محاضرة الزعيم الرابعة في الندوة الثقافية

(كان موضوع المحاضرة الرابعة التي ألقاها الزعيم في الندوة الثقافية للحركة السورية القومية الاجتماعية التي غصت بوفود القادمين للاستماع إلى تعاليمه، المبدأ الأساسي الرابع من مبادىء الحركة. وضاهى عدد المقبلين على المحاضرة من خارج صفوف القوميين الاجتماعيين عدد القوميين الاجتماعيين.

إنّ المبدأ الرابع هو من أهم مبادىء النهضة السورية القومية الاجتماعية الأساسية التأسيسية، لأنه يتناول حقيقة الأمة السورية وتركيبها وشخصيتها. وقد تناول الزعيم في محاضرته عليه مبادىء فلسفية في الحقيقة والوجود من حيث هما قيمتان إنسانيتان. ثم انتقل إلى السلالات وتفصيلها وتصنيفها ونظرة المعلم القومي الاجتماعي إلى السلالات وحقيقتها، وتطرّق منها إلى القضايا النفسية ـ المادية وفروعها. وأظهر ما اقتضاه التنقيب عن حقيقة الأمة السورية، التي طمت عليها طبقات من التاريخ المشوّه، من جهد وتدقيق. ثم أوضح بعض العوامل الهامّة التي تؤثر في تكوين المجتمعات الإنسانية وكيانها. فكانت محاضرة عظيمة القيمة والفائدة. وقد استهل الزعيم محاضرته بخلاصة عن المحاضرة السابقة وبتوسع في بعض نقاطها الهامّة ثم قرأ المبدأ الرابع وشرحه الذي نثبته وشرحه ليتمكن القارىء من تتبع تعاليم الزعيم).

[المبدأ الرابع:] الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي

“يتبع هذا المبدأ التسلسل التحليلي. فهو تحديد لماهية الأمة المذكورة في المواد السابقة. وهو من حيث مدلوله الإتنلوجي يحتاج إلى تدقيق وإمعان. ليس القصد من هذا المبدأ ردّ الأمة السورية إلى أصل سلالي واحد معيّن، سامي أو آري، بل القصد منه إعطاء الواقع الذي هو النتيجة الأخيرة الحاصلة من تاريخ طويل يشمل جميع الشعوب التي نزلت هذه البلاد وقطنتها واحتكت فيها بعضها ببعض واتصلت وتمازجت، منذ عهد أقوام العصر الحجري المتأخر السابقة الكنعانيين والكلدان في استيطان هذه الأرض، إلى هؤلاء الأخيرين إلى الأموريين والحثيين والآراميين والآشوريين والآكاديين، الذين صاروا شعباً واحداً. وهكذا نرى أنّ مبدأ القومية السورية ليس مؤسساً على مبدأ وحدة سلالية، بل على مبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية لمزيج سلالي متجانس الذي هو المبدأ الوحيد الجامع لمصالح الشعب السوري، الموحد لأهدافه ومثله العليا، المنقذ للقضية القومية من تنافر العصبيات الدموية البربرية والتفكك القومي.

“إنّ الذين لا يفقهون شيئاً من مبادىء علم الاجتماع ولا يعرفون تاريخ بلادهم يحتجون على هذه الحقيقة بادّعاء خلوص الأصل الدموي وتفضيل القول بأصل واحد على الاعتراف بالمزيج الدموي، إنهم يرتكبون خطأين، خطأ علمياً وخطأً فلسفياً. فتجاهل الحقيقة التي هي أساس مزاجنا ونفسيتنا وإقامة وهمٍ مقامها، فلسفة عقيمة تشبه القول بأن خروج جسم يدور على محور عن محوره أفضل لحركته! أما ادّعاء نقاوة السلالة الواحدة أو الدم فخرافة لا صحة لها في أمة من الأمم على الإطلاق وهي نادرة في الجماعات المتوحشة ولا وجود لها إلا فيها.

“كل الأمم الموجودة هي خليط من سلالات المفلطحي الرؤوس والمعتدلي الرؤوس والمستطيلي الرؤوس، ومن عدة أقوام تاريخية. فإذا كانت الأمة السورية مؤلفة من مزيج من الكنعانيينن والآراميين والآشوريين والكلدان والحثيين والآكاديين والمِتّني فإن الأمة الفرنسية مؤلفة من مزيج من الجلالقة واللغوريين والفرنك، إلخ… وكذلك الأمة الإيطالية مؤلفة من مزيج من الرومان واللاتين والسمنيين والأتروريين (الأترسكيين)، إلخ… وقس على ذلك كل أمة أخرى “السكسون والدنمركيون والنرمان، هذا ما نحن”، هكذا يقول تنيسن في أمته الإنكليزية. أما أفضلية خلوص الأصل ونقاوة السلالة على الامتزاج السلالي (خصوصاً بين السلالات الراقية المتجانسة) فقد قام الدليل على عكسه، فإن النبوغ السوري وتفوق السوريين العقلي على من جاورهم وعلى غيرهم أمر لا جدال فيه فهم الذين مدّنوا الإغريق ووضعوا أساس مدنية البحرالمتوسط التي شاركهم فيها الإغريق فيما بعد، لقد كان النبوغ الإغريقي في أثينة المختلطة لا في إسبرطة الفخورة بأنسابها، المحافظة على صفاء دمها.

“مع ذلك لا بدّ من الاعتراف بواقع الفوارق السلالية، ووجود سلالات ثقافية وسلالات منحطة، وبمبدأ التجانس والتباين الدموي أو العرقي، وبهذا المبدأ يمكننا أن نفهم أسباب تفوّق السوريين النفسي الذي لا يعود إلى المزيج المطلق بل إلى نوعية المزيج المتجانس الممتازة والمتجانسة قوياً مع نوعية البيئة.

“إنّ مدلول الأمة السورية يشتمل على هذا المجتمع الموحد في الحياة، الذي امتزجت أصوله وصارت شيئاً واحداً، وهو المجتمع القائم في بيئة واحدة ممتازة عرفت تاريخياً باسم “سورية” وسماها العرب “الهلال الخصيب” لفظاً جغرافياً طبيعياً محضاً لا علاقة له بالتاريخ ولا بالأمة وشخصيتها. فالأصول المشتركة: الكنعانية ـ الكلدانية ـ الآرامية ـ الآشورية ـ الأمورية ـ الحثية ـ المتنية ـ الآكادية التي وجودها وامتزاجها حقيقة علمية تاريخية لا جدال فيها هي أساس إتني ـ نفسي ـ تاريخي ـ ثقافي، كما أنّ مناطق سورية الطبيعية (الهلال الخصيب) هي وحدة جغرافية ـ زراعية ـ اقتصادية ـ استراتيجية.

“إنّ هذه الحقيقة الإتنية والجغرافية كانت ضائعة ومشوشة لتبعثرها في الحوادث التاريخية المتعاقبة، التي طمست الآثار واقامت التعاريف الأجنبية المتعددة مقام حقيقة الواقع، ولتنوع الترجمات المتعددة لحوادث التاريخ القومي. فإن عدداً كبيراً من المؤرخين قصر تعريف سورية على سورية البيزنطية أو الإغريقية المتأخرة الممتدة من طوروس والفرات إلى السويس، فأخرج الآشوريين والكلدان وتاريخ بابل ونينوى من تاريخ سورية. وإنّ عدداً آخر قصر تعريف سورية على البقعة ما بين كيليكية وفلسطين فأخرج فلسطين أيضاً من تحديد سورية. وجميع هؤلاء المؤرخين هم أجانب لم يدركوا واقع الأمة السورية وواقع بيئتها ولا تطورات نشوئها. وقد جاراهم أكثر المشتغلين بالتاريخ من السوريين المتعلمين من التواريخ الأجنبية بلا تحقيق فالتبست علينا الحقيقة وضاعت معها قضيتنا الحقيقية إلى أن أكملت تنقيبي وتحليلي وتعليلي وحددت النتيجة في هذه المبادىء وأفصّلها بكاملها في كتاب علمي على حدة.

“إنّ تاريخ الدول السورية القديمة الآكادية والكلدانية والآشورية والحثية والكنعانية والآرامية والأمورية تدل كلها على اتجاه واحد: الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الهلال السوري الخصيب.

“هذه الحقيقة تجعلنا نفهم الحروب الآشورية والكلدانية للسيطرة على جميع سورية فهماً جديداً يخالف الفهم المستمد من التحديدات غير الصحيحة. فهذه الحروب هي حروب داخلية. هي نزاع على السلطة بين قبائل الأمة الآخذة في التكون والتي استكملت فيما بعد تكوينها. وإنّ الكلدان والآراميين هم شعب واحد في الأصل ولسان واحد فاللغة الآرامية هي الكلدانية، والآشوريون هم شق منهم أيضاً.

“لا ينافي هذا المبدأ، مطلقاً، أن تكون الأمة السورية إحدى أمم العالم العربي، أو إحدى الأمم العربية، كما أنّ كون الأمة السورية أمة عربية لا ينافي أنها أمة تامة لها حق السيادة المطلقة على نفسها ووطنها ولها، بالتالي، قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى. الحقيقة أنّ الغفلة عن هذا المبدأ الجوهري هي التي أعطت المذاهب الدينية في سورية المدية، التي قطعتها بين نزعة محمدية عربية ونزعة مسيحية فينيقية ومزقت وحدة الأمة وشتّتت قواها.

“إنّ هذا المبدأ ينقذ سورية من النعرات الدموية، التي من شأنها إهمال المصلحة القومية العامة والانصراف إلى الانشقاق والفساد والتخاذل، فالسوريون الذين يشعرون أو يعرفون أنهم من أصل آرامي لا يعود يهمهم إثارة نعرة دموية آرامية ضمن الأمة والبلاد ما دام هنالك اتِّباع لمبدأ الوحدة القومية الاجتماعية، والتساوي في الحقوق والواجبات المدنية والسياسية والاجتماعية، بدون تمييز بين فارق دموي أو سلالي سوري. وكذلك الذي يعلم أنه متحدر من أصل فينيقي (كنعاني) أو عربي أو صليبي لا يعود يهمه سوى مسألة متحده الاجتماعي الذي تجري ضمنه جميع شؤون حياته، والذي على مصيره يتوقف مصير عياله وذريته وآماله ومثله العليا. هذا هو الوجدان القومي الصحيح، فإذا كانت النعرة الفينيقية هي الـ These والنعرة العربية هي الـ Antithese أو بالعكس، أي إذا كانت النعرتان الدينيتان تضعان نظريتين متعارضتين فما لا شك فيه أنّ مبدأ وحدة الأمة السورية المؤلفة من سلالتين أساسيتين مديترانية وآية، من العناصر التي كوّنت في مجرى التاريخ المزاج السوري والطابع السوري النفسي والعقلي، هو المبدأ الذي يقدم الـ Synthese أو المخرج النظري من تعارض النظرتين، مذهباً واحداً هو القومية. إنّ في هذا المبدأ إنهاء جدل عقيم يهمل الواقع المحسوس ويتشبث باللاحسي ـ جدل علم الكلام محل علم الاجتماع.

“لا يمكن أن يؤوّل هذا المبدأ بأنه يجعل اليهودي مساوياً في الحقوق والمطالب للسوري، وداخلاً في معنى الأمة السورية. فتاويل كهذا بعيد جداً عن مدلول هذا المبدأ الذي لا يقول، مطلقاً، باعتبار العناصر المحافظة على عصبيات أو نعرات قومية أو خاصة، غريبة، داخلة في معنى الأمة السورية. إنّ هذه العناصر ليست داخلة في وحدة الشعب.

“إنّ في سورية عناصر وهجرات كبيرة متجانسة مع المزيج السوري الأصلي يمكن أن تهضمها الأمة إذا مرّ عليها الزمن الكافي لذلك، ويمكن أن تذوب فيها وتزول عصبياتها الخاصة. وفيها هجرة كبيرة لا يمكن بوجه من الوجوه أن تتفق مع مبدأ القومية السورية هي الهجرة اليهودية. إنها هجرة خطرة لا يمكن أن تهضم، لأنها هجرة شعب اختلط مع شعوب كثيرة فهو خليط متنافر خطر وله عقائد غريبة جامدة وأهدافه تتضارب مع حقيقة الأمة السورية وحقوقها وسيادتها ومع المثل العليا السورية تضارباً جوهرياً. وعلى السوريين القوميين أن يدفعوا هذه الهجرة بكل قوّتهم”.

يجب أن نهتم اهتماماً صاحياً واعياً بهذا المبدأ وهذا الشرح، وأن نحلل ما انطوى تحت المبدأ وتحت الشرح، لأنه لا يكفي أن نقول سورية للسوريين وأنّ سورية أمة تامة، إذا لم يكن هذا القول مقرراً لحقيقة معروفة في ذاتها، لوجود حيٍ فاعل يترتب علينا درس طبيعته ومقوماته وعوامله لإدراكه وإدراك وجوب وجوده. لأنه إذا كان هذا القول مقرراً لحقيقة قائمة في ذاتها كاملة يشترك فيها الوجود والمعرفة أو الوعي، لأنه إذا كنت أنا قد قررت، بمجرّد دافع ذاتي فردي غير معبّر عن حقيقة اجتماعية، إننا سوريون واننا أمة تامة، من غير أن تكون هناك أمة سورية في الواقع، كان هذا المبدأ المجرّد قولاً ذاتياً استبدادياً لا يأخذ الوجه ولا الوضع بعين الاعتبار. ففي العقائد التي تمتّ إلى الإنسان الحر بصلة لا يمكن الاستناد إلى أي قول استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية أو لها علاقة بالإنسان المجتمع. فلا بد لقيام الحقيقة من شرطين أساسيين: الأول الوجود بذاته أي أن يكون الشيء موجوداً. والثاني أن تقوم المعرفة لهذا الوجود. والمعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن أن تكون له بدونها.

والذين يستغنون عن المعرفة الإنسانية لتقرير الحقيقة ولقيامها يفترضون معرفة أخرى لهذه الحقيقة. لكن لا يكفي تحديد الوجود لقيام الحقيقة فالوجود يجب أن يصير معرفة ليكون حقيقة أي أنه يجب أن يعرف إما من قبل الإنسان وإما من قبل الله.

لا يمكننا أن نتصور وجوداً بلا معرفة، فلا يمكننا أن نقول إنّ لأي وجود مفترض، غير مدرك بالمعرفة، قيمة الحقيقة، لأن الحقيقة قيمة إنسانية نفسية والإنسان هو وحده الذي يميز بين الحقيقة والباطل بالمعرفة. إذن، لكي نكون موقنين بوجود أمتنا، نحتاج إلى معرفة حقيقة هذا الشخص أو هذه الأمة أو هذه البلاد. وهنا تبدو أهمية هذا المبدأ الرابع الأساسي.

هنا تبدو أهمية هذا المبدأ الرابع الذي يوضح إيضاحاً كلياً وجود الأمة السورية.

إنّ هذا المبدأ وشرحه يقرران معرفة وجود الأمة السورية بكل تفاصيل هذا الوجود وفروعه وبكل الأسباب والأصول التي نشأ عنها.

إنّ أول نقطة نأخذها هي: أننا ننظر إلى الأمة في واقعها ـ في تكونها وحدة حياة، ومن غير اعتبار وجوب إخضاعها لأي مبدأ أو قاعدة استبدادية مطلقة لا تقوم الحقيقة لإخضاعها إليه، كالقول مثلاً إنّ السوريين ليسوا في الأصل شعباً واحداً أو عرقاً واحداً. لذلك لا بدّ من أن نعتبر الأمة أمراً واحداً: إنه وحدة الحياة التي جمعت فيه مجمل العناصر الأساسية التي تتركب منها ودمجها بعضها ببعض فكوّنت منها حياة واحدة، متفاعلة، موثقة، اي مجتمعاً واحداً موحّد الحياة والمصير… هذه هي حقيقة أولية ومنها يجب أن نبتدىء لأنها هي الوجود الذي نراه ونلمسه وندركه بالحاسة وبالفكر والذي نحياه.

إذن لا حاجة إلى أصل واحد معيّن لنشوء الأمة، لنشوء القومية. فالأمة موجودة بتفاعلها ضمن بيئتها ومع بيئتها.

لكن هذا الوجود بذاته المستغني بواقعه عن أصل واحد لأن في حقيقة اشتراك عدة أصول، لأن في اشتراك هذه الأصول، حقيقة في نفسها مختلفة عن أية حقيقة اخرى ممثلة بطابع وبمزايا خاصة تميز هذه الجماعة، هذه الأمة، هذا المجتمع عن أمم ومجتمعات أخرى.

نقول في الشرح “كل الأمم الموجودة هي خليط من سلالات المفلطحي الرؤوس والمعتدلي الرؤوس والمستطيلي الرؤوس ومن عدة أقوام تاريخية”. فإن دليل السلالة الأساسي في العلم الأنتروبلوجي (علم الإنسان) هو قياس الجمجمة. هذا هو الدليل الأساسي لمعرفة السلالات وتنوعها. فهناك سلالات من المفلطحي الرؤوس، ونعني بهم الذين تعلو نسبة عرض رؤوسهم إلى طولها، وهم الذين تبلغ نسبة العرض إلى الطول فيهم من ثمانين أو اثنين وثمانين بالمئة فما فوق. وهناك سلالات من معتدلي الرؤوس، ونعني بهم الذين نسبة عرض رؤوسهم إلى طولها غير عالية، أي نحو ثمانية وسبعين إلى ثمانين بالمئة.

وهناك سلالات من مستطيلي الرؤوس، ونعني بهم الذين تقلّ نسبة عرض رؤوسهم إلى الطول، فتتراوح بين خمسة وسبعين، وأحياناً ثلاثة وسبعين، وسبعة وسبعين بالمئة. هذه هي الأجناس بأشكالها الفيزيائية ويمكن أن يكون لها فروع كعلو الجمجمة أو دنوّها وكبروز القحف ودخوله وكنموّ الجبهة وضمورها وأدلة فيزيائية فسيولوجية هامّة لأهل الاختصاص.

فإذا أخذنا مجموع الشعب السوري، أو أي شعب آخر، وجدنا أنه شعبٌ يتكون من مستطيلي الرؤوس ومعتدلي الرؤوس ومفلطحي الرؤوس، ومع ذلك نجد أنّ الحياة جبلتهم جبلة واحدة فامتزجوا سلالة ودماً، واشتركوا في الحياة الجيدة والصعبة، وعملوا وأجابوا على محرضات البيئة أعمالاً وإجابات مستمرة خلال أجيال أو أدهار، كوّنت لهم نفسية خاصة وطابعاً فيزيائياً خاصاً مستقلاً. ولذلك مع أنه يوجد في سورية من جميع السلالات الممتازة المتجانسة في تنوعها، نرى أنّ للشعب السوري وجهاً وطابعاً واحداً مميزاً ندركه أينما وجد في العالم ومهما اختلط مع شعوب واقوام أخرى.

اقول في الشرح: “مع ذلك، لا بد من الاعتراف بواقع الفوارق السلالية ووجود سلالات ثقافية وسلالات منحطة وبمبدأ التجانس والتباين الدموي أو العرقي، وبهذا المبدأ يمكننا أن نفهم أسباب تفوق السوريين النفسي الذي لا يعود إلى المزيج المطلق بل إلى نوعية المزيج المتجانس الممتازة والمتجانسة تجانساً قوياً ونوعية البيئة”.

فنحن لا نقول بسلالة واحدة ممتازة أو متفوقة سواء أكانت مفلطحة الرأس أو مستطيلة أو معتدلة، بل نقبل الحقيقة العلمية والتاريخية أنّ الإنسانية مقسمة إلى سلالات راقية ممتازة وسلات منحطة.

ففي أقوام السلالات الراقية نجد من مفلطحي الرؤوس ومعتدليها ومستطيليها. والأقوام المنحطة ترجع أصولها إلى سلالات متعددة لا إلى سلالة واحدة متاخرة أو ضعيفة.

فلا يمكن القول إنّ هنالك أمماً وشعوباً قدرت بفطرتها الممتازة وفاعليتها الذاتية أن تجد إلى الارتقاء سبيلاً، وشعوباً لم تقدر أن تصعد سلم الرقي بل بقيت في الحضيض كشعوب هنود أميركية الذين بقوا أزمنة طويلة لا يجدون إلى استعمال المحراث سبيلاً ولا إلى الفلح والزرع، وظلت حياتهم تقوم على الصيد. لم يتمكنوا من ترقية حياتهم الفكرية ولا الاجتماعية فلم يجاوزوا قط حدود الثقافة الأولية السابقة التمدن. والان، بعد أن أتاهم التمدن الغربي واحتك الهنود بالمتمدنين من أوروبة والبحر المتوسط، اقتبسوا أشياء ظاهرية فقط، أما نفسيتهم الأصلية فتظل سائرة تحت المظاهر بكل ما ورثوا من أجيال الجمود الماضية، وتظهر هذه النفسية عند كل احتكاك يتطلب مباشرة ذاتية وحيوية ذاتية وامتحاناً للقوى النفسية ومزايا الفطرة. ومع أننا لا نقول بأصل سلالي ممتاز ولا سلالة واحدة متفوقة لذلك نعترف بوجود سلالات متفوقة من جميع أنواع الأدلة الرأسية ذات الخصائص السلالية الممتازة.

هذا يوصلنا إلى حقيقة هامّة هي العلاقة الوثيقة بين الفيزياء ونفس الإنسان ـ بين نفسية المجتمع وأشكاله الفيزيائية ـ إلى العلاقة بين البسيكولوجية والفسيولوجية. فلا يمكننا مطلقاً أن نفهم بعض الأفعال والأحداث الشخصية النفسية دون أن نعلم خصائص فسيولوجية الشخص المختص، الصادرة عنه تلك الأفعال والأحداث.

إنّ هنالك علاقة وثيقة بين النفسية الداخلية، بين المقدرة العقلية وبين الأشكال الفيزيائية للإنسان. ولذلك تبقى مسألة المزيج السلالي مسألة علمية ثابتة لا يمكننا أن نهرب منها. فلا يمكننا أن نفهم الفرق بين السوري والمصري، مثلاً، ما لم نفهم الفرق بين المزيج السلالي السوري والمزيج السلالي المصري.

إنّ الخصائص الجنسية تنتقل بالوراثة وهذه حقيقة علمية أخرى ولذلك يمكن أن تمرّ في أمة مكوّنة من مزيج سلالي معيّن نفسية ومعانٍ نفسية ثابتة واضحة في أجيال الأمة على الإطلاق، ويمكن تبديل نفسية الأمة تبديلاً أساسياً جوهرياً إذا أمكننا تبديل الأمة فيزيائياً. هذه النتيجة تظهر واضحة في الفرق الذي نراه في التاريخ بين كيفية فتح السوريين الكنعانيين (الفينيقيين) لأفريقية واستعمالهم لها وكيفية فتح العرب واستعمالهم لها:

الكنعانيون (الفينيقيون) استعمروا الشاطىء الأفريقي ولكنهم لم يساووا في الحقوق بينهم وبين شعوب شمالي أفريقية الذين أخضعوهم وكانوا من سلالة أحط من سلالتهم. فاحتفظ السوريون الكنعانيون بسلامة فطرتهم وبقيت لهم مقدرتهم النفسية المتوارثة الموجودة في طريقة عنصرهم دون أي تعديل، واحتفظوا بسيادتهم على الأفريقيين وبقوّتهم، ولذلك أمكن أن ينشئوا إمبراطورية عظيمة كادت أن تسحق رومة. ولم تسقط تلك الإمبراطورية السورية الغربية ـ إمبراطورية قرطاضة ـ إلا في حرب مع الرومان الذين هم قوم من سلالة متفوقة نظير السلالة المتفوقة التي ينتمي إليها السوريون الكنعانيون. أما العرب، فعلى عكس السوريين، فإنهم اختلطوا بأقوام من سلالات الزنوج فدخل في المزيج العربي عرق من سلالات منحطة ولولا أنّ العدنانيين منهم، الذين هم من الأرومة الكنعانية، حافظوا، بعامل البداوة، على مجموع عرقي جيد الفطرة لما أمكن العرب القيام بنهضة الفتح الديني المحمدي. وقد أجاز العرب، بعامل الشرع الديني، الامتزاج الدموي الواسع بلا فرق بين سلالات راقية وسلالات منحطة فلما افتتحوا شمال أفريقية الذي كان افتتحه السوريون قبلهم، أجازوا الاختلاط الدموي اللامحدود مع الأقوام الأفريقية فلم يمكن أن ينشأ من المزيج الذي تولّد من اختلاط العرب والبربر وغيرهم من أهل المغرب أية نهضة يمكن أن تحدث تمدناً أوعظمة سياسية أو فنية من اي وجه أو شكل… لم يكن أن تنشأ من الفتح العربي قرطاضة ثانية على الشاطىء الأفريقي لأن امتزاج العرب ومن سار معهم مع الأفريقيين على أساس المساواة المدنية، بعامل المبدأ الديني المحمدي المساوي مساواة مدنية كلية بين المؤمنين، أفقد العرب من حيويتهم واضاف إلى حيوية الأفريقيين شيئاً ولكن بين رفع الأدنى وإنزال الأعلى حصل متوسط أقرب إلى الانحطاط منه إلى الارتقاء. فالحقيقة، إذن، هي أنه لا مهرب لنا من أخذ المزيج السلالي بعين الاعتبار والاهتمام بهذا المزيج السوري الذي يجب أن يكون من الأنواع القوية التي تفاعلت وأورثت جنساً صحيحاً قوياً في عضلاته وبنيته ونفسيته.

الأصول السورية المشتركة هي الكنعانية والكلدانية والحثية، إلخ… التي وجودها وامتزاجها حقيقة علمية تاريخية على أساس إتني نفسي تاريخي، فهي وحدة نفسية جنسية ثقافية، كما أنّ مناطق الهلال السوري الخصيب وحدة اقتصادية زراعية استراتيجية.

“إنّ هذه الحقيقة الإتنية والجغرافية كانت ضائعة ومشوشة لتبعثرها في الحوادث التاريخية المتعاقبة، التي طمست الآثار واقامت التعاريف الأجنبية المتعددة مقام حقيقة الواقع، ولتنوع الترجمات المتعددة لحوادث التاريخ القومي”. من المؤسف جداً أنّ تاريخ سورية بعد الفتوحات الأجنبية الكبرى خصوصاً فتوحات الفرس والإغريق والرومان ـ إنّ تاريخ سورية بعد هذه الفتوحات كان يكتب دائماً من أجانب. تعريف البلاد، تعريف حقيقتها، كان يعيّن دائماً من قبل مؤرخين أجانب، وبصورة خاصة من قبل مؤرخي المدرسة الإغريقية الرومانية للتاريخ، الذين كتبوا بروح العداء لسورية والسوريين وبعدم انصاف للحضارة والثقافة السوريتين.

قبل هذه الأحداث العظيمة كان مؤرخو سورية يؤخذون ثقاة ومعلمين للذين يريدون تدوين تاريخ أممهم. الإغريق والرومان اعتمدوا على مؤرخين كنعانيين (فينيقيين) قديماً ليؤرخوا عن بلادهم. وقد شهد بهذه الحقيقة المؤرخ الإيطالي المشهور شيزر كنتو في مؤلفه التاريخ العالمي. لكن بعد هذه الفتوحات سقطت جميع شعوب سورية ودولها وخضعت للأجنبي وصارت الدول الأجنبية هي التي تسيطر، والمؤرخون الأجانب الذين استقوا منا قديماً هم الذين أصبحوا يعرّفون سورية وحقيقتها على الأشكال التي تقررها تلك الدول الأجنبية وبالأسماء التي تقررها هي لها.

إذا تصفحنا المؤرخين في العالم وجدنا أنه لا يوجد، إلا فيما ندر، تعريف واحد لمساحة واحدة تسمى سورية. لذلك عندما ابتدأت العمل لإعادة تكوين حقيقة هذه الأمة وجدتني أمام مشكلة من مشاكل العلم الكبيرة. فجعلت همي أن أحقق، واستمر التحقيق مدة غير يسيرة لأن التحقيق كان أشبه شيء بالبحث عن العاديات (أرخيولوجية) التاريخية، كان نوعاً من التنقيب في أطمار وطبقات التاريخ كما يعمل الأرخيولوجي الذي يبحث في طبقات الأرض. المصادر لم تكن كلها مجموعة أو معيّنة. فكان عليّ أن أسير وأنقب من نقطة إلى نقطة، من كتاب إلى كتاب، من لغة إلى لغة، إلى أن وصلت إلى هذه الحقيقة الهامّة التي تجعل هذه المنطقة المحددة بالمبدأ الذي يلي بلاداً واحدة والشعوب التي انتشرت في هذه البقعة أصولاً مشتركة ومتحدة لأمة واحدة لا يمكن أن تخطئها بصيرة العالم الاجتماعي والسياسي.

قلت إنّ الكلدانيين والآراميين هم شعب، وإن تكن نشأت الدولة الكلدانية الأولى والثانية في بابل. إنّ نشوء هذه الدولة لا يدل على أنّ الكلدانيين لا يختلفون عن شعب الآراميين، فالكلدانيون والآراميون شعب واحد ولسان واحد، ولكن الدول كانت تقوم على ما قال إبن خلدون “لحب الغلب”. كذلك بين الفينيقيين أنفسهم كان ينشأ نزاع دولي كما بين صور وصيدا على التفوق وبسط النفوذ. كذلك في العربة نفسها قبل أن يتوحد العرب كان يقوم نزاع بين القبائل لبسط النفوذ وكان النزاع يؤدي إلى حروب كبيرة مشهورة في أيام العرب. فالدول الآشورية والكلدانية والحثية والكنعانية التي نشأت في هذه البلاد نشأت ابتغاء بسط السلطان لإحدى هذه الفئات على بقية البلاد ولإيجاد تمركز لها وليس بدافع انفصال الحياة وانعزال البيئة واختلاف في الحياة واتجاهها، وكما حدث في سورية تنازع دولي داخلي فيها سبق وحدتها السياسية، وقد حدث مثل ذلك في تاريخ أمم أخرى. فإذا أخذنا إيطالية مثلاً وجدنا أنه نشأ فيها نزاع بين المدن اللاتينية وبين رومة وأخذت رومة منها اللسان اللاتيني، ثم أخذت تسيطر على باقي القبائل هناك، وهكذا استمرت الحروب إلى أن توحدت هذه الشعوب في وحدة حياة ووحدة مصير. كما أنّ الحروب في إيطالية كانت حروباً داخلية كذلك الحروب بين القبائل السورية كانت حروباً داخلية من شعب واحد كان مجزَّأً إلى أقسام البيئة المتسعة المتنوعة التي جعلت صعوبة المواصلات وضعف كثافة السكان كل جزء يقوم بمجهود سياسي خاص به وإن يكن يشمل في القصد بقية الأجزاء.

شعوب مشتركة في الأصل واللغة والأساطير والنفسية يظل يطلب كل منها السيطرة المطلقة على جميع الفئات. وكانت كلها تتجه في طبيعة نهوضها إلى توحيد البلاد تحت سيطرتها، وبهذه السيطرة والتوحيد أمكن أن يكون فتح لمصر من سورية. الفتح السوري لمصر هو أسبق من اي فتح مصري لسورية. إمبراطورية الهكسوس هي دولة سورية شيدت الأهرام وأنشأت ابا الهول فهي آثار الدولة السورية والسلطان السوري في مصر.

“لا ينافي هذا المبدأ، مطلقاً، أن تكون الأمة السورية إحدى أمم العالم العربي، كما أنّ كون الأمة السورية أمة عربية (أي في العالم العربي) لا ينافي أنها أمة تامة لها من السيادة المطلقة على نفسها ووطنها ولها، بالتالي، قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن اية قضية أخرى”.

ماذا نعني بكون الأمة السورية إحدى أمم العالم العربي أو إحدى الأمم العربية؟ هل نعني أنّ السوريين هم جزء متمم للعرب (أهل العُربة أو الصحراء) يشكلون معهم شعباً واحداً خاصاً يجب أن يرجع إلى الأصل؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف نوفق بين أنّ سورية أمة تامة ولها “قضية مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى”؟

يوجد عالم يدعى العالم العربي. والسبب في دعوة هذا العالم كذلك هو سبب لغوي ديني في الأساس. فهنالك عالم عربي باللسان ويمكن أن نتدرج ونقول عالم عربي بالدين الذي يحمل كثيراً من بيئة العرب وحاجاتها ونفسيتها، والذي هو أهم عامل يصل بين أمم العالم العربي اللسان. أما من حيث وحدة الحياة التي هي حقيقة وجود الأمة فلا يوجد لهذا العالم وحدة يمكن أن تجعل من مجموع الكتل الموجودة ضمنه كتلة واحدة أو شعباً واحداً أو أمة واحدة أو دولة واحدة قائمة على الإرادة العامة.

فنحن حين نقول العالم العربي نعني هذا العالم الذي يتكلم اللسان العربي ونحن منه. وهذا التفسير يوضح كيف أنّ سورية يمكن أن تكون إحدى الأمم العربية وتبقى أمة متميزة بمجتمعها وتركيبها الإتنّي ونفسيتها وثقافتها ونظرتها إلى الحياة والكون والفن. ويجب، منطقاً وعلماً، قبول هذا الواقع كما يجب قبول أنّ الأرجنتين هي إحدى الأمم الإنسانية في أميركة الجنوبية وكما أنّ كندا هي إحدى الأمم الإنكليزية أو الأنكلوسكسونية، باعتبار امتداد اللسان. وإنّ بين الأرجنتين وإسبانية وبقية الأمم الإسبانية من روابط اللسان والدم والثقافة والنفسية، وبين كندا أو استرالية أو أميركانية وبقية الأمم البريطانية أو الأنكلوسكسونية من الروابط المذكورة، أكثر مما بين سورية وبقية أمم العالم العربي أو مثلما بينها، على الأقل.

بهذا المعنى إذن، وبدون أي تعريض لمبدأ القومية السورية، يمكننا أن نسمي سورية إحدى أمم العالم العربي، على أنها أمة مستقلة تتكلم اللسان العربي العزيز عليها، ليس لأنه اللسان الذي فرض عليها بعامل الفتح الديني، بل لأنها أنتجته من نفسيتها وعقلها وغذّته بإنتاجها وثقافتها، فهو عزيز عليها بما يشتمل عليه من فكر نفسية وأدب سوري.

لو لم تكن لنا حقيقة نفسية ضمن هذا اللسان، ماذا كانت قيمة هذا اللسان لنا، وماذا كانت قيمتنا نحن في هذا اللسان؟

إنّ قيمة اللسان العربي لنا وقيمتنا نحن ضمن هذا اللسان هي بمواهبنا وبما نتج من تراث سوري فكري أدبي بهذا اللسان، بحيث أصبح السوري يجد فيه التعبير عن أساسه وإدراكه وفهمه، فهو قد صار خزانة النفسية السورية وثقافتها ويجب أن يُغنى كثيراً بالتراث النفسي الثقافي السوري ليضمن للأمة السورية كل احتياجها ويستنير الأدب السوري والفن السوري كل جوانبه!

إنّ الأمة السورية من ضمن هذا المبدأ تشكل حقيقة فيزيائية، حقيقة دموية سلالية، وحقيقة نفسية لا يمكن أن تفهم بدون هذه الحقيقة المادية الاجتماعية. فهنالك حقيقة سورية بذاتها، بوجودها، بوضعها، بجوهرها في طبيعتها. وقد كانت هذه الحقيقة قبل نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي، قبل النهضة القومية الاجتماعية، حقيقة كامنة، نائمة ـ حقيقة هي مجرّد حقيقة بالقوة الكامنةـ أما بعد نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي فقد اصبحت هذه الحقيقة حقيقة بالفعل، أصبحت حقيقة فاعلة متحركة، حقيقة تظهر وجودها، حقيقة تعبّر عن وجودها بإرادتها (تصفيق شديد).

كنت أود أن أضيف شيئاً في شرح هذا المبدأ المتعلق بالبيئة نفسها لكني سأترك ذلك للاجتماع المقبل الذي سنحلل فيه المبدأ الخامس.

لكن يمكنني التمهيد لذلك (ونشر خريطة وأخذ يدل على الحدود السورية قائلاً):

كنت أود أن أهيِّىء خريطة أكبر للدلالة على الحدوود بصورة أوضح ولكن لمّا يتم تجهيز الخرائط للتعليق ويمكن أن تكون جاهزة للاجتماع المقبل.

(وأخذ يدل على الحدود السورية ويسميها):

هنا على دجلة قامت عاصمة الآشوريين نينوى على الدجلة الأعلى مركز الدولة الآشورية. بابل أو بغداد قربها. من حيث الوضع الجغرافي نرى أنّ هذه المساحة، إذا أتينا إلى الفرات، تشكل لنا وادياً يستمر ويجري الماء فيه ويروي إلى أن يصل إلى خليج العجم. فإذا وصلنا إلى دجلة عند أية نقطة لم يبقَ في الطريق اي حاجز طبيعي يمنع من الاستمرار في الوادي الخصيب الذي يستمر فيه خط العمران وكل أسباب الاشتراك في الحياة. وكذلك واديا العاصي والأردن. وفي السهول والأودية التي تتخللها هذه الأنهر اقامت الشعوب المديترانية السامية اللغة والشعوب الألبية وغيرها الآرية اللغة التي كوّنت المزيج السوري، ونزع كل شعب من شعوبها إلى إقامة الدولة ومنافسة أشقائه في النفوذ والمُلك وفي السعي لضم بقية الأجزاء تحت سلطانه، فنشأت الدول السورية الأولى القديمة التي نشأ بينها نزاع داخلي في أدوار التاريخ الأولى ولكنها كانت تتحد أو تتحالف ضد الأخطار وفي مدات طويلة من التاريخ كانت تطيع حكومة أو دولة سورية واحدة.

إنّ اسم سورية مشتق من آشور، وهذا ما يقول به جمهور العلماء، وهنالك احتمال أنه من صور. وكان هذا الاسم يشمل كل هذه البلاد التي بسط الآرشوريون حكمهم ونفوذهم عليها بصورة دائمة مدة ازدهار دولتهم، واشتركوا معها في الجنس والنفسية والتقاليد وكل فروع الحياة الاجتماعية. وكذلك الكلدانيون الذين عادوا وحّدوا سلطانهم عليها ووحّدوها ما أمكن التوحيد في تلك الأزمنة، إلى أن جاء اتحادها النهائي، في نموها السياسي والاجتماعي، في العهد السلوقي الذي قامت فيه دولة إمبراطورية سورية عامة لا تستند إلى شعب معيّن من شعوب سورية القديمة التي صارت شعباً واحداً.

من الوجهة الجغرافية نرى سلسلة جبال تشكل قوساً طبيعياً من طوروس إلى البختياري (زغروس). وتوهم البعض أننا نعني بالبختياري مجاوزة البلاد السورية إلى إيران. وهذا غلط فنحن لا نريد الدخول إلى إيران، بل نريد تحديد بلادنا التي تتاخم بلاد إيران في جبال البختياري أو البختيكوه التي هي الحدود الطبيعية. نعني أنّ جميع الأراضي المنبسطة بين دجلة وجبال البختياري تدخل ضمن منطقة “ضفاف دجلة” المستعملة في النص السابق الذي رأيت تعديله بسبب عدم وضوح الحدود في تعابيره، فالمنطقة المنبسطة المذكورة ليست حدوداً بل أراض سورية يرويها نهر دجلة السوري واقام فيها الآشوريون الذين يترجح اشتقاق اسم سورية من عاصمتهم أو آلهتهم آشور، ومنها حارب الآكاديون والكلدان والآشوريون العيلاميين وغيرهم الذين أقاموا في منطقة الجبال الإيرانية. فكان المجتمع السوري في مختلف دوله دائماً في حرب مع المجتمع الإيراني.

بقي أمر الصحراء: هنالك فرق كبير بين الصحراء السورية والصحراء العربية. صحراء سورية ترابية صالحة للزرع والري وهي واقعة تحت ضفة الفرات اليمني. أما الصحراء العربية فرملية لا يمكن ريّها ولا تقبل الفلح والزرع. والصحراء السورية الترابية كانت مزروعة قديماً وكانت خصبة، وأمحلت لعوامل تاريخية سياسية كدخول المفعول وقطع الأشجار وتحويل طبيعة الإقليم. كل هذه العوامل جعلت هذه البقعة تتحول إلى صحراء لكنها يمكن أن تتحول ثانية إلى مروج خضراء عندما نتمكن من إقامة نظامنا الذي يعيد هذه الأراضي إلى سابق عهدها الخصب المنتج.

هنالك مبدأ هام أعلنته في كتابي نشوء الأمم ويجب أن نعيره كل انتباهنا وهو أنّ الأمم الحية القوية الفاعلية والنمو تمتد حتى وراء حدود بلادها الطبيعية كما امتدت أمتنا وسلطتها على الأناضول كلها مدة طويلة من الزمن، خصوصاً في العهد السلوقي، وعبر البحر على جزر المتوسط وشواطئه من ليبية إلى إسبانية وفرنسة، فإذا ضعفت الأمة وانحطت حيويتها وفاعليتها تقلصت حدودها لمصلحة غيرها، كما حدث لأمتنا في طور انحطاطها الذي تبطله نهضتنا القومية الاجتماعية.

إنّ البيئة تقدم للأمم الإمكانية لا الحتمية. فالأمة التي يمكن أن توسع بيئتها وتحتفظ في هذا التوسيع بوحدة مجتمعها ووحدة حياته ومصيره لا يجوز لها أن تخنق نفسها ضمن حدود البيئة القديمة التي كوّنت شخصيتها ونفسيتها فيها.

هذه هي بعض الحقائق التي أردت أن أجعلها ماثلة أمام القوميين الاجتماعيين ودارسي قواعد نهضتنا السورية القومية الاجتماعية واتجاهها. وفي المحاضرات المقبلة ستتاح لي الفرصة لزيادة الأسس والأهداف لهذه النهضة الآخذة في تغيير مجرى التاريخ.

 في أول فبراير/ شباط 1948

دوّنها الأمين جورج عبد المسيح

النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، العدد 4، 1/6/1948. ص 3 ـ 18

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى