مذكرة الحزب القومي عن قضية المصالح المشتركة


توطئة:

في الوقت الذي تبدأ فيه المفاوضات بين الحكومتين اللبنانية والشامية بعد أعلان استقلال هذين الكيانين السياسي حول المصالح المشتركة، التي هي في الحقيقة مصالح أساسية لأمة واحدة. في هذه المرحلة الخطيرة التي تُبنى فيها أسس العلاقات الاقتصادية والسياسية بين قسمين من بلاد واحدة، يتقدم الحزب السوري القومي ببيانه هذا إلى الشعب وإلى الحكومتين ممثلاً وجهة نظر الأمة في مسألة هي أهم مسائلها الخطيرة الحاضرة، معبراً عن شعور الشعب بوحدة المصلحة التي تربط جميع أنحاء البلاد وكافة طبقات الأمة برباط متين.

العلاقات الاقتصادية والسياسية

إن قضية المصالح المشتركة ليست قضية مستقلة بذاتها، بل هي قسم من قضية أعم وأكبر هي قضية العلاقات بين كيانين سياسيين مستقلين يربطهما مصير واحد. إنّ هذه العلاقات وثيقة بين البلدين، وتقتضي مصلحتهما أن تزداد توثقاً ونمواً، وكل حل لقضية المصالح المشتركة يقلل من أهمية هذه العلاقات ولا يسمح بنموِّها يهدِّد الكيان الاقتصادي الحالي في البلاد الذي هو كيان واحد غير مجزأ وينافي مصلحة الشعب في كل من البلدين. فالكيان الاقتصادي الحاضر يجعل من كل البلاد المشمولة بالانتداب الفرنسي سوقاً تجارياً واحداً، إنْ للبضائع المستوردة أو للبضائع المصدَّرة، ووجود هذه الوحدة في السوق ناتج عن وحدة الدورة الاقتصادية التي لا تحتمل وجود فواصل جمركية ضمن البلاد، وتوجب تطبيق نظام جمركي واحد ورسوم جمركية واحدة للبلاد بأسرها، ولوحدة السوق فضل كبير في تحسين الحالة الاقتصادية. فالتجارة الداخلية ضمن حدود البلاد المشمولة بالانتداب لا يمكن أن تؤمن الفلاح اللاقتصادي إلا إذا كانت حرة لا عراقيل تمنعها من اتخاذ مجراها الطبيعي. فيجري التبادل التجاري في المحصولات الزراعية والمنتوجات الصناعية بين المناطق جمعاء فيأخذ ما يحتاجه أهل الداخل من منتوجات الساحل ويحصل النفع المتبادل لأهل المنطقتين فتزداد العلاقات السياسية توثقاً.

ضرورة بقاء النظام الجمركي الحاضر

إنّ كل ما يعرقل سهولة التبادل التجاري بين لبنان والشام، كوضع حواجز جمركية بينهما مثلاً، أو كوضع نظام جمركي مستقل لكل منهما يحتوي على رسوم مختلفة على البضائع المستوردة في كل من البلدين، إنّ عراقيل من هذا النوع لحرية التجارة الداخلية الموجودة حالياً تعود بالضرر الجسيم على كل من المنطقتين. فحفظ النظام الجمركي الحاضر وتسهيل العلاقات الاقتصادية بين المنطقتين ليس فقط ضرورياً لمنع تأخر الحالة الاقتصادية عما هي عليه الآن، بل هو شرط أساسي للازدهار الاقتصادي الذي ينتظره الشعب في هذا العهد الجديد. فعلى الحكومتين المتفاوضتين أن تحافظا على المصالح المشتركة مهما كلف الأمر، وأن تجعلا لها نظاماً يكفل استمرارها ونموها في المستقبل.

إيراد ومصاريف المصالح المشتركة

إنّ المصالح المشتركة حالياً هي الجمارك، الدوائر الاقتصادية المشتركة، مصلحة الكرنتينا، مراقبة الشركات ذات الامتياز والسكك الحديدية، الأمن العام، الدوائر التفتيشية للبرق والبريد والأشغال العامة وأملاك الدولة، مصلحة الآثار والعاديات، وفرق الجيش الخاصة. وكانت إدارة هذه المصالح المشتركة منوطة بالمفوضية العليا التي كان لها السلطة المطلقة بتقرير سياستها وتشريعها.
وكان دخل هذه المصالح في المدة الأخيرة يتجاوز ثمانية ملايين ليرة سورية، 95 بالماية منها مؤلفة من واردات الجمارك. وكانت نفقاتها لا تقل كثيراً عن دخلها في السنوات الأخيرة. وتتألف هذه النفقات من المواد الآتية: أربعة ملايين ونصف المليون لِفِرق الجيش الخاصة، مليون لإدارة الجمارك، وأكثر من نصف مليون لسد عجز السكك الحديدية، ونفقات أخرى على الدوائر الاقتصادية والأمن العام.

الخطر الكامن في المفاوضات

إنّ الوضعية الجديدة التي خلقتها المعاهدتان المعقودتان بين فرنسة وكل من الحكومتين اللبنانية والشامية، تتطلب جعل المصالح المشتركة خاضعة لسيادتهما بعقد اتفاق بينهما حول هذه المصالح، فإذا لم يتم هذا الاتفاق استقّلت كل من الحكومتين بما يخصها من هذه المصالح فتصبح العلاقات بينهما كما هي الآن بين كل منهما وفلسطين. إنّ هذه الإمكانية إذا صارت أمراً واقعاً أضرت بالغاً بالعلاقات الاقتصادية والسياسية بينهما، ونتج عن ذلك ضعف وعجز يؤثران تأثيراً سيئاً في الأحوال الاقتصادية والمعاشية لكلا الشعبين.
إننا إذا أردنا وتمكنّا من أن نتجاهل العوامل الطبيعية الأساسية التي توجب المحافظة على نظام اقتصادي موحد، وتوجب وحدة السوق التجاري بين لبنان والشام بسبب وجود البقعتين في وحدة جغرافية تامة ـ وذلك لاعتبارات سياسية محضة ـ فلا يمكننا بوجه من الوجوه أن نتجاهل المصالح التي أصبحت مؤسسة بواقع الحياة. وسواء أعلى عهد الإمبراطورية العثمانية أم على عهد الانتداب، فإننا نجد أنّ المنطقتين الشامية واللبنانية كانتا خاضعتين لنظام اقتصادي موحد. وإنّ لدينا المبررات الكثيرة من طبيعية وواقعية للمحافظة على النظام الحالي، ولكننا لا نرى أي مبرر لسلوك غير هذا المسلك.

إنّ النظام الموحد البعيد المدى جعل تجار بيروت وطرابلس والشام وحلب وحمص متساندين بعضهم إلى بعض بفعل العاملين الجغرافي والاجتماعي. فأي عمل من شأنه إلغاء النظام الموحد سيعكر ولا شك هذه العلاقات العديدة المتشابكة تشابكاً جعلها الأساس الاقتصادي الذي استثمر فيه قسم كبير من الرأسمال التجاري في كلتا البقعتين. وإننا نرى كيف أنّ النظام الاقتصادي القائم بين فلسطين ـ التي تعتبر جغرافياً القسم الجنوبي من البلاد السورية ـ والأراضي المشمولة بالانتداب الفرنسي، هو نظام متجانس يكاد يكون بحكم الضرورة موحداً. بالرغم من وجود فلسطين تحت انتداب غير الانتداب على لبنان والشام. ولماذا لا يقوم النظام نفسه بين فلسطين ومصر مع أنّ البلدين واقعان تحت نفوذ دولة واحدة ومع أنهما متاخمان الواحد للآخر؟
يمكننا أن نفهم كل ذلك على ضوء مبدأ لا يمكن إنكاره، ألا وهو ضرورة خضوع الدورة الاقتصادية لوحدة المساحة المسببة وحدة المجتمع بقطع النظر عن كل الاعتبارات السياسية.

تحديد المصالح ووضع نظام لها

إنّ الوصول إلى الاتفاق حول المصالح المشتركة يتطلب حل مسألتين أساسيتين وهما: تحديد المصالح التي ستكون مشتركة، ووضع نظام لهذه المصالح يكفل إدارتها في المستقبل لمنفعة السكان في كل من البلدين. أما مسألة توزيع واردات المصالح المشتركة بينهما فهي مسألة ثانوية لا لزوم لبحثها في هذه المرحلة الآن. ووضع نظام المصالح المشتركة يكفل تسويتها في المستقبل. ولا يمكن أن تحدَّد نسبة توزيع واردات الجمارك بصورة عملية في الوقت الحاضر لأن نوع الواردات وكميتها ونسبة استهلاكها في كل من المنطقتين سيختلفان من سنة إلى سنة في المستقبل، وأنّ تحديد نسبة ثابتة من الآن إلى خمس وعشرين سنة تحديداً لا يأخذ بعين الاعتبار التطورات والتغيُّرات التي لا بد أن تطرأ على وضعية المصالح المشتركة في المستقبل، هو تحديد مغلوط حتماً.
ثم إنّ هنالك فائدة أخرى من ترك مسألة توزيع الواردات إلى المجلس الذي سيتولى إدارة هذه المصالح، وهي أن لا تتخذ المفاوضات الحالية بين الحكومتين شكل مساومة على خمسة وخمسين بالمئة أو ستين بالمئة من الواردات تحدَّد لإحداها دون أخرى، فإن هذا النوع من المساومة يضع المفاوضات على غير المستوى الذي يجب أن تكون عليه، ويحوِّل الاهتمام عن المسألة الأساسية في قضية المصالح المشتركة، ألا وهي إنشاء نظام لهذه المصالح يكفل حسن إدارتها ويساعد التقدم الاقتصادي في البلاد.

المبدأ العام ومجلس الدفاع الأعلى

إنّ تحديد المصالح التي يجب أن تكون مشتركة بين الساحل والداخل يجب أن يخضع لمبدأ عام، ألا وهو السعي لتوثيق العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين. لأن هذا التوثيق يكون لمصلحتهما العامة، فيجب إذاً المحافظة على المصالح المشتركة الحالية ولا يستثنى منها غير فِرق الجيش الخاصة والأمن العام، وهذه الأخيرة “الأمن العام” تربط بالدوائر الخاصة بكل حكومة. أما مسألة الجيشين اللبناني والشامي فمن الضروري بحثها على حدة والوصول إلى اتفاق يوجب إيجاد الشكل الضروري لتامين وحدة الدفاع، فينشأ مجلس دفاع أعلى يُعنى بدرس وتنظيم الدفاع المشترك وتوحيد نظام الجيش في كل من الحكومتين، لكي تكون السياسة الدفاعية فيهما متوافقة ومتكافئة.

اللجنة التشريعية العليا

وتتطلب تقوية العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين إنشاء مؤسسات مشتركة بينهما غير المصالح الحالية، فيجدر بالمتفاوضين أن يدرسوا الوسائل التي تسهِّل إنشاء هذه المؤسسات في المستقبل، وأن يتركوا المجال واسعاً لتنشأ بجانب المصالح المشتركة مصالح أخرى سياسية واقتصادية. ومنذ الآن يجب على المتفاوضين أن يفكروا بإنشاء لجنة تشريعية عليا للسعي إلى توحيد التشريع، وبالأخص الاقتصادي والمالي منه، وإنشاء لجنة مشتركة للشؤون الخارجية لإيجاد التعاون بين الحكومتين في سياستهما الخارجية.

النظام الصالح لإدارة هذه المصالح

والآن نصل إلى المشكلة الكبرى في قضية المصالح المشتركة وهي إيجاد نظام صالح لإدارة هذه المصالح وتقرير سياستها. فبعد أن يحصل الاتفاق على نوع المصالح التي يجب أن تكون مشتركة، على المتفاوضين أن يوجدوا الهيئة التي تناط بها إدارة هذه المصالح وسياستها، فقد كان للمفوضية العليا في عهد الانتداب السلطة التامة لإدارة هذه المصالح وتقرير سياستها، فكانت تقرر مثلاً وضع الرسوم الجمركية ورفعها أو تخفيضها، وكانت تعقد المعاهدات التجارية مع البلدان المجاورة، وتقرر الطرق لتشجيع الصناعة الوطنية كإعفاء المواد الأولية والماكنات من الرسوم أو حماية المصنوعات الوطنية بواسطة الرسوم المرتفعة. وبكلمة واحدة كان للمفوضية العليا السلطة التامة على السياسة الجمركية والاقتصادية، أما في عهد الاستقلال فستنتقل هذه السلطة إلى الحكومتين المستقلتين، وهذا ما يحدو بنا إلى البحث في كيفية تنظيم هذه السلطة بصورة مشتركة بين البلدين.

إنّ النظام السياسي الذي وُجد في عهد الانتداب يشبه في كثير من الوجوه النظام الاتحادي، فقد كانت هنالك مصالح مشتركة بين المناطق المشمولة بالانتداب تدار من هيئة مركزية عليا، وكانت هنالك مصالح محلية تديرها الحكومات المحلية. وكانت الهيئة المركزية العليا تستمد سلطتها من الجولة المنتدبة ومن نص صك الانتداب. واستمدت الهيئات المحلية سلطتها تارة من الشعب عند وجود الحكومات الدستورية، وطوراً من السلطة العيا. أما الآن وقد تقرر زوال الانتجاب، فمن أين تُستمد ساطة الهيئة التي يجب أن تدير المصالح المشتركة؟ ليس هنالك غير جواب واحد لهذا السؤال هو أنّ سلطة إدارة المصالح المشتركة يجب أن تستمد من الشعب في كلا البلدين. وقد كان الأولى أن يُحتفظ بالشكل السياسي الاتحادي الذي ساد في عهد الانتداب، فتكون هنالك حكومة اتحادية مركزية تدير المصالح المشتركة وتستمد سلطتها راساً من الشعب، مع بقاء الحكومات المحلية لإدارة المصالح المحلية. أما وقد قضت المعاهدتان على هذا الشكل الاتحادي فيجب أن تنظم إدارة المصالح المشتركة بشكل يكفل سيطرة الشعب عليها في كل من البلدين، ويؤمن إدارتها باستمرار وانتظام لمصلحة الشعب. ومن الضروري جداً أن تكون إدارة المصالح المشتركة غير خاضعة للتقلبات السياسية التي لا بد من وجودها في حكومات دستورية، أي أن يكون للهيئة التي ستتولى إدارة المصالح المشتركة وسياستها نوع من الاستقلال يكفل تقرير أمور هذه المصالح لمنفعة البلدين بدون ضغط الهيئات السياسية والاقتصادية في كل منهما، فلا تكون مسألة تقرير الحماية الجمركية لإحدى الصناعات مثلاً خاضعة لأهواء السياسة والمصلحة المحلية. وبدون هذا الاستقلال في تقرير شؤون المصالح المشتركة يصبح تاريخ هذه المصالح في المستقبل تاريخ مساومات سياسية واقتصادية دائمة بين الحكومتين، تؤدي إلى نزاع متواصل يعكر صفاء العلاقات بين أفراد الشعب ويهدد بشلّ عمل المصالح المشتركة وعرقلة التقدم الاقتصادي فيهما. وإنّ تنظيم هذه المصالح وإيجاد مؤسسة دائمة لها، أمران ضروريان لضمان استقلال لبنان والشام وتأمين تقدم أفراد الأمة.
وإذا حلَّننا عمل الهيئة التي ستتولى شؤون المصالح المشتركة، نجد أنه يتألف من عملين: أولهما تقرير السياسة والمشاريع، كوضع الرسوم الجمركية على بعض المنتوجات لحماية الصناعة الوطنية مثلاً، وثانيهما إدارة وتنفيذ المقررات المتخذة كتطبيق الرسوم الجمركية وتحصيلها من مستوردي المنتوجات الخاضعة للرسوم.

الاقتراح الذي يقدمه الحزب

فالحزب السوري القومي، تجاه هذه الوضعية، يقترح تنظيم المصالح المشتركة على الوجه الآتي:
إنشاء مجلس للمصالح المشتركة مؤلف من ممثلين للحكومتين اللبنانية والشامية متساوين في العدد. وإنشاء دوائر تنفيذية للمصالح المختلفة، كدائرة الجمارك ودائرة مراقبة السكك الحديدية مثلاً، وتكون هذه الدوائر خاضعة للمجلس تنفذ قراراته وتكون مسؤولة لديه. ويكون للمجلس سلطة تقرير سياسة المصالح وإدارتها نهائياً بدون أن تعرض مقرراته لموافقة كل من الحكومتين، كما يناط به توزيع واردات المصالح المشتركة بين الحكومتين على نور الإحصاءات والتطورات الاقتصادية.
وحتى يكون لهذا المجلس الاستقلال التام في مقرراته ولكي تكون قراراته مستمدة من الشعب ومتخذة لمصلحة الشعب، عليه أن يكون منتخباً من كل من البرلمانين في البلدين في أول دورة يعقدانها ولمدة من السنين مساوية لمدة البرلمانين المذكورين.
وهذه الطريقة في انتخاب أعضاء مجلس المصالح المشتركة تجعل سلطته مستمدة بطريقة غير مباشرة من الشعب، وتجعله مستقلاً عن التقلبات السياسية والضغط الاقتصادي والسياسي المنافي للمصلحة العامة، وتجعل قراراته موافقة لمصلحة الحكومتين معاً بقطع النظر عن المصالح المحلية الضيقة.

هذا هو النظام الذي يكفل للمصالح المشتركة إدارة دقيقة منظمة تتفق ومصلحة البلاد بأجمعها. وعلى المتفاوضين أن لا ينظروا إلى المصالح المحلية الضيقة في مفاوضاتهم، بل عليهم أن ينظروا إلى المصلحة العامة فيتفقوا على نظام قابل للحياة ومؤمن للتقدم الاقتصادي وللتطور السياسي للبلاد السورية بأجمعها. وعلى الشعب أن ينتبه إلى مصلحته فلا يرضى بأي اتفاق معوج يخلق للبلاد المشاكل في المستقبل ويقضي على أماني هذه الأمة الواحدة، المعرّضة في هذه الظروف المعقدة لأخطار كثيرة محدقة.

النهضة، بيروت
العدد 84، 25/1/1938

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى