مذكرات


1 مارس/آذار 1929:

«ها قد ابتدأ يوم جديد من أيامي. في هذا اليوم يبتدىء شهرك يا مارس وفي هذا اليوم أبتدئ أنا سنتي الخامسة والعشرين وبابتداء هذه السنة إبتدأ التسجيل لحساب الحياة التي أوجدتك وأوجدتني.
وفي هذه الدقائق الأولى التي تعيد أول نسماتك وأول أنفاسي أسمع في بلاد غربتي، وسط الليل المخيم، صوتاً رخيماً ما أحلاه يناديني «يا إبني أين أنت؟» فأرفع رأسي وأنظر في وجه السماء المقنع كوجه إيزيس وأنادي «يا أمي أين أنت؟».
وأعود فأسمع صوتاً آخر يناديني «يا إبني أين أنت؟» فأعود إلى التحديق في وجه الأفق وأنادي «يا بلادي أين أنتِ؟».
أمي وبلادي ابتدءا حياتي وسيلازمانها إلى الانتهاء.
فيا أيها الإله أعنِّي لأكون باراً بهما».


2 مارس/آذار 1929:

«لم أتمكن من كتابة شيء للرواية التي أُعدُّها، لانصراف أفكاري إلى تذكارات بلادي العزيزة.
لقد أنستني رفقة (…) همومي طوال هذا اليوم، وقد أصبحت أشعر أنه وجد أخيراً في بلاد غربتي إنسان، ذو شعور يفهمني وأفهمه».


3 مارس/آذار:

«أشعر بحنين ذائب إلى بلادي، إلى الوادي، إلى غاية الصنوبر، إلى النبع. وأحس بنغصة الحياة عندما أتذكر تلك الأشياء الثمينة، وكم أتمنى لو أني أعود إلى مسقط رأسي.
ليس قليلاً ما يلاقيه فاقد الوطن في ديار الغربة».


4 مارس/آذار:

«قرأت اليوم ترجمة حياة الخنساء وشيئاً من شعرها فأثّر فيَّ ذلك، ومع أنّ أشجان نفسي كثيرة فسأجرب تسكينها للاستفادة من الانتعاش الذي أشعر به في سبيل إنجاز الرواية التي أصبحت جزءاً من نفسي لأنها جزء من عواطفي وأفكاري واختباراتي.
سأذهب حالاً إلى الفراش ولا أدري ما يحدث بين ليلة وضحاها».


5 مارس/آذار:

«جلست أنا و(…) على شرفة غرفتي البديعة المطلة على مناظر مبهجة وأخذنا نتداول الحديث في مختلف المواضيع بينما نحن نشرب الشاي. وكان أهم حديث لذيذ جرى عن المناقب «مورال» فكان رأي (…) أنّ المناقب هي العواطف الشريفة في الإنسان وكان رأيــي في المناقب كما هو مصطلح على استعمال هذه اللفظة إنما هي العادات التي يتفق المجموع على اعتبارها شريفة أو من الفضل، ولا أدري تماماً إذا كنت قد أقنعت (…) بصحة نظريتي».


6 مارس/آذار:

«بعد العشاء تنزهت قليلاً ثم طالعت بعض الجرائد السورية ثم فطنت للبحث عن كلمة «مورال» التي تعني المناقب والتحقيق عن معناها في معجم أحاديث مايو/أيار فوجدت أنها مشتقة من لفظة «مورال» اللاتينية التي معناها العادات أو التقاليد وتيقنت من صحة الرأي الذي أبديته لــ(…) البارحة».


13 مارس/آذار:

«تحدثت مع بعض أصدقائي في أمور شتى منها المبدأ والغرض والخيال (إيديال) وكان حديثاً شيقاً تشبثت فيه برأيــي بأنه يوجد نظريات كثيرة صالحة وموافقة للعمل يغفلها البشر لضعف في قواهم النفسية مجادلينك بذلك القول السقيم، إنّ النظريات لا يمكن تطبيقها على العمليات وما شاكل من الآراء التي تعني كثيراً ولا تعني شيئاً وكان رأيــي في ضعف البشر أنه ناتج عن فقد الإيمان الراسخ».


25 مارس/آذار:

«وردتني هذا الصباح عدة جرائد وكانت نفسي متعطشة لسماع أخبار بلادي لأني لم أكن قد طالعت شيئاً بشأنها في الأيام الأخيرة، ولكن اللهفة إلى تلك الأخبار عادت عليَّ حزناً وأسفاً شديداً، للمصير الذي صارت إليه أمتي. وقد آلمني بنوع خاص أن أقرأ كيفية تعطيل الجمعية التأسيسية التي انعقدت في دمشق في تاريخ التاسع من يونيو/حزيران 1928 وتوقفت أعمالها للمرة الأولى في الحادي عشر من السنة نفسها وتعطلت إلى أجل غير معين بموجب قرار المفوض الفرنسي السيد بونسو في أصيل يناير/كانون الثاني من هذه السنة».


29 أبريل/نيسان:

«اليوم قمت بجميع واجباتي رغماً من الضعف الذي بي… وعسى أن يكون الغد أفضل من اليوم من أجل مبدأي لا من أجل نفسي…».


في 13 مايو/أيار:

«سألت نفسي اليوم ما هي قيمة الحياة بدون مبدأ؟
ما هي الحياة بدون مثل منشود؟
ما الغرض من وجود الإنسان؟
ما هو القضاء والقدر؟
للحياة غرض من خلق الصعوبات الهائلة للإنسان أم هي تخلقها لإعدام الحياة بإعدام السعادة؟
يقول بعض الفلاسفة إنّ للحياة غرضاً في الإنسان يتم به ورأيــي الخاص أنّ غرض الحياة في الإنسان قائم على وجوده حتماً ولكن إذا انتفى وجود الإنسان فهل يبطل عمل الحياة؟».


19 مايو/أيار:

«يجب أن أقوم بمطلوب مبدأي مع كل ما يعرض لي من ألم الروح، فالحياة قصيرة لا تسمح بضياع الوقت في البكاء من الألم.
وإنّ في الألم لحياة لذوي الفهم.
هي الفلسفة التي عرفت حقيقتها بالاختبار.
لذلك أنا أرفض أن أكون أنانياً لا يعرف شيئاً غير طلب اللذة والنواح لفقدها.
لا. لا. يجب ألا أكون أنانياً. بل يجب أن أفتكر بآلام الملايين من بني أمتي أولاً ثم أعود فأذكر نفسي…
يجب أن أنسى جراح نفسي النازفة لكي أساعد على ضمد جراح أمتي البالغة».


23 يوليو/تموز:

«أين الوطن… إلى هناك تشتاق نفسي ويتزايد حنيني.. هناك حضنتني أمي وهناك ترعرعت…».


في 19 سبتمبر/أيلول:

«منذ عدة أيام وأخبار ثورة السوريين في فلسطين على اليهود الدخلاء تملأ الصحف. وقد أثّر فيَّ كثيراً إرسال بريطانية مراكبها الحربية حاملة جحافل بريطانية جديدة إلى فلسطين للدفاع عن اليهود، الأمر الذي كان من ورائه سقوط عدد وفير من السوريين قتلى، واضطرار القائمين بالحركة الشعبية الوطنية إلى الإخلاد إلى السكينة.
بيد أنّ ما ساءني أكثر من كل ما تقدم، بقاء الجالية السورية هنا جامدة لا ينبض لها عرق ولا يختلج لها عضو كأن ما هو جارٍ ليس في بلاد رأت هي فيها نور الحياة ولا يهم أمة تنتمي هي إليها وكل ما قامت به جمعية الرابطة الوطنية السورية بهذه المناسبة لم يتعدَّ حد صغار الشؤون التي لم يكن ــــ ولا يمكن أن يكون ــــ من ورائها ما يمكن أن يرجح أو على الأقل أن يوازي الإذاعة لمصلحة اليهود في الصحف البرازيلية.
ومع ذلك أراني مضطراً إلى كتمان آلام نفسي أمام أبناء جنسي لأنهم يسخرون من هذه العواطف ولا يخجلون من العار الذي يلحقهم».


30 أكتوبر/تشرين الأول:

«ليس كالوحدة للفتى ففيها يكون المرء كله لنفسه.
ولكن بعد العزلة تشتاق النفس إلى المعرفة والفهم، بيد أني كلما طلبتهما ورفعت رأسي ونظرت وجدتني دائماً وحيداً بأفكاري غريباً بين معارفي ــــ في محيط الاجتماع المترامي الأطراف تغلب الأنانية المبدأ وتنتصر الشهوة على الحب.
ذو الفهم دائماً يعطي والطماع دائماً يأخذ فلا يعترف ولا هو يقنع «والنفوس إذا كانت كباراً تعبت في مرامها الأجسام» والنفس الكريمة لا تكف عن العطاء.
البارحة اشتريت حاكياً لأني أشعر بصعوبة الحياة بدون موسيقى وكم كنت أودّ لو أني تعلمت هذا الفن الشاق، كأنه لا يكفيني الفن الشاق الذي أعانيه.
ولقد نصحني ناصح، أمثاله كثيرون: دعك من هذا العناء، يكفي المرء أن يهتم بخبز يومه.
للناس خبزهم اليومي ولي خبزي».


في أول يناير/كانون الثاني 1930:

«منذ آخر مذكرة كتبتها إلى الآن شهران لم يذهبا عبثاً.
ابتدأَت السنة الجديدة منذ نحو ساعتين فتذكرت ماضيّ فإذا هو جلي واضح كالسفر المفتوح.
ثم ذكرت مستقبلي:
آمال وأوهام ورغائب وأحلام.
وكل هذا سجف من يدري ما وراءها.
إني أحب الماضي لأني أعرفه وأفهمه.
ولكني أخشى المستقبل وإن كنت أرقبه وآمل لأني إذا نظرت إليه فيا لغرابة ما أرى ويا لعجب ما لا أرى.
ومع اعتقادي أنه لا قضاء إلا لما كان، أسلم للقضاء بما هو كائن ويكفيني من حظ الدنيا ما أبقيته».


أنطون سعاده
النهضة، بيروت 
العدد 105، 1/3/1938

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى