ميت ينعي حياً


كل من قرأ وتتبّع موقف الزوبعة من إيليا أبي ماضي يجد بما لا يقبل جدلاً أننا كنا صبورين غاية الصبر على ألاعيبه وخزعبلاته وأننا لم نرَ أن نوقفه عند حده إلا حين أظهر الوقاحة وأبدى السفاهة من وراء برقع شفاف من الألفاظ المتناسقة.
ومع أنّ ردنا على تحامله لم يقفل كل باب يسمح بعودة هذا الصحافي إلى الرصانة والتأدب فإنه أبى إلا الاندفاع مع غروره. فترك كل ناحية من نواحي النقاش والمناظرة الأدبية وتمسك بالوجهة الشخصية. فأخذ يقيس طوله وعرضه ويعدّ سنيَّ حياته ليُظهر نفسه بمظهر الكبير.
واستند إلى هذا المظهر الخداع ليهوّل علينا وعلى قرّاء جريدته وليندفع في السباب والسّفه، فأخذ يطعن طعناً خفياً، شأن كل عاجز جبان، في الزوبعة وسورية الجديدة وفي الحزب السوري [القومي]، متخذاً لغة صبيان الأزقة سلاحاً.

فأدى ذلك إلى صدور مقالة من قلم إنشاء هذه الجريدة صدر في العدد 28 بعنوان «مخرقة غلام كبير» (انظر ج 4، ص 272) كشفت عن المطاعن اللئيمة التي أطلقها أبو ماضي على جماعة تتحداه أن يبرز لها قولاً أو عملاً موثوقاً يبرّر إطلاقه عنان سفهه في الطعن فيها. وقد جعل قلم إنشاء الزوبعة ذاك المقال آخر ما تقوله في الموضوع الذي فتحه. ذلك لأن هذه الجريدة مخصصة لدراسة القضايا التي تهم نهضة أمة، وليس للمهاترة التي أراد أبو ماضي أن يجرّها إليها.
ولولا وجود مبرر في القناع الأدبي الذي أسبله محرر السمير على تحامله على صاحب أبحاث «جنون الخلود» العالية القيمة الأدبية والعلمية، وبعض أقواله التي يمكن أن تفتح موضوعاً أديباً بما عرض له من تحديد الشعر والشاعر، لما رأت الزوبعة أن تأبه لمطاعنه السافلة البعيدة عن كل صبغة علمية أو أدبية.

والظاهر أنّ انفضاح أدب إيليا أبي ماضي التقليدي المزيف أوقعه في عارض جنون حمله إلى أحط دركات السفولية. ومن ظواهر هذا العارض أنه ما كاد يطّلع على مقال الزوبعة المذكور حتى أخذته الرجفة وتولاه الخبال، فانعكست في نظره الأمور، وانقلبت القيم رأساً على عقب، حتى توهم أنّ الأموات إذا نعوا الأحياء صار هؤلاء أمواتاً. فنشر في عدد جريدته الصادر في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في يومياته القبيحة، كلمة نعى بها جبران مسوح في أدبه وحاول أن يصبغه بصبغته هو. فكان ذلك أحقر حيلة ليستر فضيحته الأدبية.

وكان الرفيق جبران مسوح قد غادر بيونس آيرس، عملاً بمقتضيات صحته التي تعرضت لتكرار عوارض كانت تنتابه من قبل.
ونشرت الزوبعة خبر سوء صحة الرفيق مسوح في عددها الصادر في الخامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي قبل صدور عدد السمير المذكور بيوم، وقبل وصوله إلى بيونس آيرس بشهر. ولكن جنون أبي ماضي أفقده مقدرة القياس وحساب الوقت. فما كاد يتسلم عدد الزوبعة المشار إليه حتى رأى أن يستغل خبر مرض جبران مسوح الذي أوجب تقيده بشروط حمية دقيقة.

فكتب في عدد جريدته الصادر في الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الأخير مقالاً أراد إيهام قرّائه فيه أنّ مرض الرفيق مسوح كان من عظيم وقع نعي ميت أدبي لولادته القومية وأنّ كلمة هذا الأديب الميت المسمّى إيليا أبي ماضي هي التي زلزلت صحته. ومن مضحكات هذا العارض الجديد لأبي ماضي أنه طلب في آخر مقاله الحقير الأخير أن يتعظ الناس بحادث مرض جبران مسوح!

ولكي لا نحرم الأطباء الاختصاصيين بالأمراض العقلية الذين قد يتولون قريباً فحص نفسية أبي ماضي أدلة تعينهم على تعيين مقدار اختلال عقله، نورد هنا بعض الأرقام التي تتكفل بإثبات الفضيحة السافلة الجديدة المتعلقة بجنونه.

يدّعي أبو ماضي أنّ الطارىء الصحي لجبران مسوح الذي أشارت إليه الزوبعة كان بسبب اطلاعه على الكلمة السفيهة التي ينعي بها أبو ماضي ولادة مسوح الجديدة. ولكن هذه الأرقام التاريخية تكذّب أبا ماضي وتزيد في فضيحة أدبه المزيف:

1 ــــ حدث الطارىء الصحي للرفيق جبران مسوح في أواسط شهر سبتمبر/أيلول.

2 ــــ زالت الأزمة الصحية في أواخر شهر سبتبر/أيلول.

3 ــــ برح جبران مسوح بيونس آيرس إلى توكومان بين أواخر سبتمبر/أيلول، وأوائل أكتوبر/تشرين الأول.

4 ــــ في 15 أكتوبر/تشرين الأول صدر في الزوبعة خبر الطارىء الصحي وسفر الرفيق مسوح إلى توكومان بعد زوال الطارىء.

5 ــــ في 16 أكتوبر/تشرين الأول نشر أبو ماضي نعيه القبيح.

6 ــــ في 13 نوفمبر/تشرين الثاني نشر أبو ماضي آخر شعوذة من شعوذاته وادعى أنّ ما كتبه عن جبران مسوح في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول قرأه هذا الأديب في أواسط سبتمبر/أيلول، أي قبل كتابته بشهر.


والظاهر أنّ أبا ماضي، لعظيم خباله، صدّق أنّ أبا العلاء المعرّي لم يكن إلا ناقلاً عنه، قبل عدة قرون، ما يخطه قلمه في هذه الأيام وأنّ أنطون سعاده يقتبس قبل سنين ما يكتبه أبو ماضي بعد سنين! وعلى هذا القياس فلا بدّ أن يكون جبران مسوح قد قرأ أفكار أبي ماضي السفلية قبل إعلانها بأشهر!

ولكننا نطمئن أبا ماضي أنه وإن صحّت هذه القاعدة، وانقلب العالم رأساً على عقب، فصارت السماء تحت والدنيا فوق، فإن صحة جبران مسوح بخير بين أهله وبرفقة رفقائه القوميين الذين عاد إلى الكتابة لهم وإليهم. وفي كتاب تسلمته إدارة الزوبعة منه، وتاريخه العاشر من ديسمبر/كانون الأول الماضي، يقول:

«وصلتني اليوم أعداد السمير، ولا أعلم إذا كانت وصلت أيضاً إليكم، رأيت في أحدها قطعة ضدي قصصتها وأرسلتها ضمن هذا الكتاب لتروا السلاح الذي يحارب به أبو ماضي. ولكن لماذا نستغرب فكل اللاقوميين لا يوجد لديهم غير هذه الأسلحة».

إنّ جبران مسوح قد مات عند الأموات وولد عند الأحياء. وهو لا يأبى أن ينعيه أولئك الذين وُجد بينهم، ولم تكن نفسه منهم ففقدوه، ليبشّر به هؤلاء الذين نفسه من جنس نفوسهم، وكان مفقوداً من وسطهم فوجدوه.

أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،

العدد 37، 1/2/1942

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى