورية سيادتها على نفسها ووطنها، بعامل الفتوحات الخارجية الكبرى، وإخضاع البلاد السورية لسيادات خارجية عرّض البلاد إلى تجزئة وإطلاق تسميات سياسية متجزئة عليها. ففي العهد البيزنطي ـ الفارسي بسطت الدولة البيزنطية سيادتها على سورية الغربية كلها، واقتصر اسم سورية على هذا القسم وبسطت الدولة الفارسية سيادتها على سورية الشرقية (ما بين النهرين) وأطلقت عليها اسم “إيراه” الذي عرّبه العرب فصار “العراق”. وبعد الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) بسطت السيادة الأجنبية المثناة (بريطانية وفرنسة) على سورية الطبيعية وجزئت حسب المصالح والأغراض السياسية وحصلت التسميات: فلسطين، شرق الأردن، لبنان، سورية (الشام)، كيليكية، العراق. فتقلص اسم سورية إلى منطقة الشام المحدودة. وكانت قد أخرجت جزيرة قبرص من حدود سورية مع أنها قطعة من أرضها في الماء.

“إنّ سورية الطبيعية تشمل جميع هذه المناطق التي تكوّن وحدة جغرافية ـ زراعية ـ اقتصادية ـ استراتيجية، لا يمكن قيام قضيتها القومية الاجتماعية بدون اكتمالها”.

إنّ لنا في هذه البيئة الطبيعية وحدة زراعية ـ اقتصادية متشابكة بالأنهر التي ذكرتها لا يخطئها نظر عارف بشؤون الجغرافية والطبغرافية. فرابط الزراعة في وحدة الأرض وريّها بالأنهر السورية، دجلة، الفرات، جيحون، سيحون، بردى، العاصي، الليطاني، الأردن، وما بينها من جداول وبحيرات وبرك هو أمر واقع، طبيعي وتاريخي. ووحدة الأرض الزراعية هي أساس وحدة الحضارة السورية، ووحدة الإنتاج السوري بأنواعه هي اساس الاقتصاد القومي في سورية. وإيجاد نظام جديد لهذا الإنتاج وأغراضه هو الإنشاء الأساسي لقيام النهضة السورية القومية الاجتماعية، وللارتقاء بالأمة السورية إلى أوج حياة العز والخير. ولا بد من الإشارة إلى هذه البقعة الكبيرة (مشيراً على الخريطة إلى الصحراء السورية) التي تفتح ثغرة كبيرة خالية من الزراعة في اسفل متوسط الأرض السورية، ما بين الفرات وبردى والأردن، فهذه سيأتي تفصيل حقيقتها وشأنها في ما يلي. ولكني أتناول الآن قضية الوحدة الاستراتيجية.

إنّ الأرض السورية بيئة طبيعية واحدة تقوم عليها وحدة شعبية وأنحاؤها تكمل بعضها بعضاً، وصيانة أية جهة من جهاتاها ضرورية لصيانة الجهات الأخرى، فالسوريون المقيمون في الجنوب تهمّهم الحدود الشمالية كما تهمّ السوريين المقيمين في الشمال الحدود الجنوبية. وهنالك مراكز في الحدود إذا خرجت من قبضة الجيش السوري عرّضت البلاد كلها لأشد أخطار الفتوحات والاستعمار والذل. فالمكان المعروف بـ “البوّابات الكيليكية” أي بالمداخل التي لا بد لأي جيش قادم من جهة آسية الصغرى من محاولة العبور منها، هو مكان ضروري جداً وجوده تحت السيادة السورية دائماً، حفظاً لسلامة البلاد السورية كلها وليس فقط لسلامة منطقة أضنه ـ مرعش ومنطقة الإسكندرونة ـ حلب، بل لسلامة البلاد كلها. وكذلك جبال البختياري أو زغروس فوجودها في ايدي الدولة الكلدانية والدولة الآشورية حفظ سلامة الدولة ومكّن الدول السورية الشرقية المتعاقبة من غلبة العيلاميين وغيرهم. وقد رأينا في التاريخ أنه عندما عبر جيش الفرس الجبال السورية الشرقية سقطت سورية كلها في قبضتهم. وكذلك لما عبر الجيش المكدوني “البوابات الكليليكية” لم يعد يتمكن جيش من الصمود في وجهه. وقد صمدت صور فقط في وجهه تسعة اشهر لأنها كانت جزيرة. تبقت إمكانية القتال متوافرة في جبال لبنان فقط، إذا كانت الشواطىء السورية مخفورة من البحر. جميع الجيوس اليونانية والرومانية كانت تجد سهولة في إخضاع سورية بعد اجتيازها طوروس. ومن الجنوب كانت النقطة الاستراتيجية في برزخ السويس واليوم في قناة السويس وخليج العقبة وصحراء سورية الجنوبية سيناء. فالجيوش المصرية التي كانت تعبر هذا الخط الاستراتيجي كانت تستسهل، بعد ذلك، التوغل في سورية الغربية إلى الفرات. والجيوش السورية التي كانت تعبر هذا الخط الجنوبي إلى أفريقية كانت تخضع مصر والتي كانت تعبر طوروس كانت تخضع آسية الصغرى، والتي كانت تعبر زغروس كانت تسير إلى الهند. ولكي لا تكون الشواطىء السورية منكشفة لعدو مقبل من البحر، من الضروري الاحتفاظ بجزيرة قبرص، لأنها حصن سورية من جهة البحر.

أي اجتياح حربي للخطوط الاستراتيجية الجنوبية أو الشمالية جعل سورية الطبيعية كلها تحت خطر السقوط في قبضة الجيش المحتاج، لأنه لا تعود توجد فواصل داخلية بين أجزاء البلاد إلا في المنطقة اللبنانية التي يمكن تجنبها إذا كانت المقاومة فيها شديدة. فعند أي خطر على أية نقطة استراتيجية في الشمال أو في الجنوب أو الشرق يجب أن تواجه الأمة السورية كلها الخطر، لأنه خطر عليها كلها. فلا يمكن حفظ سلامة الوطن السوري إلا باعتباره وحدة حربية في وحدة استراتيجية. اي جيش يحتل أية منطقة صغيرة ضمن نطاق الوحدة الاستراتيجية يمكن اعتباره محتلاً البلاد كلها احتلالاً استراتيجياً! فيمكننا القول إنّ الجيش التركي الذي يرابط في كيليكية والإسكندرونة يمثّل احتلالاً استراتيجياً لسورية!

من النص: “أشرت في شرح المبدأ الرابع إلى تضارب التواريخ الأجنبية في تحديد سورية ومتابعة المؤلفين والكاتبين في التاريخ من السوريين التواريخ الأجنبية في تعاريفها واعتمادهم بالأكثر التحديد الذي عرف في العهد البيزنطي ـ الفارسي، الذي جعل حجود سورية الشمالية الشرقية نهر الفرات وسمّى القسم الشرقي، ما بين النهرين، “إيراه”.

“وإنّ اقتسام البيزنطيين والفرس سورية فيما بينهم وإقامة الحواجز السياسية بين سورية الشرقية وسورية الغربية عرقل كثيراً، وإلى مدة طويلة، عودة النمو القومي ودورة الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ونتج عن ذلك إبهام في حقيقة حدود سورية”.

مما لا شك فيه أنّ الإبهام في حدود وطننا وفي حقيقتنا القومية يعود بالأكثر إلى انهيار سيادتنا وانقطاع استمرار تاريخنا القومي، وإلى انعدام مصادرنا التاريخية وإلى أنّ كلاً من المؤرخين الذين كان كُتَّابُنا يعتمدونهم في فهم أمور وطننا، وندر من شذّ منهم، هم مؤرخون أجانب من المدرسة الإغريقية ـ الرومانية التي شوهت حقيقة السوريين الاجتماعية والنفسية.

التواريخ الأجنبية والمؤرخون الأجانب لم ينظروا إلى سورية من وجهة حقيقة الأمة وحقيقة الوطن، بل من وجهة النظر السياسية الأجنبية. والمصادر التاريخية الأجنبية كانت تطلق المصطلحات السياسية بلا تحقيق للوضع الطبيعي والاجتماعي. والمصدران اليوناني والروماني هما عدوّان تاريخياً للأمة السورية ولاتجاهها التاريخي. ولذلك لم يكن هذين المصدرين الأوليين للتاريخ أن ينصفا السوريين في حقيقة نفسيتهم، في حقيقة وجودهم في العالم.

إذا اعتمدنا فوليبيو في شرحه للحروب الفينيقية (أو الفونكية) مع رومة (بيونك أو فونك هو اللفظ اللاتيني المحرف للفظة فونك اليونانية)، إذا اعتمدنا هذا المصدر الرئيسي لدرس الحروب الفونكية (الفينيقية) كنا مضطرين، بحسب رواية هذا المؤرخ ـ إلى التسليم بانحطاط السوريين الكنعانيين (الفونكيين) وتفوّق الرومان عليهم. مع أنّ الحقيقة كانت عكس ما رمى فوليبيو إلى إظهاره، لأن الرومان دهشوا للآثار الفنية التي احتملها جيش سيبيو (الأفركانس) من بين أنقاض عاصمة الامبراطورية السورية الغربية، قرطاضة العظيمة!

لا شك عندي في أنّ فوليبيو، الإغريقي الذي ورث حقد اليونان على الكنعانيين، رمى إلى تشويه القيم السورية وحطّ شأن السوريين ورفع قيمة الرومان وتقليل أهمية الأفعال التي قام بها السوريون الكنعانيون في السلم والحرب. فهو قد صوّر حملة هاني بعل على إيطالية وعبوره جبال البيرينيه ثم جبال الألب الشاهقة تصويراً يحط كثيراً من قيمة تلك الحملة العسكرية العديمة المثيل، فقال إنها لم تكن شيئاً خارقاً العادة لأن بعض القبائل المتوحشة عبرت، في ارتحالها، جبال الألب. فساوى بين ارتحال قبائل همجية تضرب في الأرض على غير هدى، بلا هدف، وحملة عسكرية منظمة خططت بعناية فائقة وبجرأة عديمة المثيل في التاريخ وبعزيمة كأنها القضاء والقدر!

يساوي فوليبيو بين قبائل همجية تتوقل جبالاً لا تدري ما وراءها وحملة عسكرية منظمة أنشأها وعيّن أهدافها ومسيرها قائد يدرك أخطار الجبال العظيمة التي قرر اجتيازها بتصميم لم يسبق له مثيل ويدرك، فوق ذلك، أنه سائر بجيش نصفه أو أقل من نصفه قومي والباقي مأجور أو مسيّر، وأنه يجتاز جبالاً تنتظره وراءها جيوش رومة التي ربحت الحرب الفونكية الأولى، لأنه زاحف على رومة نفسها!

بهذه الطريقة يدوّن المؤرخون اليونان والرومان أفعال السوريين العظيمة فشوهوها وحطوا قيمتها.

إنّ ما رزحت تحته الأمة السورية إلى اليوم هو حكم تاريخ كتب بقلم العدو والغريب الجاهل. لذلك كانت مهمة هذه النهضة القومية الاجتماعية، كما قلت وكررت، تغيير وجه التاريخ!

من النص: “وزاد الطين بلّة هجوم الصحراء ودخولها في تجويف الهلال السوري الخصيب، بعامل تناقص السكان وتقلص العمران بسبب الحروب والغزوات وبعامل قطع الغابات وتجريد مناطق واسعة جداً من البلاد من حرجاتها. وإنّ عدم وجود دراسات سابقة، موثوقة في أسباب زيادة الجفاف في تجويف الهلال السوري الخصيب وتناقص العمران فيه ساعد على اعتبار التمدد الصحراوي حالة طبيعية دائمة، الأمر الذي أثبت بطلانه تحقيقي الأخير”.

يشير نص التعاليم هنا إلى البقعة الكبيرة الصحراوية الممتدة ما بين الفرات وبردى والأردن المعروفة بالصحراء السورية أو البادية السورية. فهذه الصحراء التي تبدو كأنها لسان من العُربة، من الصحراء العربية، ليست صحراء بكامل معنى الكلمة. إنها مجرّد قفر من النبات والعمران. وقد ساعد انحطاط الثقافة والتمدن السوريين من جراء فقد السيادة السورية، وتغاور البلاد بالفتوحات وقطع الغابات في المناطق المجاورة، جفاف الصحراء العربية على الامتداد إلى هذه البقعة الخالية من الأنهر، فأقفرت أرضها وتعرّت تربتها وصارت شبه صحراء بسبب عوامل غير طبيعية. ولكن هذه البقعة ليست صحراء كالصحراء العربية، فهذه صحراء رملية تتوسطها النفود وتمتد إلى الربع الخالي فهي ليست ترابية ولا تصلح للفلح والزرع. أما الصحراء السورية فهي بادية ترابية صالحة للفلح والزرع ولم تكن في غابر عهدها جرداء كما تبدو اليوم. ولكن ازدياد الجفاف في الصحراء العربية وتخريب الحضارة السورية بالفتوحات البربرية تعاونا على تجريد هذه البقعة الكبيرة من النبات. مع ذلك فهي صالحة لاستعادة الخضرة بنهوض الثقافة السورية والعمران السوري من جديد. ووسائل الري من دجلة والفرات تفتح مجال إمكانيات زراعية عظيمة لهذه البقعة. وإذا أمكن تحريج المناطق المحيطة بهذه الثغرة المقفرة تعدّل الإقليم وكثافة الرطوبة في الهواء وزادت الأمطار.

إنّ الإقفار الاصطناعي لم يقف عند حد هذه الصحراء السورية، بل امتد في جميع المناطق السورية ووصل حتى إلى ساحل البحر حيث يرتفع لبنان. فقد كانت جبال لبنان مشهورة بكثافة غاباتها، أما الآن فهذه الجبال تبدو جرداء، إلا رقعاً صغيرة من الأخضر تراها العين عن بعد في أماكن متفرقة. ولولا علوّ الجبال والأنهر المتدفقة منها لكانت الصحراء عمت البلاد ولكنّا كلنا تحوّلنا إلى عرب (أي صحراويين من العُربة: الصحراء).

إننا نؤمن أنّ نهضة شعبنا الجديدة بالحركة السورية القومية الاجتماعية ستعيد إلى هذه المناطق الجرداء خضرتها وخصبها.

من النص: “إنّ تحقيقي أثبت وحدة البلاد وأعطى التعليل الصحيح لوضعها واسباب تجزئتها الخارجة عن حقيقتها. فثبّتّ منطقة ما بين النهرين ضمن الحدود السورية وأصلحت التعبير الأول “ضفاف دجلة”، الذي كنت اعتمدته بجعله أوضح وأكمل بإعطائه مدى معنى منطقة ما بين النهرين التي تصل حدودها إلى جبال البختياري، إلى الجبال التي تعيّن الحدود الطبيعية بين سورية وإيران”.

إنّ منطقة ما بين النهرين دجلة والفرات لم تكن تاريخياً منطقة تقتصر على شقة الأرض الواقعة بين هذين النهرين، بل كانت تعني كل الأرض المجاورة النهرين، الواقعة بين الصحراء العربية وجبال البختياري أو زغروس. وقد ابتدأت الدولة الآشورية في العدوة الشرقية من أعالي دجلة وكانت عاصمتها نينوى تقوم مقابل الموصل فوق الزاب الكبير. ولا شكّ في أنّ التحديد السابق “حتى الالتقاء بدجلة” أو “إلى ضفاف دجلة” كان تحديداً غير جلي كل الجلاء، ولم يكن بدّ من ترك التحديد مطاطاً ريثما يكتمل التحقيق في متناقضات المرويات التاريخية وفي ما اعتمده الكثير من كتّاب التاريخ.

النص: “أما جزيرة قبرص فقد احتلها الفونكيون من قديم الزمان وصارت من مراكزهم الهامّة. وفيها وُلِد الفيلسوف السوري الفونكي زينون صاحب المدرسة الرواقية.

“إنّ سورية الوطن هي عنصر أساسي في القومية السورية وكل سوري قومي اجتماعي يجب أن يعرف حدود وطنه ويبقي صورة بلاده الجميلة ماثلة لعينيه ليجدر به أن يكون سورياً قومياً اجتماعياً صحيحاً.

“ولكي يقدر السوري القومي الاجتماعي أن يحفظ حقوقه وحقوق ذريته في هذا الوطن الجميل يجب عليه أن يفهم جيداً وحدة أمته ووحدة حقوقها وحجة الوطن وعدم قابلية تجزئته.

“قلت في كتابي الأول من نشوء الأمم (أنظر ج 3 ص 138) إنّ فاعلية الأمة وحيويتها تعدّل حدود بيئتها الطبيعية. فإذا كانت الأمة قوية نامية تغلبت على الحدود وامتدت وراءها فتوسعت حدودها. وإذا كانت الأمة ضعيفة، ذاوية تقلصت عن حدود بيئتها الطبيعية. وبعد انهيار الدول السورية العظمى طمت على الأمة السورية موجة ضعف وتقلص فتراجعت عن حدودها وخسرت قبرص لليونان ومن أتى بعدهم وخسرت شبه جزيرة سيناء لمصر، وخسرت كيليكية للأتراك، وجزّأتها الدول التي غزتها واحتلت وطننا أو بعض أجزائه.

“إنّ النهضة القومية الاجتماعية تعبّر عن عودة فاعلية الأمة السورية وحيويتها إليها لتعود إلى القوة، النمو واستعادة ما خسرته من بيئتها الطبيعية”.

إذن نحن نهضة تنهي عهد التخاذل والتقلص والتراجع، وتبتدىء عهد النمو والتقدم والتوسع. إننا ننمو بحيويتنا وفاعليتنا، لا بما يتراكم علينا من الخارج. إنّ حقيقتنا هي حقيقة النمو الذاتي من داخلنا والتوسع على كل مدى ما تقدمه الطبيعة وما تستطيعه مقدرتنا.

وقد قلت في نشوء الأمم (أنظر ج 3 ص 34) إنّ البيئة الطبيعية تقدم الإمكانيات لا الحتميات فالأرض هي الجانب الإيجابي من الحياة، أما الجانب السلبي الذاتي الفاعل فهو نحن.

نحن الفنان الذي يستخدم ما تقدمه الطبيعة من إمكانيات ليبدع وينتج ويبني.

أنتقل بكم الآن إلى المبدأ الأساسي السادس القائل: “الأمة السورية مجتمع واحد”. فلنتتبع نص الشرح:

“إلى هذا المبدأ الأساسي تعود بعض المبادىء الإصلاحية التي سيرد ذكرها وتفصيلها ـ فصل الدين عن الدولة، إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب ـ وهذا المبدأ هو من أهم المبادىء التي يجب أن تبقى حاضرة في ذهن كل سوري. فهو أساس الوحدة القومية الحقيقي ودليل الوجدان القومي. والضمان لحياة الشخصية السورية واستمرارها. أمة واحدة ـ مجتمع واحد. فوحدة المجتمع هي قاعدة وحدة المصالح وحدة المصالح هي وحدة الحياة. وعدم الوحدة الاجتماعية ينفي المصلحة العامة الواحدة التي لا يمكن التعويض عنها بأية ترضيات وقتية”.

إنّ قاعدة الأمة الواحدة في المجتمع الواحد هي القاعدة الصحيحة للوجود القومي. لا يمكن أن تكون أمة واحدة إذا لم يكن هنالك مجتمع واحد، أي إذا لم تكن الهيئة الاجتماعية واحدة. فإذا حصلت تجزئة في المجتمع تعرضت الأمة لخطر الانحلال النهائي والاضمحلال. فصحة الأمة وتقدمها لا يكونان إلا في مجتمع واحد. فالحركة القومية الاجتماعية تقيم بهذا المبدأ وما يتعلق به حرباً عنيفة مميتة على عوامل تجزئة المجتمع إلى مجتمعات والأمة إلى أمم ـ هذه العوامل التي تجعل من كل طائفة دينية ومن كل عشيرة أو طبقة مجتمعاً قائماً بنفسه وأمة منفصلة عن الطوائف والعشائر أو الطبقات الأخرى.

لا يمكن للأمة الواحدة أن تتجه في التاريخ اتجاهاً واحداً بعقليات متعددة، متباينة أو متنافرة. هذا أمر مستحيل. وجميع البهلوانيين السياسيين الذين يقومون بضروب كثيرة من البهلوانية في شؤون التاريخ والسياسة والاجتماع، ويحاولون التوفيق بين تناقض المجتمع في كيانه والوحدة القومية، يمكنهم أن ينجحوا في إنشاء الأحزاب التي تفيدهم هم شخصياً أو في اكتساب مكانة ومنفعة عن طريق استغلال الحالة الراهنة، ولكنهم لن يستطيعوا النجاح في إنقاذ المجتمع من مصير الفناء الذي يصير إليه أو من إكسابه قوة الوحدة والانطلاق.

الأمة في اساسها الحقيقي هي وحدة حياة فإذا لم تكن وحدة حياة لم تكن أمة حقيقية.

متى كانت المصالح مصالح محمديين ومصالح مسيحيين ومصالح دروز، أو مصالح سنيين ومصالح شيعيين ومصالح علويين ومصالح إسماعيليين، أو مصالح موارنة ومصالح روم كاثوليك ومصالح أرثوذكس ومصالح بروتستانت، إلخ. لم تكن هنالك مصالح قومية واحدة. ولا يمكن توحيد شعور الشعب واندفاعه وراء أية حملة باسم الأمة أو الوطن تقوم بها طائفة واحدة، مهما كانت كبيرة، فلم يمكن قط تحويل أية حركة استقلالية قامت بها طائفة معيّنة إلى حركة شعبية في طول البلاد وعرضها. الثورة الدرزية سنة 1925، التي سميت “الثورة السورية الكبرى” لم يكن أن تتحول إلى ثورة سورية عامة، لأنها لم تنشأ بإرادة عامة موحدة. وكم من الناس قالوا: “خلي الدروز يتفزّروا مع الفرنسيين”! وليس بالإمكان جعل مجموعة مصالح الطوائف مصالح عامة واحدة، لأن ذلك يكون مخالفاً لطبيعتها.

النص: “في الوحدة الاجتماعية تضمحل العصبيات المتنافرة والعلاقات السلبية وتنشأ العصبية القومية الصحيحة، التي تتكفل بإنهاض الأمة.

“في الوحدة الاجتماعية تزول الحزبيات الدينية وآثارها السيئة وتضمحل الأحقاد وتحل المحبة والتسامح القوميان محلها ويفسح المجال للتعاون الاقتصادي والشعور القومي الموحد وتنتفي مسهلات دخول الإرادات الأجنبية في شؤون أمتنا الداخلية.

“إنّ الاستقلال الصحيح والسيادة الحقيقية لا يتمان ويستمران إلا على أساس وحدة اجتماعية صحيحة. وعلى أساس هذه الوحدة فقط يمكن إنشاء دولة قومية صحيحة وتشريع قومي اجتماعي مدني صحيح، ففيه أساس عضوية الدولة الصحيحة وفيه يؤمن تساوي الحقوق لأبناء الأمة”.

إنّ التساوي في الحقوق والتوحيد القضائي هما أمران ضروريان لنفسية صحيحة موحدة. فبدون هذا التساوي تظل العقليات المختلفة التي كوّنتها الشرائع المختلفة معضلة تمنع الأمة من الاضطلاع بقضاياها. فالمجتمعات المتعددة المستقلة بشرائعها وأنظمتها الحقوقية تجزىء الأمة وتمنعها من التتقدم.

وإنّ لنا اختباراً عملياً هاماً في تطبيق الحكم الوطني في لبنان والشام بموجب المعاهدة سنة 1936 بين هاتين الدولتين والدولة الفرنسية. فما كاد الوطنيون يتسلمون الحكم في دمشق حتى طبق نظام جعل مناطق عديدة كجبل حوران (جبل الدروز) ومنطقة اللاذقية ومنطقة الجزيرة تتحرك طالبة الانفصال عن المركز. ونزاع المجتمعات الدينية في لبنان ليس أقل منه في الدول الأخرى.

لا إنقاذ للأمة من مصير التضعضع والهلاك إلا بحركة أصلية تقيم مجتمعاً جديداً واحداً وعقلية جديدة وشعوراً واحداً. وإنّ هذه الحركة قد وجدت، وإنّ عملية الإنقاذ تجري ولكنها عملية طويلة شاقة. فلا نكن لجوجين بل لنعمل مؤمنين بقوة الحركة القومية الاجتاماعية ومقدرتها على الغلب على كل صعوبة[1].

[1] من دائرة الإنشاء: أعلن في العدد الأخير من النظام الجديد أنّ هذه المحاضرة ستنشر فيه. ولكنها أبقيت لهذا العدد ليتسنى إملاء الفراغ في بعض فقراتها. إذ إنّ التدوين لم يتمكن من تسجيل كل العبارات.

 في 15 فبراير/ شباط 1948

دوّنها الأمين جورج عبد المسيح

النظام الجديد، بيروت، العدد 5، 1/4/1949. ص 7 ـ 24

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى